وكان هذا الرجل الذي دخل في مقتبل الشباب لا يتجاوز الخامسة والعشرين من العمر، طويل القامة نحيف الجسم، تدل نظراته على الرياء وابتسامه على الكذب والمخادعة.
وكان يدعى «أنتنور»، وهو مصور، غير أنه لم يكن من أهل الحذق في صناعته، فكان أكثر عملائه من طبقة الفقراء لرخص أثمان صوره؛ إذ كان يرسم الصورة كلها بعشرين فرنك أو بعشرة فرنكات.
وكان من أظهر عيوبه الحسد، فلا يسوءه أمر مثل هناء سواه، حتى إنه كان يؤثر الخسارة على أن يرى سواه من الرابحين، ثم إن داء الحسد كاد يكون مرضا مستحكما فيه، فإن حسده لم يكن قاصرا على الذين يعرفهم، بل كان يتناول جميع الناس على السواء، مثال ذلك أنه إذا كان جالسا في نافذة غرفته، ومر به رجل في مركبة فخمة، أو مر به إنسان عليه ظواهر النعمة غضب وأرغى وأزبد ، وجعل يشكو حظه العاثر، ويهدد السماء بقبضتيه، فما رأى نعمة على إنسان إلا وتمنى زوالها، وما سره غير شقاء الناس.
ومع ذلك فقد كان رزقه ميسورا لا سبيل إلى الشكوى منه، ولكنه فطر على الحسد الذميم، فكان يشتغل نصف يومه بالارتزاق، وينفق بقية يومه مشتغلا في قطع رزق سواه.
وكان يقيم في منزل مجاور لمنزل فيلكس، وسطح منزله يشرف على مسكن جاره، بحيث إذا صعد إلى السطح يرى كل ما يجري فيه.
ثم إنه علم بأن جاره يلقب «بالسيئ البخت» ومن كان له هذا اللقب لا يكون من أهل السعادة، فاتصل به بسبب الجوار، وبات من أصدقائه، وإنما فعل ذلك كي يلزمه، ويطلع على أخباره السيئة كي يمتع نفسه بشقائه؛ إذ لم يكن يلذ له غير شقاء الناس.
غير أن هناءه بشقاء جاره لم يكن دائما، فقد كان ينغصه زيارة باكيتا الحسناء لفيلكس من وقت لآخر، فتثور فيه عوامل الحسد، فيحقد عليه ويهيج غضبه لا سيما حين يرى أنها تهواه، وأنه سعيد في حبها، فكان يزور فيلكس في أكثر الأحيان فيستقبله خير استقبال، وأنى له أن يعلم ما يجول في قلبه من الحسد، فكان يراه يصور ذلك التمثال البديع، ويرى في كل يوم منه ما يدل على بلوغه أبعد حدود الإتقان في الصناعة، فيحم من حسده، ويود لو خسر عاما من عمره وتمكن من تحطيم ذلك التمثال؛ إذ أيقن أنه سيكون له شأن، وأن جاره سيبيت من النابغين، ويذكر اسمه في عداد المشاهير.
وقد كان اتفق قبل يوم أنه رأى من نافذة غرفته باكيتا وفيلكس يتنزهان في الحديقة، فكاد يجن من حسده، وبات من غيظه بليلة الملسوع، ثم رأى في اليوم التالي أن أميرا روسيا ومركيزا فرنسيا يزوران هذا الجار السعيد، فكان ذلك غاية الغايات، وكاد يسقط مغشيا عليه من القهر؛ لأنه كان يعرف هذين الوجهين بالنظر.
وقد صبر إلى أن خرجا من عنده، فدخل إثر خروجهما على فيلكس وهو لا يزال متأثرا من فوزه، فجعل ينظر إليه وإلى شارنسون وإلى الأوراق المالية التي كانت لا تزال على المائدة، وهو يكاد يذوب من الحسد.
أما فيلكس فإنه أسرع إليه حين رآه، فصافحه وقال له بلهجة الصديق الودود الذي يريد أن يشارك صديقه بهنائه؛ قل لي أيها الصديق: أأنا في حلم أم في يقظة؟
Unknown page