بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أكرم خواص عباده بالألفة في الدين، ووفقهم لإكرام عباده المخلصين، وزينهم بالأخلاق الكريمة والشيم الرضية، تأدبًا بأفضل البشرية، وسيد الأمة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ﷺ.
اعلم أيها الأخ الصالح - أصلح الله شأننا - أن لأدب الصحبة وحسن العشرة أوجهًا، وأنا مبين منها ما يدل على أخلاق المؤمنين وآداب الصالحين، ويعلم أن الله ﷾ جعل بعضهم لبعض رحمةً وعونًا، ولذلك قال رسول الله ﷺ: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه
1 / 11
عضو تداعى سائره بالحمى والسهر) .
وقال ﵇: (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا) .
وقال ﵇: (الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) .
وقال ﵊: (إن الأرواح تلاقى في الهوى فتشام، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) .
فإذا أراد الله بعبدٍ خيرًا وفقه لمعاشرة أهل السنة والصلاح والدين، ونزهه عن صحبة أهل الأهواء والبدع المخالفين.
وقال ﵇: (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل) .
ولبعضهم:
عَنِ المَرءِ لا تَسأَل وَسَل عَن قَرينِهِ ... فَكُلُّ قَرينٍ بِالمُقارِنِ يَقتَدي
1 / 12
ومن كلام علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه ورضي عنه:
وَلا تَصحَب أَخا الجَهلِ ... وَإياكَ وَإِيَّاهُ
فَكَم مِن جاهِلٍ أَردى ... حَليمًا حينَ يَلقاهُ
يَقاسُ المَرءُ بِالمَرءِ ... إِذا ما هُوَ ماشاهُ
وَلِلشَّيءِ عَلى الشَيءِ ... مَقاييسُ وَأَشباهُ
وَلِلقَلبِ عَلى القَلبِ ... دَليلٌ حينَ يَلقاهُ
1 / 13
آداب العشرة
فمن آداب العشرة:
حسن الخلق
حسن الخلق مع الإخوان والأقران والأصحاب، اقتداءً برسول الله ﷺ فإنه قال، وقد قيل له: ما خير ما أعطي المرء؟ قال: (حسن الخلق) .
تحسين العيوب
ومنها تحسين ما يعانيه من عيوب أصحابه؛ فقد قال ابن مازن: (المؤمن يطلب معاذير إخوانه، والمنافق يطلب عثراتهم)، وقال حمدون القصار: (إذا زل أخ من إخوانك، فاطلب له تسعين عذرًا، فإن لم يقبل ذلك فأنت المعيب) .
1 / 14
معاشرة المؤمن
ومنها معاشرة الموثوق بدينه وأمانته ظاهرًا وباطنًا. قال الله تعالى: (لا تَجِدُ قَومًا يُؤمِنونَ بِاللَهِ وَاليَومِ الأَخِرِ يُوادّونَ مَن حادَّ اللَهَ وَرَسولَهُ) .
أوجه المعاشرة
وللمعاشرة أوجه: فللمشايخ والأكابر: بالحرمة والخدمة والقيام بأشغالهم.
وللأقران والأوساط: بالنصيحة وبذل الموجود والكون عند الأحكام، ما لم يكن إثمًا.
وللمريدين والأصاغر: بالإرشاد والتأدب والحمل على ما يوجبه العلم، وآداب السنة، وأحكام البواطن، والهداية إلى تقويمها بحسن الأدب.
1 / 15
الصفح عن العثرات
ومنها الصفح عن عثرات الإخوان، وترك تأنيبهم عليها. قال الفضيل بن عياض: (الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان)، فكما يجب على العبد الأدب مع سيده، يجب عليه معاشرة من يعينه عليه. قال بعض الحكماء: (المؤمن طبعًا وسجية)، وقال ابن الأعرابي: (تناسى مساوئ الإخوان يدم لك ودهم) .
وواجب على المؤمن أن يجانب طلاب الدنيا،
1 / 16
فإنهم يدلونه على طلبها ومنعها، وذلك يبعده عن نجاته ويقظته عنها، ويجتهد في عشرة أهل الخير وطلاب الآخرة؛ ولذلك قال ذو النون لمن أوصاه: (عليك بصحبة من تسلم منه في ظاهرك، وتعينك رؤيته على الخير، ويذكرك مولاك) .
موافقة الإخوان
ومنها قلة الخلاف للإخوان، ولزوم موافقتهم فيما يبيحه العلم والشريعة. قال أبو عثمان: (موافقة الإخوان خير من الشفقة عليهم) .
الحمد على الثناء
ومنها أن يحمدهم على حسن ثنائهم، وإن لم يساعدهم باليد، لقوله ﵇: (نية المؤمن أبلغ من عمله) . قال علي كرم الله وجهه: (من لم يحمل أخاه على حسن النية، لم يحمده على حسن الصنعة) .
1 / 17
ترك الحسد
ومنها ألا يحسدهم على ما يرى عليهم من آثار نعمة الله، بل يفرح بذلك، ويحمد الله على ذلك كما يحمده إذا كانت عليه؛ فإن الله تعالى ذم (الحاسدين) على ذلك بقوله: (أَم يَحسُدُونَ الناسَ عَلى ما أتَاهُمُ اللَهُ مِن فَضلِهِ)، وقال ﵇: (كاد الحسد أن يغلب القدر)، وقال: (لا تحاسدوا) .
1 / 18
عدم المواجهة بما يكره
ومنها ألا يواجههم بما يكرهون، فإن رسول الله ﷺ نهى عن ذلك.
ملازمة الحياء
ومنها ملازمة الحياء في كل حال، لقوله ﵇: (الإيمان بضعة وسبعون - أو وستون - بابًا، أفضلها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبةٌ من الإيمان) . وقال رجل للنبي ﵇: أوصني، قال: (استحيي من الله ﷿ كما تستحيي رجلًا من صالح قومك) . وقال: (الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار) .
المروءة والمحبة
ومن المعاشرة صدق المروءة وصفاء المحبة، فإنها لا تتم إلا بهما.
1 / 19
إظهار الفرح والبشاشة
ومنها بشاشة الوجه، ولطف اللسان، وسعة القلب، وبسط اليد، وكظم الغيظ، وترك الكبر، وملازمة الحرمة، وإظهار الفرح بما رزق من عشرتهم وأخوتهم.
صحبة العالم العاقل
ومنها ألا يصحب إلا عالمًا، أو عاقلًا فقيهًا حليمًا. قال ذو النون رحمة الله عليه: (ما خلع الله على عبدٍ من عبيده خلعةً أحسن من العقل، ولا قلده قلادةً أجمل من العلم، ولا زينه بزينةٍ أفضل من الحلم، وكمال ذلك التقوى) . وقال ﵇: (من سعادة المرء أن يكون إخوانه صالحين) .
سلامة القلب وإسداء النصحية
ومنها سلامة قلبه للإخوان، والنصحية لهم، وقبولها منهم، لقوله تعالى: (إِلّا مَن أَتى اللَهَ بِقَلبٍ سَليمٍ) . وقال السقطي
1 / 20
﵀: (من أجل أخلاق الأبرار سلامة الصدر للإخوان والنصيحة لهم) .
حنث الوعد
ومنها ألا يعدهم ويخالفهم، فإنه نفاق. قال ﵊: (علامة المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان) . وقال الثوري ﵀: (لا تعد أخاك وتخلفه فتعود المحبة بغضة) . وأنشدوا:
يا واعِدًا أَخلفَ في وَعدِهِ ... ما الخُلفُ مِن سيرَةِ أَهلِ الوَفا
ما كانَ ما أَظهَرتَ مِن وُدِّنا ... إِلّا سِراجًا لاحَ ثُمَ اِنطَفا
1 / 21
صحبة الوقور
ومنها صحبة من يستحيا منه ليزجره ذلك عن المخالفات؛ فقال قال عليٌّ كرم الله وجهه: (أحيوا الحياء بمجالسة من يستحيا منه) . وقال أحمد بن حنبل ﵀: (ما أوقعني في بلية إلا صحبة من لا أحتشمه) .
الإخلاص في الصحبة
ومنها أن يراعي في صحبة أخوانه صلاحهم لا مرادهم، ودلالته على رشدهم لا على ما يحبونه. قال أبو صالح المزي، ﵀: (المؤمن من يعاشرك بالمعروف، ويدلك على صلاح دينك ودنياك، والمنافق من يعاشرك بالمماذعة، ويدلك على ما تشتهيه، والمعصوم من فرق بين الحالين) .
1 / 22
ترك الأذى
ومنها ألا تؤذي مؤمنًا، ولا تجاهل جاهلًا؛ لقوله ﵇: (إن الله يكره أذى المؤمن) . وقال الربيع ابن خيثم ﵀: (الناس رجلان، مؤمن فلا تؤذه، وجاهلٌ فلا تجاهله) .
حسن العشرة
ومنها مطالبة الإخوان بحسن العشرة حسب ما يعاشرهم به؛ لقوله ﵇: (لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) . قال الحكيم: (صفوة العشرة للخلق، رضاك عنهم بمثل ما تعاشرهم به) . وقال أبو بكر بن عياش ﵀: (اطلب الفضل بالإفضال منك، فإن الصنيعة إليك كالصنيعة منك) .
1 / 23
رأي عمر في المودة
ومنها قول عمر بن الخطاب ﵁: (ثلاث يصفين لك ود أخيك: أن تسلم عليه إذا لقيته، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب أسمائه إليه) .
حسن الظن
ومنها حمل كلام الإخوان على أحسن الوجوه ما وجدت ذلك. قال سعيد بن المسيب ﵁: (كتب إلي بعض إخواني من الصحابة أن ضع أمر أخيك على الأحسن ما لم تغلب) .
1 / 24
معرفة أسماء الإخوان وأنسابهم
ومنها معرفة اسم الإخوان واسم آبائهم لئلا تقصر في حقوقهم؛ فقد قال ابن عمر ﵄: رآني النبي ﷺ ألتفت، فقال: (إلام تلتفت؟) قلت: إلى أخ لي أنا في انتظاره، فقال رسول الله ﷺ: (إذا أحببت رجلًا فسله عن اسمه، واسم أبيه وجده وعشيرته ومنزله، فإن مرض عدته، وإن استعان بك أعنته) .
مجانبة الحقد
ومنها مجانبة الحقد، ولزوم الصفح، والعفو عن الإخوان. قال هلال بن العلاء: (جعلت على نفسي ألا أكافئ أحدًا بشرٍ ولا عقوقٍ اقتداءً بهذه الأبيات:
لمّا عَفَوتُ وَلَم أَحقِد عَلى أَحَدٍ ... أَرَحتُ نَفسِيَ مِن غَمّ العَداواتِ
1 / 25
إِنّي أُحيّي عَدَوِّي حينَ رُؤيَتِهِ ... لِأَدفَعَ الشَرَّ عَنّي بِالتَحيّاتِ
وأَظهِرُ البِشرَ لِلإِنسانِ أَبغِضُهُ ... كَأَنَّهُ قَد حُشيَ قَلبي مَسَرّاتِ
وأنشد أحمد بن عبيد عن المدائني:
وَمَن لَم يُغمّض عَينَهُ عَن صَديقِهِ ... وَعَن بَعضِ ما فيهِ يَمُت وَهُوَ عاتِبُ
وَمَن يَتَتَبَّع جاهِدًا كُلَّ عَثرَةٍ ... يَجِدها وَلا يَسلَم لَهُ الدَهرَ صاحِبُ
حفظ العهد
ومنها ملازمة الأخوة، والمداومة عليها، وترك الملل؛ فقد قال النبي ﷺ: (أحب الأعمال إلى الله أدومها، وإن قل) . وقال محمد بن واسع: (وليس لملولٍ صديقٌ ولا لحاسدٍ غناءٌ) .
1 / 26
إقلال العتاب
ومنها الإغضاء عن الصديق في بعض المكاره، وينشد:
صَبَرتُ عَلى بَعضِ الأَذى خَوفَ كُلِّهِ ... وَدافَعتُ عَن نَفسي بِنَفسي فَعَزَّتِ
فَيا رُبَّ عِزّ ساقَ لِلنَّفسِ ذُلَّها ... وَيا رُبَّ نَفسٍ بِالتَذلُّلِ عَزَّتِ
وَجَرَّعتُها المَكروهَ حَتّى تَجَرَّعَت ... وَلَو لَم أُجَرِّعها كَذا لاشمَأَزَّتِ
وأنشد ثعلب:
أُغمِّضُ عَيني عَن صَديقي تَجَسُّمًا ... كَأَنّي بِما يَأتي مِن الأَمرِ جاهِلُ
وَما بِيَ جَهلٌ غَيرَ أَنَّ خَليقَتي ... تُطيقُ اِحتمالُ الكُرهِ فيما تُحاوِلُ
ولبعضهم:
1 / 27
إِذا كُنتَ في كُلِّ الأُمورِ مُعاتِبًا ... صَديقَكَ لَم تَلقَ الَّذي لا تُعاتِبُه
فَعِش واحِدًا أَو صِل أَخاكَ فَإِنَّهُ ... مُقارِفُ ذَنبٍ مَرَّةً وُمُجانِبُه
إِذا أَنتَ لَم تَشرَب مِرارًا عَلى القَذى ... ظَمِئتَ وَأَيُّ الناسِ تَصفو مَشارِبُه
ترك الاستخفاف
ومنها ترك الاستخفاف بأحد من الخلق، ومعرفة كل واحد منهم ليكرم على قدره. قال ابن المبارك: (من استخف
1 / 28
بالعلماء ذهبت آخرته، ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته) .
ملازمة الصديق
ومنها ألا تقطع صديقًا بعد مصادقته، ولا ترده بعد قبول:
لا تَمدَحَنَّ اِمرأً حَتّى تُجرِّبَهُ ... وَلا تَذُمَّنَّهُ مِن غَيرِ تَجريبِ
فَإِنَّ حَمدَكَ مَن لَم تَبلُهُ سَرَفٌ ... وَإِنَّ ذَمَّكَ بَعدَ الحَمدِ تَكذيبُ
قال حمدون القصار: (اقبلوا إخوانكم بالإيمان، وردوهم بالكفر؛ فإن الله ﷾ أوقع ما بين هذين في مشيئته، وقال: (إِنَّ اللَهَ لا يَغفِرُ أَن يُشرَكَ بِهِ وَيَغفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ) .
1 / 29
قدسية الصداقة
ومنها ألا يضيع صداقة صديق بعد ود، فإنها عزيزة؛ وكتب عالم إلى من هو مثله: (أن اكتب لي بشيءٍ ينفعني في عمري)، فكتب إليه: (بسم الله الرحمن الرحيم. استوحش من لا إخوان له، وفرط المقصر في طلبهم؛ وأشد تفريطًا من ظفر بواحد منهم فضيعه؛ ولوجد أن الكبريت الأحمر أيسر من وجدانه؛ وإني أطلبه منذ خمسين سنة، ولم أجد إلا نصف صديق) .
والناس ثلاثة: معرفة، وأصدقاء، وإخوان؛ فالمعرفة بين الناس كثيرة، والأصدقاء عزيزة، والأخ قلما يوجد.
التواضع والتكبر
ومنها التواضع للإخوان، وترك التكبر عليهم. قال رسول الله ﷺ: (إن الله ﷿ أوحى إلي أن تواضع
1 / 30