ومن عجائب ذكائه إذا سمع جرس الباب أسرع إلى الباب، ولم يفعل كما تعود أن يفعل حين يسمع جرس التليفون . مع أن جرس الباب يدق في المطبخ، حيث يكون الخادم ولا يدق في المكان الذي يجري إليه، ولعله عرف أن فتح الباب المقصود بدق الجرس في المطبخ كلما جرى الخادم لفتحه على إثر سماع دقاته، ولكن تفريقه بين الجرسين براعة تشهد له بالقدرة على مزاولة الأعمال والواجبات.
ومن الأعمال والواجبات التي فرضها على نفسه ولم يفرضها عليه أحد أنه لا يدع إنسانا، ولا حيوانا يصعد السلم إلا أدركه بنباح الاحتجاج من وراء الباب، فيعدو أمامي ويعود إلي ولا يزال يرقص، ويتوثب حتى أجزيه على استقباله بالتحية الواجبة والتربيت المحبب إليه. ألأجل الطعام يهش لي «بيجو» هذه الهشاشة ويرعاني هذه الرعاية؟ أنا أود من الباحثين في طبائع الحيوان أن يراجعوا ملاحظاتهم وأحكامهم في أسباب التأليف والمودة بين الحيوان والإنسان، فإن إطعام الكلب ولا شك سبب من أسباب وفائه وتعلقه بأصحابه، ولكن لا شك أيضا في أن الكلاب تفهم للمودة أسبابا غير الطعام، وتدرك معنى من معاني الصلة النفسية ليس مما يرتبط بالمنافع.
وأوضح دليل على ذلك أن «بيجو» يعتبر نفسه تابعا لمولاه «فيفي»، ولا يعتبر نفسه تبعا لأبيه أو خادم أبيه، وكلاهما يطعمه ويلاطفه ويسقيه. أما «فيفي» فهو لا يطعمه ولا يسقيه ولا يتورع عن خطف طعامه إذا ساغ في مذاقه، وقد يتبرم به فيضربه أو يقبض على لسانه، أو يضع أصبعه في عينيه، وبيجو في كل ذلك لا يقابل الأذى بمثله، ولا يفتأ متعلقا بالطفل أشد من تعلقه بآله وذويه.
فلما زارني «فيفي» مع أبيه بعد شفائه ونجاته من خطره كان المعقول المنظور أن يخف «بيجو» إلى الأب الكبير، الذي يعنى بإطعامه وإيوائه ويشمله بمودته. غير أنه التفت أول ما التفت إلى «فيفي» العزيز دون غيره، وتهافت عليه يعانقه، ويلحس وجهه بلسانه ويئن أنينا من فرط حنينه وفرحه، وجهدنا جهدا شديدا في التنحية بينه وبين مولاه الصغير؛ لفرط ما أرهقه بتحياته ومجاملاته، وكنا سبعة منا أستاذ في علم الزراعة والحيوان، وأخ له أديب جم الاطلاع، وصديق مهذب من أدباء الموظفين ، وسيدة إنجليزية وابنها اليافع، ووالد فيفي وكاتب هذه السطور. فأتعبنا الكلب الأمين الودود جد التعب، ونحن نبعده من هنا فيرجع من هناك على حال من اللهفة والاشتياق تجلب الدمع إلى الآماق. فماذا بين بيجو ومولاه فيفي من البر والمجاراة غير الصلة النفسية التي لا شأن لها بالطعام والشراب؟ ولماذا يحسب نفسه تابعا للطفل، ولا يحسب نفسه تابعا لأبيه؟ إنه لا يفقه أنهم أهدوه إلى فيفي الصغير؛ ليكون لعبته وحارسه وعشيره، ولكنه قد يفقه أنه نده وقرينه بواشجة الطفولة، والملاعبة الصبيانية، وهي على كل حال واشجة غير وشائج المنافع والطعام والشراب.
ويشبه هذا في الدلالة على إدراك الخلائق العجماء للصلات النفسية أن «بيجو» لا يطيق «الطاهي» أحمد حمزة، ولا يرتاح إلى رؤيته ولا يسمع النداء على اسمه حتى يحسبه تهديدا له بالعقوبة والإقصاء ... وهو مع هذا يألف فراش المنزل «محمدا»، ويهش له ويستريح إلى مصاحبته في المنزل وفي الطريق. فلم كانت هذه التفرقة عنده بين هذا وذاك؟ كلاهما يقدم له الطعام، ويزيد صديقه «محمد» بتجريعه الدواء الذي يتعاطاه لعلاج السعال أحيانا، وهو يمقته وينفر منه أشد النفور. غير أن الطاهي «أحمد حمزة» يتحاشى «بيجو» خوفا من النجاسة، فيشعر «بيجو» بجفائه ويلقاه بمثله، ويحتمل التجريع والغصص من زميله لأنه يحتفي به ويأنس إليه.
ومن إدراكه «للمعاني» الفكريه أنك إذا لمسته بالعصا وهو غافل عن رؤيتها، فهو لا يبالي ولا يحفل ولا يحسبك غاضبا أو قاصدا لعقابه. ولكنه إذا التفت إليك ورأى أن العصا هي عصا التأديب التي تخوفه بها ظهر عليه الرعب، أو ظهر عليه الأسف والتوسل، كأنه يقرن بالعقاب معنى غير الضرب وألمه، وهو استياء سيده وإعداده له عدة العقاب.
والخلاصة أن «بيجو» مخلوق أنيس، وهو أفيد ما يكون في المكتبة التي يمقتها ويستثقل ظلها؛ لأنني استفدت على يديه فوائد جليلة، وأنا أقرأ بعض الكتب الحديثة في علم النفس وعلم الاجتماع.
يقول علم النفس إن التعاطف في التربية والتعليم أنفع وأنجح من تبادل الأفكار، وبيجو يؤكد لي ذلك؛ لأنني أرى منه أن الكلاب أسرع تعلما من القردة، وهي أرفع في مرتبة التكوين والإدراك. وإنما فاقت الكلاب القردة بسرعة التعليم؛ لأنها عاشرت الإنسان طويلا فاتصلت بينه وبينها العاطفة، وإن لم يتقارب بينه وبينها تركيب الأعصاب والدماغ.
ويقول علماء الاجتماع من أنصار «الفاشية» إن الغرائز لا تتبدل وإن الحرب والعدوان غريزة الإنسان، فلا فائدة لوعظ الواعظين بالسلام، ونصح الناصحين بالإخاء والعدل والمساواة، وبيجو يدحض ذلك أيما إدحاض؛ لأنه قد تحدر من سلالة الذئاب، فما زالت به التربية والمصانعة حتى أصبح حارس الأطفال والحملان، وقد كان قبل ذلك آفة كل طفل من بني الإنسان، وكل صغير أو كبير من أبناء الضأن.
ويعد «بيجو» بحق من أحسن الشراح للعالم الروسي «بافلوف» صاحب التجارب المشهورة في إخوان بيجو من الكلاب الروسية، فإنه جرب أن الكلب يسيل لعابه إذا شاهد الطعام، فقرن بين تحضير الطعام له ودق الجرس على مقربة منه، فإذا بفمه يتحلب كذلك كلما دق الجرس، ولو لم تصحبه رؤية طعام.
Unknown page