وإنما يبدو لنا اليوم النقص في هذه الديانة بعد قرون عديدة من التجارب؛ فلم تكن ديانة فيها عزاء كاف. ولعلها كانت تكفي الراضين، والناجحين. ولكنها للخاسرين، وللفاشلين دائما، لا تكاد تقدم شيئا - حتى ولو كان تفسيرا مرضيا لما أصابهم من فشل. إنها لم تعد بالمثوبة في حياة أخرى تعوض الآلام التي يكابدها المرء في هذه الدنيا، وإذا منيت المدن الحكومية بالفشل السياسي والاقتصادي، وإذا ازداد عدد الأفراد الذين يجدون أن الآلهة - على وجه العموم - لم تمنحهم ما في هذه الحياة من أشياء طيبة، الأشياء التي تقيم لها الثقافة العظمى وزنا كبيرا - إذا حدث هذا تحتم على الفرد العادي من الأحياء أن يلتمس في مكان آخر الرضا الذي لم تمده به آلهة الأولمب.
ولم تكن هذه الديانة الرسمية الأولمبية تخلو من جنة واضحة وجحيم واضح فحسب، ولكنها كذلك لم تقدم في الحاضر نوعا من الرضا، يشق وصفه، ولكن ربما كان خير تعبير عنه أن نقول إنه المشاركة في الغبطة الدينية. وشكل من أشكال هذه الغبطة، يكفي لأن نعرف الأمريكان بها تعريفا تقريبيا، هو ذلك النوع من السلوك الذي نربط بينه وبين «حركة الأحياء الإنجيلية»، أو اجتماعات المعسكرات، أو الجماعات الدينية المقدسة. وليست بنا هنا حاجة إلى أن نبحث عن مدى تهذيب هذه الغبطة، أو نبلها، في بعض الديانات. والمهم هنا هو أن نذكر - بقدر ما نستطيع الحكم - أن مثل هذه الغبطة لم يصدر عن الخدمات المدنية الموقرة التي كانت تؤدى تكريما لآثنا، أو عن الألعاب التي كانت تقام تكريما لزيوس: نعم كانت هناك إثارة، وكان هناك شعور لا يختلف كلية عن المشاعر التي نحسها نحن الأمريكيين يوم 4 من يوليو. ولكن لم تكن هناك غبطة دينية معينة، ولم تكن هناك «جلالة».
وأخيرا، بدأت هذه المجموعة من الحكايات عن الآلهة تبدو للكثيرين عبثا من الناحية العلمية، وشيئا يصدم المرء من الناحية الخلقية؛ فقد كان زيوس - على سبيل المثال - يتخذ شكل الإوزة العراقية لكي يتبادل الحب مع ليدا، وهي من النساء الحيات. ومن لقائهما ولد المحاربان التوءمان كاستور وبولكس.
ونحن اليوم نرى أن العمليات البيولوجية التي تنطوي عليها هذه القصة تبدو لبعضنا أمرا غير عادي إلى حد ما. ولكنك حتى لو استطعت أن تقبل قصة ليدا والإوزة باعتبارها معجزة، أو حادثا خارقا للتاريخ الطبيعي، فإنك برغم ذلك تحس - كما أحس سقراط وأفلاطون - أن الغواية والزنا شين لا تليق بالآلهة. وليس بالإمكان أن نزن في هذا التاريخ الذي بلغناه التأثير النسبي لهاتين الطريقتين: العلمية والخلقية، عندما نسبر غور الديانة الأولمبية. وربما كان الرجل المتعلم العادي متأثرا بالطريقتين، ومع ذلك فإن هذا النقد العقلي العام ربما يتغلغل كثيرا بين السكان، حتى في أثينا، عندما حل عام 400ق.م وكان القذف في الدين - أو الشك في الديانة القائمة والتعبير عنه صراحة - أحد المبررات التي من أجلها حكم على سقراط بالموت.
وإذن فإن ما يجده المرء عند نهاية عصر الإغريق الأعظم هو تلك الديانة التقليدية التي وصفناها، مع خلافات كثيرة محلية، وقد استقرت عقيدة عند جمهرة الإغريق. كما يجد المرء - بوجه عام - نوعين من الانحراف عن هذه الديانة التقليدية، أو نوعين من تطورها: النوع الأول هو الفلسفي الذي نعرف عنه الكثير، والثاني هو العاطفي أو الصوفي الذي نعرف عنه قدرا أقل، والذي ربما كان أكثر أهمية.
ونحن نجد منذ العهود القديمة جدا إشارات مبعثرة فيما كتبه الإغريق إلى مراسم الجماعات، أو مذاهبها، التي تدخل في النطاق الواسع جدا للديانة التقليدية. ويبدو أن في هذه المذاهب عناصر عاطفية معينة لا تتوفر في الديانة، أو تتوفر فيها بدرجة طفيفة. والموضوع شديد التعقيد، وقد أجريت فيه مباحث عديدة، وليس بوسعنا هنا إلا أن نذكر أن هذا الضرب من «الألغاز» يرتبط بدميتر، إلهة النمو، وقوى الحياة، أو يرتبط بديونيسس، أو باكس، إله الخمر، أو بأورفيس الموسيقي الأكبر الذي سحر حتى إله العالم السفلي. أما إلى أي حد كانت تقوم هذه المذاهب على الآلهة الأجانب، أو على ثقافة مستوردة من الشرق، وأما إلى أي حد كانت هذه المذاهب بقايا عبادة بدائية جدا، هي عبادة قوى الأرض، وإلى أي حد كانت هذه المذاهب نموا مستقلا في بلاد اليونان المتمدنة، أما هذا وذاك فهو من المسائل التي يختص بها جدل الباحثين. ويبدو أن كل المذاهب كانت تتوافر فيها عناصر لم تتوافر في الديانة الأولمبية، أو اشتقت منها بعد تهذيبها.
وقد وعدت هذه المذاهب خاصة لمعتنقيها نوعا من الخلود الشخصي الحقيقي. وكانت «الأورفية» في الواقع تبشر بمبدأ تناسخ الأرواح. وصاحب هذا المبدأ شيء شديد الشبه بفكرة الخطيئة الأولى، وتطابق الخطيئة مع المادة، أو حياة الحواس، الحياة في هذه الدنيا. وإذا كانت الروح لا تستطيع التخلص من الجسد - طبقا للأورفية - فقد حكم عليها بدورة أبدية من التناسخ، ومن الآلام تبعا لذلك. غير أن المرء إذا أخذ بألغاز الأورفية، فإنه يستطيع بهذا التحول أن ينجو من هذه الدورة، وأن يخلص روحه لحياة أبدية في النعيم، ولسنا نعرف على وجه الدقة أي الطقوس والعبادات يلزم لتحقيق ذلك، وأي نوع من التدريب المتواصل على هذه الأرض - فوق كل شيء - يلزم لأن يجعل هذا الخلاص أكيدا، ويقول الخصوم من النقاد إن الأورفية لم تكن إلا لونا من ألوان السحر، خلوا من الأفكار الخلقية الرفيعة، وأن معتنقها يظفر بالخلاص بترديده عبارات معينة، وبتطهير نفسه بالطقوس، وبدفع المال للكهان. ولكن هذا الضرب من الجدل المعادي للعقائد يظهر دائما في تاريخ كل دين.
ثم إن هذه المذاهب فيها فكرة الإله الذي يموت ويبعث، فيبرهن بذلك للمؤمنين على أن الموت يخدع، وأن خلود الفرد موجود بغض النظر عن ظاهرة الموت والجسم يموت، ولكن الروح تخلد - إذا كنا قد جعلناها جزءا من روح الله. وهذه المطابقة بين روح الإنسان والإله الخالد تتم باعتناق المذهب وتبقى بممارسة الطقوس. ثم إننا لا نعرف على وجه الدقة تفصيلات هذه الحفلات، ربما أحس عبدة «باكس» عندما يبلغون قمة الغبطة الدينية أنهم أصبحوا هم أنفسهم «باكس». وكان المؤمنون يأكلون الوجبات التي أعدت للحفلات، وربما أحس بعضهم وهم يتناولون هذه الوجبات أنهم يأكلون لحم إلههم، فيكتسبون بذلك في بساطة تامة وبطريقة مباشرة قوته الخالدة.
قلنا إن الديانة الأولمبية لا تشجع العبادات، بل ولا تسمح بها، أما مذاهب الألغاز فهي تشجعها وتسمح بها صراحة. بيد أن تفصيل ذلك مضطرب متناقض. ولكن من المؤكد أن معتنقي هذه المذاهب كانوا قادرين على أداء جانب كبير من الحركات المثيرة والتوتر العصبي بالمشاركة في الطقوس؛ فكان المؤمنون المخلصون لباكس يرقصون حتى درجة الجنون. ومع ذلك فإن عبادة باكس ذاتها لم تكن لمجرد إلهاب الأعماق الدنيا من الطبيعة البشرية. وإذا أخذنا بكلية الكاتب المسرحي يوربيديز - الذي لم يكن بالتأكيد من معتنقي أي مذهب من المذاهب، والذي ربما كان عنده تشكك العقليين في الغبطة الدينية - فإن أولئك الذين كانوا يسعون إلى باكس إنما كانوا يلتمسون الطمأنينة التي تلتمسها كل الديانات العليا. وفي نشيد مشهور في مسرحية «الباكيون»
The Bacchae
Unknown page