ففي كلتا الحالتين كان الانتقال ثوريا، يمثل التحول من مرحلة «ما قبل العلمية» في دراسة الظواهر إلى المرحلة العلمية الدقيقة. ولقد كان من أهم أوجه النقد التي وجهها البنائيون إلى المنهج التاريخي في دراسة الإنسان: التجاؤه إلى تعبيرات غامضة وعبارات إنشائية مطاطة، وعجزه عن التعبير عن الظواهر التي يتركها كلها تنساب في مجرى التاريخ دون أن نتمكن من إيقاف هذا السيل المتدفق من أجل دراسته بطريقة علمية منضبطة. (ب)
وفي كلتا الحالتين كان العلم يسعى إلى تجاوز المظهر الخارجي للظواهر، والنفاذ إلى حقيقة أو ماهية أعمق منها، تظل ثابتة مهما طرأ على الظواهر من تغيرات. ولا شك أن هناك شبها قويا بين المعادلات الرياضية التي أصبحت قوانين الطبيعة تصاغ فيها بعد انتقال العلوم الطبيعية إلى مرحلة التعبير الكمي عن الظواهر، وبين البناءات التي تظل ثابتة من وراء الأشكال المتعددة التي تتحقق من خلالها في المجتمعات المختلفة. وفي كلتا الحالتين يحتاج إلى الثوابت - من وراء المتغيرات الظاهرية - إلى نفس القدر من الجهد العقلي والقدرة على التجريد. (ج)
بل إننا نستطيع أن نهتدي إلى وجه شبه مباشر بين الحالتين، يتمثل في التجاء البنائية إلى نماذج رياضية - قد تكون جبرية وقد تكون هندسية - من أجل التعبير عن الأنساق الثابتة التي يتم التوصل إليها، ومعنى أن البنائية تحقق - بطريق مباشر - الانتقال إلى أسلوب التعبير الكمي في ميدان الدراسات الإنسانية، وهو الانتقال الذي حدث بالفعل في العلوم الطبيعية منذ أربعة قرون. (د)
وأخيرا، ففي كلتا الحالتين تتخذ الحقيقة طابعا لا زمانيا، فللقانون العلمي الرياضي أزليته الخاصة، بمعنى أنه يعبر عن حقيقة ضرورية وبالمثل يتسم البناء في ميدان العلوم الإنسانية بالأزلية، لا لأنه يعبر عن حقيقة مجهولة المصدر تظل ثابتة على مر الزمان، بل لأنه فيه ضرورة تماثل ضرورة القانون الرياضي؛ ومن هنا كان في وسعنا أن نقول: إن التساؤل عن المصدر الذي يأتي منه البناء هو - بمعنى معين - تساؤل ساذج؛ إذ إننا في حالة القانون العلمي الرياضي لا نتساءل عن مصدر المعادلة الرياضية، أو عن المصدر الذي فرض على الطبيعة تنظيما رياضيا ثابتا، وجعل لها قوانين ثابتة من وراء مظاهرها المتغيرة؛ ففي كلتا الحالتين ترجع الأزلية إلى الضرورة المنطقية قبل كل شيء.
وفي ضوء هذه الملاحظة نستطيع أن نفهم على نحو أفضل طبيعة الصراع المشهور الذي قام بين البنائية والنزعة التاريخية، وندرك الهدف الفلسفي والمنهجي الذي دفع البنائية إلى رفض المنهج التاريخي بصورته التقليدية.
وبعد هذا العرض العام لسمات البنائية - من خلال الاتجاهات الرئيسية التي تعارضها - نستطيع أن ننتقل إلى معالجة الأسس الفلسفية لهذا الاتجاه الفكري الهام عند ممثليه الرئيسيين.
ولا جدال في أن هذه المعالجة التفصيلية ستزيد من وضوح السمات العامة التي اهتدينا إليها من قبل، وتضفي عليها مزيدا من التحدد والدقة المكتسب من تطبيقها على مذاهب فكرية محددة المعالم. (3) الأسس الفلسفية للبنائية عند ليفي ستروس
قد يبدو لأول وهلة أن الميدان الذي اختاره ليفي ستروس - وهو ميدان الأنثولوجيا والأنثروبولوجيا؛ أي دراسة الشعوب والحضارات القديمة - ينتمي إلى العلوم الاجتماعية الخالصة؛ ومن ثم فهو خارج عن نطاق بحثنا هذا الذي ينصب على الأسس «الفلسفية» للبنائية، ومن المؤكد أن المصادر التي أثرت على اتجاه ليفي ستروس الفكري كانت متعددة، وبعضها بعيد عن ميدان الفلسفة. ومع ذلك فسوف نحاول أن نثبت في هذا القسم من بحثنا أن ستروس كان فيلسوفا بقدر ما كان عالما أنثروبولوجيا، وأنه صبغ دراسته الاجتماعية بصبغة فلسفية لا تخطئها العين، وحول المؤثرات غير الفلسفية إلى الاتجاه الفلسفي. وكان هذا الطابع الذي يميزه عن سائر علماء الأنثروبولوجيا هو مصدر قوته وعمقه وطرافته. ولكنه كان في الوقت ذاته هو العامل الذي أدى إلى توجيه الانتقادات إليه من كلا الطرفين؛ لأن الفلاسفة لم يقنعوا بأسسه الفلسفية، على حين أن الأنثروبولوجيين لم يجدوه عالما أنثروبولوجيا بما فيه الكفاية.
لقد كان ليفي ستروس متفقا مع علم النفس عند فرويد في مواضع كثيرة، أدت إلى القول بأن آراء فرويد كانت مصدرا من المصادر التي استقى منها ستروس تفكيره؛ ففي كتاباته يظهر بوضوح إيمانه بفكرة وجود أساس لا شعوري عميق في الإنسان إلى جانب شعوره الواعي. ولقد كان مثل فرويد يؤمن بوجود جانبين: أحدهما طبيعي، والآخر نتاج للثقافة، في الإنسان، والجانب الأول هو الذي أطلق عليه فرويد اسم ال
fd (وتترجم عادة بكلمة: «هي») بينما الأنا، أي الجانب الثاني، يمثل تأثير الثقافة (بالمعنى الشامل) في الإنسان. وكان ستروس يعتقد - كما اعتقد فرويد - أن الأسطورة نوع من الحلم الجماعي في المجتمعات البدائية، وهو حلم له لغته الرمزية الخاصة القابلة للتفسير. وهذا التفسير كفيل بالكشف عن المعاني الخفية للأسطورة، واستخلاص المبادئ الأساسية لتفكير الإنسان البدائي من خلالها. ولكن هذه المبادئ التي توجد بطريقة لا واعية في ظاهرة جماعية - هي الأسطورة البدائية - ليست مقتصرة على البدائيين وحدهم. بل إنها في واقع الأمر تصدق على كل العقول البشرية على نحو شامل؛ فالمبادئ الأساسية التي نتوصل إليها عندئذ تؤثر في عقولنا مثلما تؤثر في عقول سكان جزر المحيط الهادئ من البدائيين، وهي تشكل نوعا من المنطق الكلي الشامل، الذي يتمثل لدى هؤلاء البدائيين بصورة نقية خالصة، قبل أن نضيف إليه نحن منطقنا الخاص، الذي تقتضيه الظروف المعقدة لحياة الإنسان الحديث.
Unknown page