فأخذ جورجي يوسف بيده إلى الغرفة الأخرى وجلسا، فقال جورجي: من كان أبوك؟ - كان أبي الرجل الذي عوقب في حياته لحسن نيته وطهارة قلبه، وظلم بقسوة لرقة عواطفه، وتشتت عائلته بجريرة حبه لها، وقتل في الدفاع عن وطن غير وطنه، فهل تعرف رجلا هذه حاله؟ - أعرفه. - لا يبعد أنك تعرفه وأنت يوناني الأصل؛ لأنه قضى نحبه في حدود اليونان، فمن هو الذي تعرفه في هذه الأحوال؟ - هو الأمير خليل الخزامي، أعرفه كما أعرف نفسي.
فاقشعر يوسف وانتصب شعر رأسه، وقال: أبي خليل الخزامي، هل كنت تعرفه حين قتل؟ هل ترك كلمة لابنه؟ هل ترك وصيته؟ - عرفته في كل دقيقة من حياته، هل تتذكر سحنته؟ - لن أنساها؛ لأنها ماثلة في مخيلتي على الدوام.
فتناول جورجي صورة فوتوغرافية من جيبه، ودفعها إلى يوسف قائلا: هل هذه صورة أبيك؟
فما وقع نظر يوسف عليها حتى انتفض وهطل الدمع من عينيه، وصاح: هذه صورة أبي، هذه صورته كما فارقني.
وجعل يوسف يقبل الصورة، ويقول مخاطبا لها: لقد جوزيت يا أبتاه جزاء سنمار، ولكن الطبيعة لا تفهم حتى تعاقب ظالميك، وا أسفاه على شبابك! فماذا ترك لي أبي غير هذه الصورة؟ - هذه الصورة أيضا.
وناوله جورجي صورة أخرى، فلما رآها يوسف صاح: أماه أماه! لقد قاسمت أبي مصائبه، ولا ريب أنك تقاسمينه سعادته الأبدية.
وكان يوسف يقبل الصورة الأخرى، ويمسح دموعه عنها هنيهة إلى أن قال: أما زودك أبي بكلمة تقولها لابنه؟ - نعم، قال: إنه يود أن يراك. - في العالم الثاني؟ - بل في هذا العالم. - في هذا العالم؟ كيف يمكن ذلك؟ - أما قلت لك: إني أريكه؟ - إنك تجنني يا هذا، كيف تريني أبي وقد فنيت عظامه؟ - لم تفن عظامه ولا فني جسمه، بل لم يزل حيا يرزق.
فانتفض يوسف جزعا وصاح: إن كنت لا تمزح فقل لي أين أرى أبي؟ - هنا؟ - متى؟ - الآن في هذه اللحظة. - أين؟ أين هو؟ - أما قلت لك: إنه هنا؟ أنت تعرفه شابا، فهل تظن أنك تراه شابا بعد أن فارقته عهدا طويلا؟ ألا ترى أن الشيب كلل رأسه؟
فحملق يوسف في جورجي وهو يرتجف من شدة التأثر، ورأى الدموع تتدفق من عينيه فارتاع لأول وهلة وبقي مبهوتا هنيهة، ثم فتح فمه، ولكنه لم يستطع كلاما، وما شعر إلا بقوة تجتذبه نحو جورجي حتى طرح نفسه على حضنه، وهو يصرخ: أبتاه! أبتاه! حتام تتمالك عني؟
وفي تلك اللحظة كان الأب والابن متعانقين ودموعهما تمتزج معا.
Unknown page