في كل صفعة، كانت يدها ترتفع في الهواء، متقلصة العضلات مترددة بين السقوط على وجهه أو على وجه واحد من أولادها الأربعة أو البنت الصغيرة، وفي مرة لم تكن يدها تسقط إلا على وجه البنت، فهي الأصغر، وهي الأضعف، وهي فوق كل ذلك ليست إلا بنتا. وفي الليل تنام إلى جواره وكأن شيئا لم يحدث، ويمتد ذراعه نحوها ليحوطها وكأن شيئا لم يحدث، وفي الصباح تصنع له الشاي وكأن شيئا لم يحدث، ويخرج إلى عمله كالعادة ثم يعود بعد الظهر، وتخرج إلى عملها كالعادة ثم تعود قبل أن يعود ليجدها قد كنست وغسلت وطبخت.
لا زالت ذراعها تمتد لتحوط الصدرين معا، وعضلاتها تتقلص عاجزة عن إلغاء مسافة الهواء بين الصدر والصدر، والعين عاجزة عن الثبات في العين، لكن كانت اللمعة في النني الأسود لا زالت قوية مقتحمة كضوء النهار، كما كانت منذ ثلاثين عاما. وحول العينين والفم خطوط في الجلد كالتجاعيد، لكن الوجه لا زال مشدودا كالوتر، والصدر ينبض تحت ذراعها كالقلب، وسخونة كفورة الشباب تسري كالعدوى في الدم من ذراعها إلى كتفها وظهرها، وكل عضلات جسمها تنبض وتنفض عن نفسها العام وراء العام. ثلاثون عاما تنفضها لتعود كما كانت تلميذة بالفصل، والوجع المزمن في مؤخرة الرأس يخف، وثقل جسمها فوق الأرض يخف، وثقل رأسها فوق عنقها، وثقل عنقها فوق ظهرها، وثقل صدرها فوق قلبها، وكل شيء فيها يصبح أقل وزنا، حتى النهدان الكبيران الضاغطان على المعدة يصغران، وينهضان من فوق الضلوع بعضلات مشدودة، وقنوات الهواء المسدودة في القلب تتفتح، ويندفع الهواء من أنفها وفمها إلى صدرها كالشهقات المتقطعة. وذراعها لا زالت تمتد أكثر، وعضلاتها تتقلص، في محاولة يائسة لإلغاء المسافة. والفكرة الثابتة في المخ مثل كرة النحاس، وكل شيء في حياتها تغير إلا هذه الفكرة. جسمها تغير، ملامح وجهها ولون عينيها تغيرت، شكل عضلاتها وحركتها فوق الأرض، والأرض أيضا تغيرت، وخلايا المخ تحت عظام رأسها تغيرت بخلايا أخرى، إلا هذه الفكرة ظلت مثل كرة النحاس بحجم رأس الدبوس، تتحرك قليلا من مؤخرة الرأس إلى الأمام، أو من اليسار إلى اليمين، أو من اليمين إلى اليسار، لكنها تظل كما هي لا تتغير.
ذراعها لا تزال مرفوعة تحوطها، ومسافة من الهواء لا تزيد عن الملليمتر لا تزال تفصل بين الصدر والصدر، ورأسها يزحف فوق العنق النحيل، والنبض فيه يدق كقلب الأم، ويسري الدم من عنقها إلى ظهرها وعمودها الفقري، ويصعد مرة أخرى إلى رأسها، ليصطدم بكرة النحاس الصدئة، وتمتد أنفها فوق العنق تتشمم رائحة الدخان، وتكاد يدها تمتد لتشد الشارب فوق الشفة العليا، لكن أصابعها تتقلص فوق البشرة الناعمة بغير شعر، ورائحة البنفسج تملأ صدرها بغير دخان، ومن فوق ذراعها الممدودة ترى الحائط بغير طلاء، ومن فوقه وجه أبيها داخل برواز أسود، وخط عميق كالخندق على الجبهة العريضة، ومن تحت الخندق عيناه تحدقان فيها كعيني زوجها، وثلاثون عاما عاشتها معه في سرير واحد دون أن ترى عينيه، وتمر السنة وراء السنة والليل وراء النهار دون أن تنظر في وجهه، تخرج في الصباح إلى العمل كالعادة بعد أن يخرج وتعود آخر النهار قبل أن يعود، فتكنس كالعادة، وتغسل وتطبخ.
وعلى غير العادة، عادت مرة من عملها قبل موعدها، فوجدته في سريرها وذراعه حول امرأة أخرى. ظهره كان ناحيتها، فلم تر وجهه، وفي مواجهتها صدر المرأة الأخرى، النهدان الصغيران عضلاتهما مشدودة منتصبة متحفزة بغير مقابل، ووشم بشكل زهرة البنفسج فوق الصدر والقلب.
عضلات ذراعها لا تزال تتقلص، في محاولة مستميتة لإلغاء الصورة المحفورة في مؤخرة الرأس، والزمن كالسحابة السوداء فوق عصب العين، والألم كالخندق العميق في القلب، وزوجها غاب ثم مات وعاد. ومن فوقه ملاءة كحجاب المرأة، تغطيه من الرأس إلى القدم، وعيناه فوق الحائط تحدقان فيها بغير ابتسام كعيني أبيها. وعلى الجبهة العريضة خط عميق كالخندق، ولا زالت ذراعها تلتف في محاولة أخيرة للعناق، ومسافة من الهواء لا تزال بين الصدر والصدر، والهواء له كثافة الحائط، وفي الحائط شق عميق كالجرح. لكن اللمعة في النني الأسود لا زالت قوية مقتحمة كضوء النهار، وفوق صدرها الوشم كزهرة البنفسج، وقلبها مفتوح متحفز للعطاء بغير مقابل، والدم يندفع من القلب إلى الرأس، وفي اندفاعة الدم تنفصل قطعة الصدأ عن خلايا المخ، ويغسلها الدم. ومن فوق عصب العين يذوب الزمن كالغلالة، ويغسله الدمع، والصدر يحوطه الصدر بلا مسافة، والرأس يلتصق بالرأس كأيام الدراسة، وأنفاسهما مكتومة حتى ينتفخ صدراهما بالهواء وتوشكان على الاختناق، ويندفع الهواء المحبوس من فتحات الأنف والفم بغير إرادتهما على شكل شهقات متقطعة. كطفلتين تضحكان وتبكيان، وترمقها الحدقة المفتوحة في شق الحائط، فيغلب الضحك على البكاء.
القاهرة 1982
بيوتيفول
عاد إلى بيته تلك الليلة فلم يجدها في السرير . كل ليلة منذ أن اشتغل في الشركة الجديدة وهو يعود بعد أن تنام، ويخرج في الصباح قبل أن تصحو. وقد تركها ذلك الصباح نائمة كعادتها، تشغل الجزء الملاصق للحائط من السرير، متكورة تحت الملاءة على شكل ارتفاعة بيضاء.
ظل واقفا يحملق في الظلام، والسرير العريض ظل مستويا كالأرض، كأنما لم يرتفع أبدا.
سار بخطوات بطيئة نحو المرآة كعادته كلما حلت به مأساة، وأطل عليه من المرآة وجه نحيل طويل كوجه أبيه، وظهره أيضا أصبحت له انحناءة لم تكن موجودة في الصباح. لكن الصباح يبدو له كأنما مضى منذ عام أو عشرة أعوام أو عشرين وأكثر، ومنذ ذلك الزمن البعيد لم يقف أمام المرآة. وصورته الأخيرة عن نفسه أنه كان شابا، مشدود الجسم والعضلات، ورأسه مرفوع، وظهره مستقيم، وذراعاه حين يضمهما يحوطان الكون، وفي الليل يحوطها كأنها الكون.
Unknown page