على أن هذا العصر، في تفضيله للنزعات المتعلقة بالدنيا على الروح الزاهدة، لم يكن على الإطلاق عصرا لا دينيا، وكل ما في الأمر أنه كان مضادا لسلطة الكهنوت والكنيسة الرسمية بقدر ما كانت تضع قيودا على نشاط الإنسان في استغلال العالم المحيط به، وترتب على ذلك أن الدين أصبح ينظم العالم الداخلي الباطن للإنسان. أما العالم الخارجي فإنه يترك للإنسان حرية التصرف فيه، ولا يتدخل في أفعاله الظاهرة. وكان ذلك عاملا ساعد على إطلاق طاقات الإنسان الأوروبي بعد أن كانت أحكام الدين تتدخل حتى في أبسط ما يقوم به من أفعال، وتنظم كافة مظاهر سلوكه وفقا لمبدأ الزهد والانصراف عن شئون الحياة. (5)
على أننا نستطيع أن نقول: إن أبرز السمات التي تميزت بها المرحلة الرأسمالية المبكرة عن المرحلة الإقطاعية السابقة عليها تميزا قاطعا، كانت الاعتراف بالسيادة المطلقة للعقل، والتخلي عن كل النزعات اللاعقلية التي كانت تسود العصر السابق. ولا شك في أن عنصر التعامل النقدي - الذي أشرنا إلى أهميته من قبل - كان مرتبطا بهذا الإعلاء من شأن العقل؛ إذ إن التعامل النقدي يتسم - كما بينا - بأنه تجريدي لا شأن له بالعوامل الشخصية، وتلك بدورها سمة هامة من سمات التفكير العقلي الذي يترك المحسوسات جانبا ليتعامل مع المجردات، فضلا عن أنه لا يعمل حسابا للانفعالات والمشاعر الشخصية، وكلما تمكن من التخلي عن العوامل الذاتية كان أقدر على أداء وظيفته الحقة. وفضلا عن ذلك فإن التعامل النقدي وما يرتبط به من حسابات مالية ومصرفية معقدة، يحتاج إلى تقدم في التفكير الرياضي العقلي؛ ومن هنا لم يكن من المستغرب أن تحرز الرياضيات في ذلك العصر تقدما كبيرا بالقياس إلى فترة الركود التي مرت بها منذ انقضاء العصر اليوناني القديم.
ولقد كان من الضروري للتاجر - ثم لصاحب المصنع فيما بعد - أن ينظر إلى كل الظواهر على أنها قابلة للتنبؤ وللحساب الدقيق؛ بحيث يرى العالم كله كما لو كان مصنعا آليا ضخما يمكن حساب كل ما يجري فيه من عمليات. وكانت تلك القدرة العقلية على حساب التفاصيل والتنبؤ - على أساس مدروس - بتطورات الأحداث جزءا لا يتجزأ من تكوين رجل الأعمال الناجح في ذلك العصر، بل لقد كانت الواقعية الصارمة صفة لا بد منها لمثل هذا الرجل، ولم تكن الروح المكيافيلية إلا تعبيرا صادقا عن أخلاق العصر الرأسمالي الأول، وعن القيم العقلية السائدة فيه. كما أن قصة مثل «دون كيخوته» لم تكن بدورها إلا تأكيدا - لا يخلو من مرارة - لانقضاء عهد الفرسان النبلاء المؤمنين بقيم الشهامة والبطولة الفردية، وظهور عالم واقعي صارم يحسب كل شيء فيه بحساب العقل الموضوعي الدقيق.
ولم يكن من الممكن أن يصمد في المنافسة الحادة التي أصبحت تميز ميدان الأعمال الاقتصادية، إلا من توافرت له صفات الذكاء الفردي والمهارة والصرامة والقدرة على التوقع واستباق الحوادث. أما الصفات المكتسبة من الحسب والنسب والمزايا الوراثية فلم تعد تجدي نفعا، وهكذا فإن وزن الأمور كلها بميزان العقل الدقيق - بغض النظر عن أي اعتبار شخصي - أصبح هو السمة التي ينبغي أن تتوافر في الإنسان كيما يتحقق له النجاح.
بل إن الحروب ذاتها قد اصطبغت بهذه الصبغة العقلانية اللاشخصية، فقد كان حلول المدفع محل السيف تعبيرا رمزيا عن الانتقال من عصر شخصي إلى عصر عقلاني صارم؛ لأن القتال بالسيف قتال بين شخص وآخر، أو بين إنسان وإنسان، على حين أن المدفع يصيب دون التحام مباشر بين أشخاص، ولا يميز في الإصابة بين إنسان وآخر، بل لا يعرف من الذي يصيبه، ولو أمعنا الفكر قليلا لتبين لنا وجود نوع من التوازن بين الانتقال من التعامل العيني بالسلع إلى التعامل النقدي المجرد، أو من إنتاج الثروة في مزرعة يملكها سيد إقطاعي إلى مصنع يعمل فيه عمال لا تربطهم بصاحب العمل أية صلة شخصية، وبين التحول الذي أشرنا إليه في أساليب الحرب من السيف والدرع إلى المدفع والبارود. (6)
ولقد كان العلم بدوره يقوم بدور حاسم في تأكيد هذه النظرة الموضوعية إلى الأمور؛ بحيث يمكن القول: إن الكشوف العلمية الحديثة قد أرست الأساس العقلي الذي تستطيع الرأسمالية الناشئة أن ترتكز عليه، في نفس العصر الذي نتحدث عنه حدث تحول في العلم لا يمكن تجاهل سماته التي توازي سمات التحول الاقتصادي، فقد بدأت الرياضيات تقوم بدور هام، لا في المجال العلمي فحسب، بل في مجال الحياة اليومية أيضا، وإذا كنا اليوم قد اعتدنا أن نعبر عن عدد لا حصر له من مظاهر حياتنا بالأرقام - كما في الإحصائيات التي تحدد مستوى التقدم الاقتصادي. وفي الحسابات التي تقوم بها في حياتنا الخاصة - فإن الأوروبيين في العصر الإقطاعي لم يكونوا يبدون اهتماما بالأرقام، بل لم يكونوا يهتمون حتى بتحديد أعمارهم بدقة، ونستطيع أن نلمس الفارق بين العصرين وبين العقليتين - بوضوح - إذا ما قارنا بعض العادات التي لا تزال شائعة في الريف المصري بعادات أهل المدن؛ ففي الريف لا زلنا نجد بعضا من كبار السن يصعب عليهم تحديد يوم ميلادهم، كذلك لا يقوم الزمن بدور أساسي في الحياة اليومية، وإنما تحدد المواعيد حسب «مغرب الشمس» أو «في العشية»، على حين أن ساكن المدينة يعمل حسابا للدقائق قبل الساعات، ولا يستغني عن الدقة الكاملة في جميع معاملاته.
وهكذا كان اكتساب عادات الدقة والانضباط من الصفات الضرورية في المرحلة الرأسمالية الجديدة. بل إن من المفكرين من يذهبون إلى أن العصر الرأسمالي قد بدأ منذ اللحظة التي اخترعت فيها «الساعة»: وذلك أولا لأن الساعة نموذج كامل للآلة الدقيقة التي تنظم حركاتها بنفسها؛ ومن ثم فهي النموذج الأول لحركة التصنيع الآلي في العصر الرأسمالي، وثانيا - والأهم - لأن الساعة أدت إلى تأكيد عادات الدقة والضبط والانتظام، وخلقت عالما ينظمه العقل، ويحسب كل شيء فيه حسابا دقيقا، لا عالما يخضع لإيقاع الطبيعة الخارجية أو الطبيعة الإنسانية الداخلية في تحديد المواعيد وتنظيم الأعمال.
ولقد كانت عادات الدقة هذه هي أول العوامل التي أدت إلى قيام الثورة العلمية الحديثة في أواخر القرن السادس عشر، وإلى التوصل إلى أساليب جديدة في البحث العلمي لم يكن للعصور السابقة عهد بها، فبفضل هذه العادات استطاع علماء الفلك - مثلا - أن يقوموا بحسابات دقيقة أدت إلى إحداث انقلاب كامل في نظرة الإنسان إلى العالم، ومثل هذا يقال عن علم الطبيعة (الفيزياء)، ثم الكيمياء فيما بعد، وغيرها من العلوم الحديثة.
ولو تأملنا مثلا واحدا، وهو النظرية الجديدة في علاقة الشمس بالأرض كما توصل إليها كبرنيكوس في القرن السادس عشر؛ لاستطعنا أن ندرك مدى التأثير المتبادل بين التحول في نمط التفكير العلمي والتحول في نمط الإنتاج الاقتصادي؛ ذلك لأن كبرنيكوس حين أكد أن الأرض هي التي تدور حول الشمس لا العكس، لم يكن يتحدى بذلك تراثا علميا يرجع إلى قرون كثيرة فحسب، بل كان يتحدى أيضا اعتقادا راسخا لدى الإنسان العادي، تؤيده حواسه وتجربته اليومية الملموسة؛ إذ لا يبدو أن هناك ما هو أكثر يقينا، بالنسبة إلى هذه التجربة، من أن الأرض ثابتة، وأن الشمس والكواكب الأخرى هي التي تدور حولها؛ ومن هنا لم تكن الثورة التي أحدثها كبرنيكوس ثورة في مجال علمي محدد فحسب، بل كانت أيضا ثورة في طريقة الإنسان الحديث في النظر إلى الأمور؛ أعني أنها كانت دعوة إلى عدم التقيد بالعوامل الشخصية والأحكام التي توحي بها إلينا التجربة اليومية، وتفضيلا للعقل الموضوعي الصارم على الآراء الذاتية، وإعلانا لانهيار النظرة الشخصية إلى الأمور وحلول النظرة العلمية - المبنية على الحساب الدقيق - محلها، وتلك كلها في واقع الأمر أمور تحققت، بطريقة تكاد تكون موازية تماما لهذه، في مجال الاقتصاد؛ إذ إن نمط الاقتصاد التجاري والرأسمالي الجديد كان يتصف، بالقياس إلى النمط الإقطاعي الزراعي بنفس النوع من الموضوعية ومن تجاهل الاعتبارات الذاتية والشخصية، والاعتماد على التنبؤ والحساب الدقيق بصرف النظر عن كل رأي شخصي أو شعور ذاتي.
على أن تقدم العلم لم يقتصر على الجانب النظري وحده. بل إن العلم أحرز تقدما كبيرا في الجانب التطبيقي أيضا. وكان التقدم التطبيقي دليلا على أن العلم أخذ يمارس وظيفته الاجتماعية على نحو أكمل. وقد تمثلت هذه النظرة إلى العلم بوصفه نشاطا يؤثر في المجتمع ويتأثر به، تمثلت بوضوح كامل في فكر الفيلسوف الإنجليزي «فرانسس بيكن»؛ ففي رأيه أن العلم يجب أن يزيد من سعادة الحياة الإنسانية، وألا يكون معرفة من أجل المعرفة فحسب. وكان يرى أن المخترعين والعلماء التطبيقيين هم الذين يحتلون قمة السلم الاجتماعي، لا الحكماء النظريون أو رجال اللاهوت. والواقع أن بيكن قد استبق عصر التكنولوجيا الحديثة عندما أكد أن المخترعات المرتكزة على العلم قادرة على تغيير حياة البشر، وعلى أن تضفي على العالم بأسره شكلا جديدا. وهكذا كانت لديه قدرة تنبؤية على الاستبصار بالعالم الذي سيأتي من بعده عالم التقدم التكنولوجي المتلاحق.
Unknown page