وفي كل انقلاب نجد فريقين، فريق السلفيين الآسفين المتشبثين بالماضي، ونحن نسميهم رجعيين أو جامدين إذا كنا نكرههم، وفريق الراغبين في الحال الجديدة الداعين إليها، ونحن نسميهم المجددين إذا كنا نحبهم. أما إذا كنا نكرههم، فإننا عادة نتهمهم بالإلحاد، والإباحية، والمادية، والهوس.
وهذا هو ما وقع في إنجلترا في أواخر القرن الماضي، فقد ظهر أدباء يدعون إلى النزوع إلى التجديد وآخرون يدعون إلى الاستمساك بالقديم. ونحن هنا نقصر الكلام على اثنين من عظماء الرجعية في إنجلترا هما «جون روسكين» و«وليم موريس».
وكلاهما أفاد بثورته على روح التجديد في القرن التاسع عشر؛ لأنه أوضح أضرارا كادت تخفى على الناس من حيث انتشار الروح المادي وتغلب الصناعة على الفن، وإيثار السرعة على الإتقان. وقد أخذ كل منهما في دعوة الناس إلى إيثار المصنوعات اليدوية على المصنوعات الآلية، وكراهة العلم وتقبيح النهضة الأوروبية العلمية وامتداح القرون الوسطى. وأخلص كل منهما لدعوته إخلاصا عظيما هو السبب الأساسي للفائدة التي جناها وما يزال يجنيها الناس من مؤلفاتهما بل من حياتيهما.
لما بلغ «روسكين» شبابه وجد في لندن جماعة تدعى «أخوية الداعين إلى ما قبل رفائيل» وهم جماعة من الرسامين عمدوا إلى النهضة الأوروبية فقبحوها، وطعنوا في العلم، ودعوا الفنانين إلى إيثار الروح الديني للقرون الوسطى. ولم يأتوا بطائل فتشتتوا، ولكن دعوتهم كانت بذرة لقح بها ذهن «روسكين».
وقد لا يكون بين كتاب الإنجليز من أحسن الكتابة بهذه اللغة مثل هذا الرجعي العظيم «روسكين» فقد جمع ما في اللغة من رقة وحلاوة وجمال فحواها في أسلوبه. وما تقول في رجل يصفه عدو له بالجنون (هو ماكس نورداو) ثم يعترف له بأنه يمكنه أن يصف السحاب في خمسين أو مائة صفحة يقرؤها القارئ فلا يسأمها بل يطلب المزيد.
ترك «روسكين» بلاده ورحل إلى البندقية، مدينة القرون الوسطى، وهناك ألف كتابه «أحجار البندقية» الذي يقول فيه: «إن البناء القوطي في البندقية هو ثمرة الإيمان الطاهر والفضيلة العائلية.»
وأيضا: «إن البناء الحسن هو التعبير الظاهر عن الحال السليمة للمزاج وعن الشعور الأخلاقي.»
ثم يمضي بعد ذلك في نثر رائع فخم فيشرح جميع الأعمال الفنية مدة النهضة؛ أي عقب القرون الوسطى، ويصفها بأنها ثمرة الغدر وفساد الأسرة وسقوط الأخلاق.
وهذا كله هراء بليغ، فإن البناء أبعد الأشياء عن الدلالة على الأخلاق. وهذه مباني المماليك في القاهرة، فإنها من الفخامة والجمال بحيث تناقض الحياة الإجرامية التي عاشها كثير من هؤلاء. وتاريخ البندقية التي ما تزال قصورها القديمة قائمة، هو تاريخ الدسائس الدموية، والسفالات العظيمة التي ارتكبها أصحاب هذه القصور. وإنما كره «روسكين» النهضة لأنها كانت الأصل في الروح العلمي الذي ساد أوروبا وأخذ مكان الروح الديني. وكان رجلا متدينا لا يطيق النزعات الجديدة التي تكتسح كل ما أمامها، فلم يكن في وسعه سوى السباب. وهو سباب أنيق يسمع له الناس؛ لأنه يتأنق في عبارته، ثم يغضون لهذا التأنق عن سخافاته، فلقد بلغ به السخف ذات مرة أن علل الكوارث التي تقع فيها بريطانيا بسخط الله عليها.
ولكن «روسكين» كان مخلصا في دعايته، يحض الناس على التمسك بالدين، وكراهة المصنوعات الآلية، والرجوع إلى الصناعة اليدوية، والابتعاد من الروح المادي. ورث نحو 150000 جنيه من والديه فحرمها على نفسه ولم ينفق منها مليما، ووقفها على الأعمال الخيرية وعاش قانعا بما يجنيه من قلمه. واتجه نحو الاشتراكية، أو بالأحرى الميول الاشتراكية، فأسس كليات للعمال في الجامعات، ورفع من شأن العمل حتى كان يأخذ الطلبة من أبناء الأغنياء فيؤلف منهم فرقا لتعبيد الطرق.
Unknown page