فسكتت ليلى مفحمة ثم قالت: ولكن الشعور شاهد صادق. - بماذا يشهد؟ - يشهد بأن الكبرياء متألمة؛ فهي إذن أضعف من الأنفة. - إذا كان الشعور شاهدا صادقا فما هو قاض عادل حتى يحكم بين متنازعين، بل هو يشهد مع جانب على آخر، فهل تسمعين الشاهد الذي يشهد من جانب الأنفة؟ - ماذا يشهد؟ - يشهد بأن الأنفة متروكة والكبرياء تاركة، الأنفة قاعدة والكبرياء واقفة.
فلاحت بين شفتي ليلى ابتسامة خفيفة كانت تحت توردها كبقية شعاع من شفق، ثم قالت بعد سكوت قصير: تريد أن أقعد؟ قعدت.
وجلست على كرسيها كما كانت أولا، فقال لها: لا قوة لإرادتي فيما هو وراء دائرة ذاتيتي، فإذا لم تريدي أنت فلا أستطيع أن أقعدك. - ولكنك أردت أنت فقعدت أنا. - المجاملة تؤلم أحيانا يا ليلى، فإذا كنت تؤثرين الذهاب فأرتاح لما تؤثرين. - إذن لا يروق لك بقائي. - الكبرياء تراوغ الآن. - أنت تقول: إنك ترتاح إلى ذهابي. - ما زالت الكبرياء تراوغ، قلت: أرتاح إلى ذهابك إذا كنت تؤثرينه وترتاحين إليه، وما ترتاحين إليه يروق لي أكثر مما لا ترتاحين إليه. - من قال لك: إني لا أرتاح إلى البقاء؟ - لأنك لم تريديه. - من قال لك: إني لا أريده؟ - أنت قلت: إني أردت أنا فقعدت أنت. - معنى ذلك أن إرادتينا اتفقتا. - ليتك قلت ذلك أولا فكنت تنقذينني من ألم المجاملة. - لا أفهم، كيف تؤلم المجاملة؟ - لأنها تمويه على الحقيقة. - ليست كذلك دائما؛ فقد تكون مبالغة في الحقيقة. - إذا كانت المجاملة الحقيقية مكبرة كانت الكبرياء متشامخة والتشامخ يقتل.
ففكرت ليلى هنيهة ثم قالت: نعم، الكبرياء قاتلة، هل نسيت يوم زرتنا؟ - لن أنسى. - ماذا تسمي رفضك دعوة أخي للغداء معنا؟
فتراجع يوسف إلى الوراء مرتبكا، وأعمل ذهنه في الرد، ولكن ذهنه خانه فسبقته ليلى قائلة: كبرياء قاتلة.
فقال لها: لم أنس أيضا أني تتبعتك إلى منزلك مصادفة. - ودخلت إلى المنزل؟ - مصادفة أيضا؛ لأن أخاك صادفني فاضطررت أن أدخل معه. - ولا تسمي هذا كبرياء؟ - لم أنس أيضا ما كان في الترام. - ولا أنا نسيته. - إذن هل كنت تودين أن أتحول إلى صنم لا يحس؟ - إذن هل كنت تبغي أن تجمع جمر نار على رأسي؟ - لماذا؟ - لأنك لم تصفح عني. - بعد أن خاشنتك؟ - أستحق؛ لأني تجاسرت عليك. - إذن أنت نادمة على هذه الجسارة؟ - نعم. - ما زلت تنكرين كبرياءك. - بل أنت لا تزال تنكر كبرياءك، وإلا لبقيت حتى بعد الغداء. - لو بقيت؟ - ما كنت أندم على جسارتي؛ لأني أفهم أنك صفحت عني.
ففكر يوسف هنيهة ثم قال: إذن أنا كنت أرفض سعادتي، أعترف أني أخطأت يا ليلى، ولكني لم أدر أني مخطئ إلا الآن. - لأنك متكبر وبقيت متكبرا. - كيف؟ - هل نسيت حادث سبلنددبار؟ - لم أنسه. - ماذا تسمي رجوعك منه حال وصولنا إليه؟ - عدت وجلست وراء زجاج الباب. - توهمتك هناك، فماذا تسمي ذلك؟ كبرياء طبعا.
فسكت يوسف مفحما، ثم قال: تحاشيت أن يسوءك وجودي. - وهذا ضرب من ضروب الكبرياء، ثم ما قولك بتركك إياي بعد حادث المركبة؟ - لم أنم ليلئذ يا ليلى فلا تذكريني بذلك الليل. - ذلك عقاب الكبرياء، وما قولك بعدم زيارتك إيانا وأخي كان يتوسل إليك لأجل زيارة؟
فسكت يوسف، فقالت ليلى: يا للكبرياء!
وبقي يوسف صامتا؛ لأنه لا يحسن التمحك، ثم قال بعد هنيهة: أتتذكرين الآن رسالتك؟ - أتذكرها جيدا حرفا حرفا. - ألا تسمينها كبرياء؟ - لا بل أنفة، أما قلت أنت: إنه حيث لا كبرياء فلا أنفة؟ وأنا أقول متى ظهرت الكبرياء تظهر الأنفة، فأين جواب رسالتي؟ - بقي مع هيفاء ووقع في يد أمها، فظنت أنه مني لهيفاء وأني أغازل الفتاة. - هل عدمت وسيلة أخرى لإرسال جواب سواه؟ - أرسلت. - مع من؟ - مع أخيك.
Unknown page