فلم يكن للمرأة في عهد يوربيدس شرف تدافع عنه، لكن المرأة في ذلك العهد كانت لا تزال قادرة على الغضب إذا خانها زوجها مع امرأة أخرى.
ولم يكن سيجموند فرويد قد أخرج إلى العالم بعد نظريته المعروفة عن سيكولوجية المرأة والتي أنكرت على النساء الشعور بالغضب. وكان أرسطو ما زال يؤمن أن المرأة وعاء خال من الحياة، والرجل وحده هو مصدر الحياة.
واستطاع يوربيدس أن يسبق أرسطو في إدراك أن الأم هي مصدر الحياة، وأنها إنسانة كالرجل، وقد تغضب مثله إذا خانها، وقد تستولي عليها فكرة الدفاع عن شرفها إلى حد القتل، قتل الزوج، أو قتل نفسها وأطفالها منه.
تسلطت هذه الفكرة على «ميديا» حين هجرها زوجها إلى امرأة أخرى كانت قد منحته الحب كله وحياتها كلها، وصدمتها الخيانة، وانقلبت طاقتها على الحب والعطاء إلى طاقة للدفاع عن شرفها والانتقام لكرامتها.
ورأت أن أشد انتقام من الأب هو أن تحرمه من أطفاله، فهو الذي سيشعر بفقدانهم، أما هي فلن تشعر بشيء؛ لأن روحها ستلحق مع أطفالها إلى السماء.
ما زلت أحدق في وجهها الملائكي، ويدها الصغيرة الناعمة، وهي راقدة في سريرها بمستشفى السلام الدولي. أحاول أن أذكر نفسي أن اسمها «سابينا أنا ماريا» وليست «ميديا»، وليست كاترين، ولا هي خديجة أو زينب.
ابتسامة طفولية أضاءت وجهها كحنان الأم الطاغي، انتهت قبل أن تبدأ، وخلفت تعبيرا كالسحابة الصفراء، أو الخوف الغامض الدفين، انقشعت هي الأخرى بسرعة، وزحفت الغمامة الرمادية كشبح الغضب الخفي، لا يريد أن يكشف عن نفسه. ثم بدأ في عينها الخوف. ليس كالخوف الأول الغامض، ولكنه خوف واضح صريح، بغير سحابة ولا غمامة، امتلأت عيناها الصافيتان بكل اتساعهما الأبيض الصافي بنظرة مذعورة، لمعت في عينيها بلون أسود، وبحجم النني الكبير تشوبها زرقة داكنة.
ثم انطفأ اللمعان فجأة كما بدأ، وحومت ابتسامة شاحبة، تراجعت بسرعة، وامتلأت عيناها بالحزن الغريب، كالطبقة المعتمة تكسو بياض العين، والسواد أصبح لونه أخضر باهتا بلون الماء الراكد، وطفا فوق السطح تعبير جديد ينم عن الإحساس الدفين بالذنب، زحف طافيا فوق سطح العين بلون أخضر، كورقة الشجر الميتة، وشفتاها الرقيقتان الشاحبتان تنفرجان عن كلمة «الله».
حين رأيت كاترين الأمريكية لم يكن هذا في المستشفى، كانت في السجن، راكعة إلى جوار السرير، منكفئة بوجهها على «الإنجيل»، والسجانة من خلفها متأهبة للإمساك بذراعيها إذا تركت الكتاب المقدس لتخنق نفسها.
خديجة المصرية، رأيتها في السجن أيضا، تمسك في يدها «القرآن»، وحين ترقد تضعه تحت رأسها وتخاطب الله: يا رب أنت العالم أني لم أقتل ابني إلا حين أمرتني يا رب، وأمسكت يدي الضعيفة ومنحتني القوة من عندك.
Unknown page