64

Afkar Wa Rijal

أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي

Genres

ومع ذلك فإن هذا القول بعينه يشير إلى الطريق، إلى وجه من أوجه الجماعية المسيحية؛ فالناس جميعا في الحياة المسيحية الصادقة وحدة، وليست الجماعات الثانوية إلا انحرافات، بل هي أسوأ من ذلك؛ فهي اتجاه نحو الذات المحبة لنفسها. والمهم أن يتجنب الفرد كل ضروب الانتصار على الآخرين، وكل نجاح على أساس المضاربة، وكل أمر من الأمور التي تثير ذاته وتزيد من حدتها. وكما أن المسيحية - باعتبارها ديانة عظمى في هذه الدنيا - وبخاصة في صورتها الكاثوليكية، لم تبالغ قط في الزهد، فكذلك نجد أنها لم تبالغ قط في إبادة الذات الفردية. إن الأفراد المتنافسين قد اعترفوا بالمسيحية في هذه الدنيا بنجاح تام. وحتى نابليون كان مسيحيا بالاعتراف. ولكن المثل الأعلى لإنكار الذات كان - برغم هذا - قائما. إن المسيحية تحاول أن تروض الجموح الشارد في الروح الإنسانية المتنافسة، وتحاول أن تخضع حب التسلط الذاتي، والتوحش، والزهو، والكبرياء. وغير ذلك من مظاهر «الإنسان الطبيعي»، وهي مظاهر لا تثق بها كما لا تثق بشهواته الأبسط في الطعام، والشراب، والجنس.

وثمة نغمة ثالثة في المسيحية، ليست إلا الوجه الآخر من انعدام الشعور بالذات؛ فليس من واجب المسيحي أن يخضع ذاته فحسب، إنما ينبغي له كذلك أن يفتح قلبه بالمحبة والرحمة لكل زملائه. وكثيرا ما كان العقليون المحدثون يصعقون عندما يعرفون أن بعض المسيحيين يحرقون، ويسجنون، أو - إن لم يفعلوا ذلك - يكبتون زملاءهم الذين يختلفون معهم في الأمور التي تتعلق بأصول الدين. كان العقليون يصعقون لذلك حتى لقد رفضوا أن يستمعوا إلى نغمة الحب (أو الإحسان) هذه في المسيحية، ولكن الحب قائم، والمسيحية بدونه لا تتم. وليست هذه النغمة هي بعينها التي نسميها اليوم الإنسانية العاطفية. وهي ليست نغمة الإشفاق بصوره المختلفة: على المجرمين، والعاجزين، والفاشلين، وكل أولئك السفلة الذين نتعرف إليهم بين المصلحين الصليبيين من أي نوع من الأنواع، وذلك لأمر واحد، وهو أمر هام؛ ذلك أن المسيحي يجب عليه أن يحب السفلة كما يحب العلية، وهو واجب يبدو أن أكثر الإنسانيين الدنيويين لا يقرونه. إن الرحمة الممزوجة بالمحبة - بكل ما لها من علاقات بالعواطف الرقيقة - فيها مسحة من الشدة، ومن الاستسلام، والخضوع في وجه عالم لا يتشكل كله بإرادة الإنسان؛ لأن المسيحي ينظر إلى الخطيئة كأنها حقيقة، ولا بد له من العفو عن المذنب، ولا بد له من الإشفاق عليه، أو لا بد له في الواقع أن يحب المذنب بشكل ما. ولكنه لا يحب المذنب لذنبه، وهو إذ يمقت الذنب لا بد له أيضا من أن يمقت المذنب بشكل ما. وفوق هذا كله لا ينبغي له أن يعتبر الذنب وهما، أو نتيجة لبيئة مادية واجتماعية سيئة فحسب، أو نتيجة لعوامل إنسانية بحت. فالرحمة الممزوجة بالمحبة عند المسيحي إذن لا يمكن أن تكون تفاؤلا عاما فيما يتعلق بكمال الإنسان، ولا يمكن كذلك قط أن تكون محض إنسانية.

ونغمة رابعة تسري في المسيحية، هي انعدام ثقتها بضروب معينة من التفكير. وهنا نلتقي بصعوبات تتعلق بمعاني الألفاظ، كما نلتقي بالصعوبات العادية فيما يتصل بمدى التفكير المسيحي وعالميته. إن المسيحية ليست ضد الفكر بمعنى مبسط؛ فلقد رأينا من قبل أن أصولها الدينية بناء عقلي على كثير من الدقة والتعقيد. وسوف نرى أن المسيحية المنظمة لما بلغت أوجها في العصور الوسطى أولت العقل تقديرا كبيرا. ولكن المسيحية كانت دائما تعدم الثقة في نوع التفكير الذي تسميه اليوم «التعقل»، وكانت دائما تخشى أن يستبعد العقل البشري بتفكيره عنصر ما وراء الطبيعة. ومن ثم فإنه وإن يكن من الظلم الفاحش للمسيحية أن نقول إنها كانت دائما تقف في وجه الحرية العقلية الكاملة، ومن الظلم الفاحش أن نقول إن العلم الحديث قد تطور رغما عما في المسيحية من غموض، أقول إن كان هذا أو ذاك من الظلم، إلا أن في كلا هذين الحكمين المتطرفين مسحة من الصدق؛ فالمسيحي - على أقل تقدير يجب عليه عند نقطة معينة أن يبدأ في الإيمان بما لم تقم الدليل عليه تجربته الحسية، وأدواته، وعلمه. والواقع أن المسيحي يرى في العقل المحض تقريرا من المتعقل لذاته غير مستحب، أو ربما يرى فيه إثما أسوأ من تقرير الذات الذي يبديه الرجل الحسي أو المتظاهر. إن الرجل الطبيعي يستطيع أن يفكر كما يستطيع أن يشتهي. ولا يستطيع أن يكون ذا إيمان إلا الرجل الروحاني، ولا يستطيع غيره أن يملك «مادة الأمور التي يضع فيها آماله، والدليل على الأمور التي لا ترى»؛ لأن المسيحية خلال عصورها كلها آمنت إيمانا ثابتا بوجود الله. وهذا الكون في نظر المسيحي مشكلة في نهاية الأمر - مشكلة عقلية، كما هي مشكلة خلقية وعاطفية. وهناك إله لا يجد مشكلة في أي أمر من الأمور، إله - إذا أجزنا لأنفسنا أن نستخدم في وصفه تعبيرا بشريا - يفهم الكون. وليس بوسع الناس أن يضعوا أنفسهم في مكان الله، وهم لا يستطيعون ذلك قطعا بنوع النشاط الذي يألفونه في علاقاتهم اليومية بعضهم ببعض فوق هذه الأرض. وإنما يستطيعون عن طريق تدخل الإله تدخلا حرا معجزا أن يكتسبوا - بلون آخر من ألوان النشاط. نوعا من الوثوق يتجاوز ما نسميه المعرفة.

يستطيعون أن يكونوا على ثقة - وإن كانوا لا يستطيعون أن يعرفوا كما يعرفون مثلا أن شجر البلوط ينمو من جوزة البلوط - من أن الله موجود، وأن الكون ليس بالمكان المحير، أو حتى المعادي، كما يبدو للرجل حينما يفكر، أو يدبر، أو يساوره القلق، وأن الكون حقا قد خلق للإنسان ولقصة خلاصه. ونوع النشاط، وحتى «النشاط» هنا كلمة يشك في استعمالها من ناحية الأصول الدينية، الذي يصل الناس عن طريقه إلى الوثوق، يجب أن يكون له اسم من الأسماء - على الأقل كأنواع النشاط البشري الأخرى، ما دمنا نحن البشر مرتبطين بالألفاظ بدرجة ليس منها مفر. هذا النشاط نسميه «الإيمان» وهو ليس بالتفكير، أو الشعور، أو أي شيء آخر يستطيع السيكولوجي أو الفسيولوجي أن يحققه في معمله، كما لا يستطيع الكيموي في معمله أن يحقق معجزة العشاء الرباني.

المسيحي إذن يتشبث بوجود الله، ويثبت على الاعتقاد بأن هذه الدنيا، دنيا الحواس، ليست بالكون كله، ولكن المسيحية - وهذه هي النغمة الأخيرة التي سوف أطرقها - تعزو إلى عالم الحواس أهمية عظمى، ودرجة كبرى من الواقعية؛ فهذه الدنيا هي المكان الذي يمتحن فيه المرء لدخوله في العالم الآخر. إن إيمان المسيحي الذي جاهدنا فيما سلف أن نفصل فصلا تاما بينه وبين أنواع النشاط البشري الأخرى، يعلمه أن أنواع النشاط الأخرى هذه لا غنى عنها لخلاصه، وأنه لا بد من إحكام قيادتها هنا في هذه الدنيا. إن المسيحي الطيب رجل طيب، وأقصد أنه طيب بالمعنى الذي أوضحه رجال الأخلاق من الإغريق والعبرانيين وضوحا تاما.

ولكن المسيحي - فوق هذا - يريد غيره من الناس أن يكون طيبا. إنه يريد أن يجعل هذا العالم الناقص أقرب ما يكون إلى ذلك العالم الكامل الذي يحدثه عنه إيمانه.

إن المسيحية عقيدة مصلحة جدا من الناحية الخلقية، وهي - كما سوف نرى بالتباين عندما نبلغ العقيدة المتفائلة في الكمال الإنساني الذي نادى به أسلافنا في عصر النور في القرن الثامن عشر - عقيدة متشائمة من عدة نواح، ليس لديها أفكار محسوسة خاصة بها تتعلق بالتقدم في هذه الدنيا، في حين أن لديها أفكارا محددة جدا بشأن هذه الدنيا باعتبارها، واديا لا بد أن تسيل فيه الدموع. ومع ذلك فقد كانت المسيحية قبل القرن الثامن عشر بوقت طويل، وقبل ظهور نظريات التقدم أو التطور والإيمان بها بوقت طويل أيضا، ديانة مصلحة من الوجهة العملية، يهمها أن تجعل هذه الدنيا مكانا أفضل للبشر، مكانا أكثر سلاما، وأكثر رفاهية، وأكثر ودا، وأكثر رقة مما هو. كانت المسيحية تؤمن بالإصلاح، إن لم تؤمن بالتقدم الحتمي.

وبالرغم من أن التواضع من أعظم فضائل المسيحية، إلا أن المثل العليا لأسلوب الحياة المسيحية تبدو «أرستقراطية» للناظر إليها من الخارج، وهي على الأقل أرستقراطية مثلما كان المثل الأعلى لأسلوب الحياة عند الإغريق؛ فإن ترويض شهوات المرء الكبرى، والقضاء بتاتا على الشهوات الأخرى التي لا تظهر ظهور الشهوات الحسية، كشهوة الشهرة، والثراء، والنفوذ، والموازنة الدقيقة بين العقل والإيمان، والعمل الثابت مع تصور العطف دائما نحو الزملاء حتى تكون هذه الدنيا مكانا أفضل؛ إن مثل هذا العيش لم يكن قط ممكنا للغالبية العظمى من الناس. ولكن المسيحي برغم هذا لا بد أن يأمل دائما أن يعيش الناس جميعا على هذه الصورة. وهنا نلمس الفارق الحقيقي بين المثل الرفيعة الشاقة التي سادت العصر الأعظم في تاريخ الإغريق، وبين مثل تلك المثل في المسيحية. إن الرجل المهذب الإغريقي - كما يتمثل في أرسطو - لا يأمل أن يرفع الجماهير إلى معاييره، ويكفيه أن يعدوا الأساس المادي الذي يمكنه من أن يحيا حياة الجمال والخير. أما «الرجل المهذب» المسيحي فلا يمكن أن يكون كذلك بالمعنى الذي اكتسبته هذه الكلمة في عصرنا، وهو المعنى المحدود الذي فيه شيء من التعالي. إنما هو يريد للعالم كله أن يكون مسيحيا. ولا بد له من أن يمد المعايير الأرستقراطية إلى مستوى ديمقراطي.

ونستطيع بصفة عامة جدا أن نقول إن «المسيحية» المنظمة - بروتستانتية وكاثوليكية - قد أنجزت ما كان قادتها يرونه توفيقا بينها وبين هذه الدنيا، دنيا اللحم والدم، وإنها لم تحاول أن تفرض الاتجاه نحو الزهد عنوة، أو تفرض إنكار الذات إنكارا تاما، أو حب الزملاء، أو تجاوز العقل المتحفظ في استعلائه وتصوفه، أو الرغبة القوية في القيام برسالة تطهير هذه الدنيا القذرة؛ فالمسيحية خففت وطأة الريح على الحمل الذي جذ شعره، بل وخففت قطعا. باعتراف خصومها - وطأة الريح على راعي الحمل. أي إن الكنيسة قد قبلت عالم الغني والفقير، والقديم والمذنب، كما هو، ولم تتطلع إلى أكثر من أن تبقى الأمور على أرض مستوية إلى حد كبير. أما مسيحية كل يوم، التي تخلو من البطولة، فقد تعرضت طوال القرون لنوعين من الهجوم: هجوم من الداخل، وهجوم من الخارج.

أما الهجوم من الداخل فمأتاه رجال ونساء يريدون أن يدفعوا المسيحية فوق هذا التوفيق مع اللحم والدم. وليس من شك في أن محاولة فهم التجربة المسيحية من الخارج بالطرق التاريخية الطبيعية، يشوه هذه التجربة. ولكنا يجب أن نتمسك بالتجربة الأخيرة؛ فمن ناحية من النواحي، وهي الناحية التي اخترنا هنا عمدا أن نسير وفقا لها، كان سنت فرانسيس الأسيسي، وكالفن ووزلي، ومسز ماري بيكر إدي - مهما اختلفت تجربتهم المسيحية الباطنية - مسيحيين هاجموا جميعا المسيحية الرسمية القائمة باسم مسيحية أنقى وأعلى في مثاليتها. وفيما خلا ذلك كانوا - بطبيعة الحال - أشخاصا مختلفين. وعملهم في هذه الدنيا شديد الاختلاف. ولكن نمط التفكير يجب أن يتضح؛ ذلك أن الكنيسة في لحظة معينة من الزمان والمكان تبدو لأحد أعضائها غير مخلصة للمثل المسيحية؛ فهي تظهر كأنها تسمح للمسيحيين أن يزدادوا قوة وثراء، وتسمح لهم بارتكاب الزنا، وتسمح لهم بالتخمة والكبرياء، وأن يكونوا عاديين، ما داموا يرودون الكنيسة. وهذا ما لا يطيقه الثائر ؛ فهو يعود إلى المسيح، ويطهر المسيحية من انحلالها، ويحث العامة من الرجال والنساء أو يوحي إليهم أن يأخذوا دينهم مأخذ الجد.

Unknown page