Admonition Against Those Infatuated with Photography
إعلان النكير على المفتونين بالتصوير
Publisher
دار الهجرة للطباعة والنشر
Publisher Location
الدمام - المملكة العربية السعودية
Genres
إعلان النكير على المفتونين بالتصوير
تأليف
الفقير إلى الله تعالى حمود بن عبد الله بن حمود التويجري
غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين
دار الهجرة
Unknown page
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن والاه.
أما بعد، فلقد اطلعت على هذه الرسالة المباركة التي ألفها أخونا وصاحبنا العلامة الشيخ: حمود بن عبدالله التويجري ﵀ في حكم تصوير ذوات الأرواح، وما ورد في ذلك من النصوص الصحيحة عن رسول الله ﷺ ومن كلام أهل العلم في معناها وشرْح مقتضاها؛ فألفيتها رسالة قيمة غزيرة الفائدة، قد اشتملت على إيضاح الحق بدليله، وكشف الشبه التي قد يتعلق بها المُعارِض، وإيضاح كثير من الحِكَم والأسرار التي من أجلها حرَّم الله التصوير، وحذَّر منه رسوله ﷺ بأنواع التحذير، وأخبر أن المصورين أشد الناس عذابًا يوم القيامة، وأن مَن صَوَّر صورةً في الدنيا كُلِّف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ.
وكل مَن تأمل الأحاديث الواردة في هذا الباب وما أحدثه الناس اليوم من التوسُّع في التصوير وانتشاره في كل مكان والعناية بتصوير الزعماء والرؤساء والنساء الخليعات وغيرهم - علم الكثير من حكمة الشارع في النهي عن التصوير والتحذير منه، وعرف الكثير من مفاسد ذلك ومضارِّه على المجتمع في دينه وأخلاقه، وفي ديناه وسلوكه، وفي سائر أحواله وشؤونه.
ولقد غلط غلطًا فاحشًا مَن فرَّق بين التصوير الشمسي والتصوير النحتي، وبعبارة أخرى بين التصوير الذي له ظل والذي لا ظل له؛ لأن الأحاديث الصحيحة الواردة في هذه المسألة تعمُّ
1 / 3
النوعَين وتنظمها انتظامًا واحدًا، ولأن المضار والمفاسد التي في التصوير النحتي وما له ظل مثل المفاسد والأضرار التي في التصوير الشمسي، بل التصوير الشمسي أعظم ضررًا وأكثر فسادًا من وجوه كثيرة، نسأل الله أن يمنَّ علينا وعلى المسلمين بالعافية من النوعَين جميعًا، وأن يصلح أحوال الأمة وقادتها، وأن يهدي الجميع صراطه المستقيم.
وإني أنصح كلَّ مَن وقعت في يده هذه الرسالة أن يقرأها من أولها إلى آخرها، وأن يتدبر ما فيها من الأحاديث والفوائد وكلام أهل العلم؛ لعله بذلك يتضح له الحق، ويطمئن قلبه إلى ما دلت عليه النصوص من تحريم التصوير والتنفير منه؛ فينفع نفسه وينفع غيره، ويقوم بما أوجب الله عليه من الدعوة إلى الحق والتحذير من خلافه، وقد قال الله ﷿: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: ٣٣]، وقال ﷿: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [النحل: ١٢٥]، وقال النبي ﷺ لعلي بن أبي طالب ﵁: «لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حُمْر النَّعَمِ»، وقال ﷺ: «مَن دلَّ على خيرٍ فله مثل أجر فاعله»، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبة ومَن اهتدى بهداة إلى يوم الدين.
نائب رئيس الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة
عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
* * *
1 / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولى المتقين، وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى إخوانه النبيين، ورضي الله عن أتباعهم إلى يوم الدين.
وبعد، ففي تصوير الصالحين والوجهاء والنساء الخليعات والممثلات ونحوهم ما يفسد العقيدة أو يضعفها، وما يوجب الفتنة ويثير الشر، مع ما في ذلك عمومًا من المضاهاة بخلق الله والتشبه بالمشركين وأهل الزيغ والانحلال في تصويرهم لصالحيهم وزعمائهم ونسائهم، ومساعدتهم على ما قصدوا معه غزو البلاد الإسلامية بهذه الصور الفتَّانة إفساد الأخلاق وإضعافًا للغيرة، وإغراء لنا بما فُتِنوا به؛ حتى نقلدهم في صنيعهم ونسلك مسلكهم، ونصاب في عقائدنا بما أصيبوا به من الشرك والإلحاد، ويذهب ما لدينا من عفاف وسلامة في الأخلاق ومحافظة على الأعراض، ويهون علينا انتهاك الحرمات.
من أجل هذا وغيره وردت النصوص عن الرسول ﷺ بتحريم التصوير، ولعن المصورين وتوعدهم بالعذاب الأليم يوم القيامة؛ مما يدل على أن ذلك من الكبائر وعظيم والجرائم، كما جاء النهي عن اتخاذها وتحريم تعليقها مطلقًا بالمساكن والمؤسسات الثقافية والشركات والنوادي
1 / 5
والدكاكين ونحوها، على النوافذ أو الأبواب أو الجدران، مجسمة أو غير مجسمة، تعظيمًا لها أو أحياء لذكرى صاحبها أو لغير ذلك من المقاصد والأغراض.
هذا، وقد اطلعت على ما كتبه الأخ الفاضل الشيخ: حمود بن عبدالله التويجري فوجدته - والحمد لله - وافيًا بالمطلوب مستقصيًا لأطراف الموضوع؛ فقد أتى على الأدلة التي تحرم ذلك وتحذر منه، والتي تصرح بفحش الجريمة وسوء عاقبة فاعلها، ومصير الأمة التي يفشو فيها ذلك دون نكير، مع البيان لوجه الدلالة من الأدلة والاستقصاء لما فيها من الفوائد، وذكر الطرق المتعددة للأحاديث ونسبها إلى دواوينها، وتبيين درجتها وشرح الحكمة التي رُوعِيت فيما دلت عليه النصوص من الأحكام؛ ليكون أرجى لقبول العقول، وأدعى إلى اطمئنان النفوس لما تضمنته الرسالة، وذكر آراء العلماء في المسألة؛ للاستئناس وقطعًا لأعذار مَن يتعلق بأقوال المجتهدين ويتعلل بها لهواه، وبيَّن كيف أفضت صور الصالحين قديمًا إلى الشرك وعبادة غير الله، وإلى الفتنة وانتشار الفاحشة وقضاء الوطر في غير ما أحل الله، وأيَّد ذلك بما ذكر من الآثار والوقائع التاريخية.
ولقد جاءت هذه الرسالة المباركة - إن شاء الله - في وقت افتتن الناس فيه بالتصوير وتعليق الصور في شتى الأماكن، مع الارتياح إليها وعدم المبالاة بمخالفتها نصوص الشرعية، حتى أنس الجمهور بها زعموا أنها مباحة أو هوَّنوا الأمر فيها لما شاهد، وأَمِن كثرة الصور في البلاد
1 / 6
الإسلامية على مرأى من المتعلمين وقلة المنكرين، ولو علموا سنة الله في خلقة وأن الباطل لا حياة له مع يقظة الحق وأهله وعناية الدعاة إليه بنشره وتأييده، وأن الباطل إنما يصول ويجول حينما يندرس العلم ويذهب العلماء، أو حينما يغفل رجال الدين عن واجبهم أو يداهنوا غيرهم، أو تضعف شوكتهم ولا يجدون من ورائهم مَن ينفذ مقالتهم أو ينصرهم في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
أسأل الله أن ينفع بهذه الرسالة مَن قرأها أو سمعها، وأن يجزي مَن ألفها عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وأن يبصر المسلمين جميعًا أئمتهم ورعيتهم علماءهم والأميين منهم بأمر دينهم، ويوفقهم للأخذ به والوقوف عند حدوده، فإنه - سبحانه - القوي العزيز الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم.
حرر في ١٩/ ١/ ١٣٨٢ هـ
عبدالرزاق عفيفي
المدرس بكلية الشريعة بالرياض
* * *
1 / 7
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله المتفرد بالخلق والتدبير، الذي أتقن كل شي خلقة وصوَّر فأحسن التصوير، تعالى عن أن يكون له شريك أو نظير، ومَن أظلم ممن ذهب يخلق كخلق الله وهو عن الإيجاد عاجز حقير، لا يقدر على خلق ذرة ولا بعوضة ولا حبة من شعير، وهو مع ذلك ينازع الله فيما اختص به من التصوير، فويل للمصورين من عذاب السعير، فكل مصور في النار كما أخبر بذلك البشير النذير، ومَن أمر بالتصوير أو رضي به فهو شريك لفاعل هذا الذنب الكبير.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا وزير ولا ظهير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي كسر الأصنام ومحا التصاوير، وحذر من صناعتها واتخاذها غاية التحذير.
اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه نجوم الهداية والتبصير، وعلى مَن سلك سبيلهم من كبير وصغير، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فقد قال الله - تعالى -: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا﴾ [الأحزاب: ٥٧]، قال عكرمة: نزلت في المصوِّرين؛ ذكره البغوي وابن كثير ورواه أبو نعيم في "الحلية".
1 / 8
وفي هذه الآية على هذا التفسير أبلغ تحذير من التصوير، ومثل ذلك ما في الأحاديث الصحيحة كما سيأتي ذكرها - إن شاء الله تعالى - وقد عظُمت البلوى بصناعة الصور وبيعها وابتياعها، وافتتن باقتنائها واقتناء الجرائد والمجلات والكتب التي فيها ذلك كثير من المنتسبين إلى العلم من معلمين ومتعلمين فضلًا عن غيرهم، وصار نصبها في المجالس والدكاكين عادة مألوفة عند كثير من الناس، ومَن أنكر ذلك عليهم أو أنكر صناعتها فأقل الأحوال أن يستهزئوا به ويهمزوه ويلمزوه، وهذا دليل على استحكام غربة الإسلام، وظهور الجهل بما بعث الله به رسوله محمدًا ﷺ وما أمر به من هدم الأوثان وكسر الأصنام والصلبان وطمس الصور ولطخها، فالله المستعان.
وهذا المنكر الذميم - أعني: صناعة الصور ونصبها في المجالس وغيرها - موروث عن قوم نوح ثم عن النصارى ومَن بعدهم، وكذلك عن مشركي العرب؛ فإنهم كانوا يصنعون الصور وينصبونها كما ستأتي الإشارة إلى ذلك من الأحاديث التي ستأتي قريبًا - إن شاء الله تعالى.
ولكن كان عملها واتخاذها قليلًا عند مشركي العرب بالنسبة إلى النصارى، وقد صوَّر مشركو قريش في جوف الكعبة صورًا؛ منها: صورة إبراهيم، وصورة إسماعيل، وصورة مريم في حجرها عيسى - عليهم الصلاة والسلام -
1 / 9
فالمصورون من هذه الأمة متشبِّهون بقوم نوح وبالنصارى وبمشركي العرب.
وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «مَن تشبه بقوم فهو منهم»؛ رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما من حديث ابن عمر ﵄ وصححه ابن حبان.
وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية - رحمة الله تعالى -: إسناده جيد، وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: إسناده حسن، قال شيخ الإسلام: وقد احتجَّ الإمام أحمد وغيره بهذا الحديث، قال: وهذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم؛ كما في قوله: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: ٥١]، انتهى.
وفي "جامع الترمذي" عن عبدالله بن عمرو ﵄ أن رسول الله ﷺ قال: «ليس منا مَن تشبه بغيرنا».
وفي هذين الحديثين كفاية في التحذير من مشابهة قوم نوح والنصارى ومشركي العرب وطوائف الإفرنج وغيرهم من اسم الكفر والضلال في صناعة الصور واتخاذها.
ومَن أصر على مشابهتهم فلا يأمن أن يحشر معهم يوم القيامة؛ فقد قال الله - تعالى -: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ﴾ [الصافات: ٢٢].
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ﵁: أزواجهم أشباههم، وكذا قال ابن عباس والنعمان بن بشير ﵃ يعني بأزواجهم: أشباههم وأمثالهم.
1 / 10
وقال قتادة والكلبي: كل مَن عمل مثل عملهم.
وقال الله - تعالى -: ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ [التكوير: ٧]، قال: ابن كثير: أي: جمع كل شكل إلى نظيره.
وروى ابن أبي حاتم عن النعمان بن بشير ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ قال: «الضُّرَباء كل رجل مع كل قوم كانوا يعملوا عمله».
وروى ابن أبي حاتم أيضًا عن النعمان بن بشير ﵄ أن عمر بن الخطاب ﵁ خطب الناس فقرأ: ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ [التكوير: ٧] فقال: تزوجها أن تؤلف كل شيعة إلى شيعتهم، وفي رواية قال: هما الرجلان يعملان العمل فيدخلان به الجنة أو النار.
وقال مجاهد: ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ قال: الأمثال من الناس جمع بينهم، قال ابن كثير: وكذا قال الربيع بن خثيم والحسن وقتادة، واختاره ابن جرير وهو الصحيح، انتهى.
وفي هذه الآية والآية قبلها وعيد شديد لِمَن تشبه بأعداء الله - تعالى - في صناعة الصور واتخاذها وفي غير ذلك من الأمور المحرمة.
* * *
1 / 11
فصل
وقد كان بدء الشرك في بني آدم بسبب الصور؛ كما قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا مهران، عن موسى، عن محمد بن قيس في قوله: ﴿وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ [نوح: ٢٣] قال: كانوا قومًا صالحين بين آدم ونوح وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصورهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دبَّ إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يُسقون المطر فعبدوهم.
وروى ابن أبي حاتم بسنده عن أبي المطهر قال: ذكروا عند أبي جعفر وهو قائم يصلي يزيد بن المهلَّب قال: فلما انتقل من صلاته قال: ذكرتم يزيد بن المهلَّب أما إنه قتل في أول أرض عُبِد فيها غير الله قال: ثم ذكروا رجلًا مسلمًا وكان محببًا في قومه، فلما مات اعتكفوا حول قبره في أرض بابل وجزعوا عليه، فلما رأى إبليس جزعهم عليه تشبه في صورة إنسان ثم قال: إني أرى جزعكم على هذا الرجل فهل لكم أن أصور لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه؟ قالوا: نعم، فصوَّر لهم مثله قال: وضعوه في ناديهم وجعلوا يذكرونه، فلما رأى ما بهم من ذكره قال: هل لكم أن أجعل في منزل كل رجل منكم تمثالًا فيكون له في بيته فتذكرونه؟ قالوا: نعم، قال: فمثل لكل أهل بيت تمثالًا مثله فأقبلوا فجعلوا يذكرونه به قال: وأدرك أبناؤهم فجعلوا
1 / 12
يرون ما يصنعون به قال وتناسلوا ودَرَسَ أمر ذكرهم إياه حتى اتخذوه إلهًا يعبدونه من دون الله أولاد أولادهم، فكان أول ما عُبِد من دون الله ود الصنم الذي سموه ودًّا.
وقال البخاري في "صحيحه": حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام، عن ابن جريج، وقال عطاء: عن ابن عباس ﵄ صارت الأوثان التي في قوم نوح في العرب بعد، أما ودُّ فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تُعبد حتى إذا هلك أولئك وتَنَسَّخَ العلم عُبِدت.
فهذا ما آل إليه أمر الصور في قوم نوح فمَن بعدهم من المشركين، وأما النصارى فكانوا يعبدون الصور التي لا ظل لها؛ كما في الصحيحين عن عائشة ﵂ أن أم حبيبة وأم سلمة ﵄ ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير فذكرتا ذلك للنبي ﷺ فقال: إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوَّروا فيه تلك الصور فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة.
1 / 13
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": إنما فعل ذلك أوائلهم؛ ليتأنَّسوا برؤية تلك الصور، ويتذكروا أحوالهم الصالحة فيجتهدوا كاجتهادهم، ثم خلف من بعدهم خُلُوف جهلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان أن أسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها فاعبدوها، فحذَّر النبي ﷺ عن مثل ذلك؛ سدًّا للذريعة المؤدية إلى ذلك.
وذكر الحافظ أيضًا أن النصارى كانوا يصورون صورة مريم والمسيح وغيرهما ويعبدونها، وقال أيضًا: كان غالب كفر الأمم من جهة الصور.
وذكر ابن القيم - رحمة الله تعالى - في كتاب "الإغاثة" أمثلة كثيرة من تلاعب الشيطان بالنصارى قال فيها: وتلاعَب بهم في تصوير الصور في الكنائس وعبادتها، فلا تجد كنيسة من كنائسهم تخلو من صورة مريم والمسيح وجرجس وبطرس وغيرهم من القديسين عندهم والشهداء، وأكثرهم يسجدون للصور ويدعونها من دون الله - تعالى - حتى لقد كتب بطريق الإسكندرية إلى ملك الروم كتابًا يحتج فيه للسجود للصور بأن الله - تعالى - أمر موسى ﵇ أن يصور في قبة الزمان صورة الساروس، وبأن سليمان بن داود لما عمل الهيكل عمل صورة الساروس من ذهب ونصبها داخل الهيكل، ثم قال في كتابه: وإنما مثل هذا مثال الملك يكتب إلى بعض عمَّاله كتابًا فيأخذه العامل ويقبله ويضعه على عينيه ويقوم له لا تعظيمًا للقرطاس
1 / 14
والمداد بل تعظيمًا للملك، كذلك السجود للصور تعظيم لاسم ذلك المصور لا للأصباغ والألوان.
قال ابن القيم - رحمة الله تعالى -: وبهذا المثال بعينه عُبِدت الأصنام، وما ذكره هذا المشرك عن موسى وسليمان ﵉ لو صحَّ لم يكن فيه دليل على السجود للصور، وغايته أن يكون بمثابة ما يذكر عن داود أنه نقش خطيئته في كفه كي لا ينساها.
فأين هذا مما يفعله هؤلاء المشركون من التذلل والخضوع والسجود بين يدي تلك الصور، وإنما المثل المطابق لما يفعله هؤلاء المشركون مثال خادم من خدمِ الملك دخل على رجل فوثب الرجل من مجلسه وسجد له وعبده، وفعل به ما لا يصلح أن يفعل إلا مع الملك، وكل عاقل يستجهله ويستحمقه في فعله؛ إذ قد فعل مع عبد الملك ما كان ينبغي له أن يخص به الملك دون عبيده من الإكرام والخضوع والتذلل، ومعلوم أن هذا إلى مقت الملك له وسقوطه من عينه أقرب منه إلى إكرامه ورفع منزلته، كذلك حال مَن سجد لمخلوق أو لصورة مخلوق؛ لأنه عمد إلى السجود الذي هو غاية ما يتوصل به العبد إلى رضا الرب، ولا يصلح الإله ففعله لصورة عبد من عبيده وسوى بين الله وبين عبده في ذلك، وليس وراء هذا في القبح والظلم شيء؛ ولهذا قال - تعالى -: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣]، انتهى.
وقد روى الإمام أحمد في "مسنده" والترمذي في "جامعه" وابن خزيمة
1 / 15
في كتاب "التوحيد" بإسناد صحيح عن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد، ثم يطلع عليهم رب العالمين فيقول: ألا يتبع كل أناس ما كانوا يعبدون، فيمثل لصاحب الصليب صليبه، ولصاحب التصوير تصويره، ولصاحب النار ناره، فيتبعون ما كان يعبدون» الحديث؛ قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وفي "مستدرك الحاكم" من حديث أبي سعيد الخدري ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: «إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: ألا لتلحق كل أمة بما كانت تعبد، فلا يبقى أحدٌ كان يعبد صنمًا ولا وثنًا ولا صورة إلا ذهبوا حتى يتساقطوا في النار ...» الحديث، قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذا السياق.
والغرض من هذين الحديثين بيان أن الصور كانت من معبودات المشركين؛ فمنهم مَن كان يعبد الصور المجسمة، ومنهم مَن كان يعبد الصور التي ليس لها ظل.
وإذا عُلِم أن عبادة الأصنام في قوم نوح كان سببها تصوير الصالحين ونصب صورهم في المجالس،
1 / 16
وعُلِم أيضًا أن النصارى كانوا يصورون صور القديسين عندهم ويسجدون للصور ويدعونها من دون الله - تعالى - فما يؤمن جُهَّال المسلمين أن يكون في أولادهم وأولاد أولادهم مَن يعبد الصور التي ينصبونها في مجالسهم ودكاكينهم، ولا سيما صور الملوك والوزراء، ونحوهم من الكبراء الذين قد افتتن السفهاء بتصويرهم ونصب صورهم في المجالس والدكاكين أكثر مما افتتنوا بغيرهم.
وأعظم من ذلك أنه قد اتخذ نصب صور بعضهم رسميًّا في كثير من المجالس الرسمية في زماننا وهذا عين المحادة لله - تعالى - ولرسوله ﷺ وقد قال الله - تعالى -: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: ٦٣].
وما يفعله هؤلاء العصاة من تصوير الكبراء ونصب صورهم في المجالس وغيرها لا يشك عاقل شمَّ أدنى رائحة من العلم النافع أنه مثل ما فعله قوم نوح من تصوير الصالحين ونصب صورهم في المجالس سواء بسواء؛ وهذا مصداق قوله ﷺ «لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبرًا بشبر وذراعًا بذراع».
1 / 17
وما وقع من قوم نوح والنصارى وغيرهم من الشرك الأكبر بسبب الصور لا يبعد أن يقع مثله في آخر هذه الأمة؛ فالواجب على ولاة أمور المسلمين أن يمنعوا رعاياهم من صناعة التصاوير واتخاذها، وأن يطمسوا ما يوجد منها؛ عملًا بقول النبي ﷺ لعلي ﵁: «لا تدع صورة إلا طمستها».
وقد أخبر الله ﵎ عن خليله إبراهيم ﵊ أنه قال: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم: ٣٥].
فإذا كان خليل الرحمن أمام الحنفاء ووالد مَن بعده من الأنبياء قد خاف على نفسه وعلى بنيه من عبادة الأصنام، مع أنه قد كسرها بيده، مع أنه كان معصومًا عن عبادتها، فكيف لا يخاف عبادتها من ليس بمعصوم؟!
ولهذا قال: إبراهيم التيمي: ومَن يأمن البلاء بعد إبراهيم؛ رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
ومن أعظم أسباب البلاء نصب الصور في المجالس والدكاكين وغيرها مما قد افتتن به كثير من الناس في هذه الأزمان، والصور داخله في مسمى الأصنام عند أهل اللغة؛ فتدخل فيما دعا إبراهيم ربه أن يجنبه وبنيه عبادتها.
1 / 18
قال ابن الأثير: قد تكرر ذكر الصنم والأصنام وهو ما اتُّخِذ إلهًا من دون الله، وقيل: هو ما كان له جسم أو صورة، فإن لم يكن له جسم أو صورة فهو وثن.
وقال أيضًا: الفرق بين الوثن والصنم أن الوثن كل ما له جثة معمولة من جواهر الأرض أو من الخشب والحجارة كصورة الآدمي تعمل وتنصب فتعبد، والصنم الصورة بلا جثة، ومنهم مَن لم يفرق بينهما وأطلقهما على المعنيين، وقد يطلق الوثن على غير الصورة، ومنه حديث عدي بن حاتم: قدمت على النبي ﷺ وفي عنقي صليب من ذهب فقال لي: «ألقِ هذا الوثن عنك».
قلت: هذا الحديث رواه البخاري في "التاريخ الكبير"، والترمذي وقال: حسن غريب.
ومن إطلاق الوثن على الصليب قول الأعشى:
يَطُوفُ العُفَاةُ بِأَبْوَابِهِ كَطَوْفِ النَّصَارَى بِبَيْتِ الوَثَنْ
قال الأزهري: عن شمر: أراد بالوثن الصليب، نقله عنه ابن منظور في "لسان العرب".
قال الحافظ ابن حجر: بين الوثن والصنم عموم وخصوص وجهي؛ فإن كان مصورًا فهو وثن وصنم، انتهى.
وقد جاء عن على ﵁ عن النبي ﷺ أنه سمى
1 / 19
الصورة ضمنًا، وسيأتي هذا الحديث في آخر الأحاديث التي ستأتي قريبًا - إن شاء الله تعالى.
إذا تقرر هذا فكيف يستجيز المسلم صناعة الصور ونصبها في مجلسه أو دكانه وهي من الأصنام التي تُعْبَد من دون الله - تعالى؟ وكيف يستحل المسلم بيعها وأكل ثمنها وذلك حرام عليه؛ لما في الصحيحين و"المسند" و"السنن" عن جابر بن عبدالله ﵄ أنه سمع رسول ﷺ يقول وهو بمكة عام الفتح: «إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ...» الحديث؛ قال الترمذي: حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم؟
وقال الخطابي: في تحريمه ثمن الأصنام دليلٌ على تحريم بيع جميع الصور المتَّخذة من الطين والخشب والحديد والذهب والفضة وما أشبه ذلك من اللعب ونحوها.
قلت: وكذلك فيه دليل على تحريم بيع الصور المرقومة والمأخوذة بالآلة الفوتوغرافية؛ لأنها من جملة الأصنام.
ومن أعظم الصور تحريمًا على البائع المبتاع والمتَّخذ ما يُصْنَع في زماننا من المطاط على صور النساء فإذا نفخت لم يفرق الرائي بينها وبين الآدميات في الصورة الظاهرة، وكثير من الكَفَرة ومَن فسَّاق المسلمين يستعملونها للجماع بدل الآدميات، وذلك حرام كالزنا، وقد فشا بيعها وابتياعها في كثير من البلدان التي ينتسب أهلها
1 / 20
إلى الإسلام من غير نكير إلا أن يكون من أفراد قليلين مستضعفين لا يؤبه لهم ولا يستمع إلى قولهم، فالله المستعان.
وبائع هذه الصور الفتانة قد جمع بين إثمين عظيمين؛ أحدهما: بيع الأصنام، والثاني: الإعانة على فعل الفاحشة، إذ قد ثبت أنها تثير شهوة الرجال كما تثيرها الحسناء من الآدميات، وتدعو ذوي القلوب المريضة إلى الفجور بها كما تدعو إلى ذلك الحسناء من الآدميات.
وقد نص العلماء على أنه لا يجوز بيع الأمرد ممَّن علم أنه يفجر به، ولا يبع الأمة ممَّن يطؤها في الدبر، وهكذا يقال في بيع صور النساء والمردان؛ لأن الغالب على مشتريها أنه إنما يشتريها لفعل الفاحشة بها.
وقد حرم الله ﵎ جماع ما عدا الزوجات والسراري؛ فقال - تعالى - في وصف المؤمنين: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾ [المؤمنون: ٥ - ٧].
فدلت الآية الثانية بمفهومها على أن الجامعِين للصور المصنوعة ملومون على جماعها، ودلت الآية الثالثة بالنص على أنهم عادون - والله أعلم.
فإن قال جاهل: إن الصور المصنوعة من ملك اليمين فيجوز وطئها
1 / 21