مقدمة
1 - مزاجان تاريخيان
2 - الخصومة
3 - الخصمان
4 - أعوان الفريقين
5 - خروج الحسين
6 - هل أصاب؟
7 - كربلاء
8 - جريرة كربلاء
9 - نهاية المطاف
10 - في عالم الجمال
مقدمة
1 - مزاجان تاريخيان
2 - الخصومة
3 - الخصمان
4 - أعوان الفريقين
5 - خروج الحسين
6 - هل أصاب؟
7 - كربلاء
8 - جريرة كربلاء
9 - نهاية المطاف
10 - في عالم الجمال
أبو الشهداء الحسين بن علي
أبو الشهداء الحسين بن علي
تأليف
عباس محمود العقاد
مقدمة
يسرني أن أقدم إلى حضرات القراء هذه الطبعة من كتاب «أبي الشهداء» ويعظم رجائي أن يصل إلى أيد كثيرة غير التي وصل إليها في طبعاته السابقة، وأن يتحقق له من عموم الرسالة بهذه المثابة ما يتمناه كل مؤلف لكل كتاب يريد به رسالة من الرسالات.
ليس من عادتي أن أطلع في كتبي بعد الفراغ من طبعها، ويتفق أن تمضي السنوات دون أن ألقي عليها نظرة لغير مراجعة عاجلة، فإذا حدث بعد ذلك أن أنظر فيها لتقديمها إلى طبعة جديدة، أمكنني أن أشعر بها شعور القارئ الذي يطلع عليها لأول مرة، بعد أن شعرت بها شعور المؤلف الذي امتلأ بها، وأدارها في نفسه عدة مرات. وقد أستغرب منها أمورا كالتي يستغربها القراء الذين يحكمون على موضوعاتها حكم «الأجانب الغرباء».
عجبا! إن مشكلة الحياة الكبرى لم تتغير منذ ألف وثلاثمائة سنة، ولم تزل الحرب على أشدها بين خدام أنفسهم وخدام العقائد والأمثلة العليا، ولم يزل الشهداء يصلونها نارا حامية من عبيد البطون والأكباد، ولم يزل «داؤنا العياء» كما قال أبو العلاء!
كان هذا شعوري بكتاب أبي الشهداء حين قرأته من جديد؛ لتقديمه إلى هذه الطبعة. مسكينة هذه الإنسانية! لا تزال في عطش شديد إلى دماء الشهداء؛ بل لعل العطش الشديد يزداد كلما ازدادت فيها آفات الأثرة والأنانية ونسيان المصلحة الخالدة في سبيل المصلحة الزائلة، أو لعل العطش الشديد إلى دماء الشهداء يزداد في هذا الزمن خاصة دون سائر الأزمنة الغابرة؛ لأنه الزمن الذي وجدت فيه الوحدة الإنسانية وجودا ماديا فعليا، وأصبح لزاما لها أن توجد في الضمير وفي الروح كما وجدت في الخريطة الجغرافية وفي برامج السفن والطيارات.
الوحدة الإنسانية اليوم حقيقة واقعية عملية، ولكنها حقيقة واقعية عملية في كل شيء إلا في ضمير الإنسان وروح الإنسان.
حقيقة واقعية في اشتباك المصالح التجارية، وفي اتصال الأخبار بين كل ناحية من الكرة الأرضية وناحية أخرى.
حقيقة واقعية في أعصاب الكرة الأرضية - إذا صح هذا التعبير - فلا يضطرب عصب من أعصابها في أقصى المشرق حتى تتداعى له سائر الأعصاب في أقصى المغرب وفي أقصى الشمال والجنوب.
حقيقة واقعية في كل شيء إلا في ضمير الإنسان وفي روح الإنسان، وهذا هو المهم والأهم إذا أريدت للإنسانية وحدة صحيحة صالحة جديرة بالدوام.
ولن توجد هذه الوحدة إلا إذا وجد الشهداء في سبيلها، فأنعم بمقدم «أبي الشهداء» من جديد إلى ضمائر فريق كبير من بني الإنسان، لعلهم يقدمون رسالته خطوة واحدة أو خطوات في سبيل اليقين والعمل الخالص لوجه الحق والكمال.
نتفاءل أو لا نتفاءل.
نتشاءم أو لا نتشاءم.
ليست هذه هي المسألة؛ وإنما المسألة هي أن طريق التفاؤل معروف وطريق التشاؤم معروف، فلا تتحقق مصلحة الإنسانية إلا إذا عمل لها كل فرد من أفرادها، وهانت الشهادة من أجلها على خدامها، وتقدم الصفوف من يقدم على الاستشهاد، ومن ورائه من يؤمن بالشهادة والشهداء.
لا عظة ولا نصيحة، ولكنها حقيقة تقرر كما تقرر الحقائق الرياضية، فلا بقاء للإنسانية بغير العمل لها، ولا عمل لها إن لم ينس الفرد مصلحته؛ بل حياته في سبيلها.
لا بقاء للإنسانية بغير الاستشهاد.
وفي هذه الآونة التي تتردد فيها هذه الحقيقة في كل زاوية من زوايا الأرض نلتفت نحن أبناء العربية إلى ذكرى شهيدها الأكبر فنحني الرءوس إجلالا لأبي الشهداء.
عباس محمود العقاد
الفصل الأول
مزاجان تاريخيان
طبائع الناس
يتناوب طبائع الناس مزاجان متقابلان؛ مزاج يعمل أعماله للأريحية والنخوة، ومزاج يعمل أعماله للمنفعة والغنيمة.
والمزاجان لا ينفصلان كل الانفصال.
فقد تقترن الأريحية بالمنفعة، وتقترن المنفعة بالأريحية، ولكنهما إذا اصطدما - ولا سيما في الأعمال الكبيرة - لم يعسر عليك أن تفصل المزاجين وتعزل المعسكرين. فهذا للأريحية حتى يجب المنفعة ويخفيها، وهذا للمنفعة حتى يجب الأريحية ويخفيها، أو كذلك يتراءيان.
وأصحاب المطالب الكبرى في التاريخ يعتمدون على هذا المزاج كما يعتمدون على ذاك؛ فمنهم من يتوسل إلى الناس بما فيهم من الجشع والخسة وقرب المأخذ وسهولة المسعى، ومنهم من يتوسل إلى الناس بما فيهم من طموح إلى النبل والنجدة وركوب المخاطر ونسيان الصغائر في سبيل العظائم.
ولكل منهما سبيله إلى النفوس وأمله في النجاح على حسب الأوقات والبيئات.
إلا أن الأريحية أخلد من المنفعة بسنة من سنن الخلق التي لا تتبدل مع الأوقات والبيئات؛ لأن منفعة الإنسان وجدت لفرد من الأفراد.
أما الأريحية التي يتجاوز بها الإنسان منفعته: فقد وجدت للأمة كلها أو للنوع الإنساني كله؛ ومن ثم يكتب لها الدوام إذا اصطدمت بمنافع هذا الفرد أو ذاك.
ولقد يبدو من ظواهر الأمور أن الأمر على خلاف ما نقول؛ لأن الحريص على منفعته يبلغها، ويمضي قدما إليها، فينال المنفعة التي لا ينالها صاحب الأريحية؛ لأنه يتركها إذا اصطدمت بما هو أجل منها.
وهذا صحيح مشهود لا مراء فيه.
ولكن النجاح في الحركات التاريخية لن يسمى نجاحا إذا هو لم يتجاوز حياة فرد أو طائفة من الأفراد، فإذا قيل: إن حركة من الحركات التاريخية قد نجحت، فمغزى ذلك بداهة أن الأفراد القائمين بها يذهبون وهي الباقية بعد ذهابهم. ومن هنا يصح أن يقال: إن الأريحية أبقى وأنجح إذا هي اصطدمت بالمنفعة الفردية؛ لأن ذهاب الفرد هنا أمر مفروغ منه بعد كل حساب، سواء أكان حساب الأريحيين أم حساب النفعيين.
وأصحاب الأريحية إذن أبعد نظرا من دهاة الطامعين والنهازين للفرص والمغانم العاجلة؛ لأنهم خلقوا بفطرتهم على حساب أعمال تتجاوز حساب عمرهم القصير. فهم - شعروا أو لم يشعروا - بعيدو النظر إلى عواقب الأمور، وإن خيل إلى الناس أنهم طائشون متهجمون.
أما موقف المؤرخين في العطف على حركات التاريخ؛ فهو على ما نرى موقف مزاج من هذين المزاجين، وليس بموقف سبيل من سبل البحث أو مذهب من مذاهب التفكير.
فالذين يجنحون بمزاجهم إلى المنفعة يفهمون أعذار المنتفعين ، وينكرون ملامتهم على ناقديهم.
والذين يجنحون بمزاجهم إلى الأريحية يفهمون دوافع النخوة، ويحسبونها عذرا لأصحابها أقوى من غواية المنافع والأرزاق.
إلا أن الصواب هنا ظاهر جد الظهور لمن يريد أن يراه.
الصواب أن العطف على جانب المنفعة عبث لا معنى له ولا حكمة فيه.
وأن العطف على جانب الأريحية واجب يخشى على الناس من تركه وإهماله؛ إذ كان تركه مناقضا لصميم الفطرة التي من أجلها فطر الناس على الإعجاب بكل ما يستحق الإعجاب.
فليس يخشى على الناس يوما أن ينسوا منافعهم ويقصروا في خدمة أنفسهم، سواء عطف عليها المؤرخون أو أعرضوا عنها ساخرين منكرين.
ولكنهم يخسرون الأريحية إذا فقدوها وفقدوا الإعجاب بها والتطلع إليها، وهي التي خلقت ليعجب بها الناس؛ لأن حرص الإنسان على منفعته لا يغنيهم في حياتهم العامة أو في حياتهم الباقية، أما الأريحية التي يتجاوز بها الإنسان نفسه في سبيل معنى من المعاني أو مثل عال من الأمثلة العليا، فهي الخليقة النافعة للنوع الإنساني بأسره، وإن جاز اختلافهم في كل معنى وفي كل مثل عال.
صراع بين الأريحية والمنفعة
في ماضي الشرق وحاضره كثير من الحركات التاريخية التي وقع الصدام فيها بين الأريحية والمنفعة على أكثر من غرض واحد.
ولكننا لا نحسبنا مهتدين إلى نموذج لهذا الصدام أوضح في المبادئ، وأهدى إلى النتائج، وأبين عن خصائص المزاجين معا من النموذج الذي عرضه لنا التاريخ في النزاع بين الطالبيين والأمويين، ولا سيما النزاع بينهما على عهد الحسين بن علي، ويزيد بن معاوية.
قلنا في كتابنا «عبقرية الإمام» ما فحواه أن الكفاح بين علي ومعاوية، لم يكن كفاحا بين رجلين أو بين عقلين وحيلتين. ولكنه كان على الحقيقة كفاحا بين الإمامة الدينية والدولة الدنيوية، وأن الأيام كانت أيام دولة دنيوية؛ فغلب الداعون إلى هذه الدولة من حزب معاوية، ولم يغلب الداعون إلى الإمام من حزب الإمام.
ولو حاول معاوية ما حاوله علي لأخفق وما أفلح، ولو أراد علي أن يسلك غير مسلكه لما أفاده ذلك شيئا عند محبيه ولا عند مبغضيه.
فإذا جاز لأحد أن يشك في هذا الرأي، وأن يرجع بنجاح معاوية إلى شيء من مزاياه الشخصية، فذلك غير جائز في الخلاف بين الحسين ويزيد، وكل ما يجوز هنا أن يقال: إن أنصار الدولة الدنيوية غلبوا أنصار الإمامة على سنة الخلفاء الراشدين؛ لأن مطالب الإمامة غير مطالب الزمان.
ما من أحد قط يزعم أن الصراع هنا كان صراعا بين رجلين أو بين عقلين وحيلتين، وإنما هو الصراع بين الإمامة والملك الدنيوي، أو بين الأريحية والمنفعة في جولتهما الأولى، ولم يكن ليزيد قط فضل كبير أو صغير بما قد بلغه من الفوز والغلبة.
بل لا يمكن أن يتعلل أحد هنا بما يتعلل به أنصار المنافع عامة من «تقريره للنظام وحفظه للأمن العام»؛ فإن يزيد لم يكن له فضل قط في قيام الدولة كما قامت على عهده وبعد عهده؛ وإنما كانت الدولة تتماسك برغبة الراغبين في بقائها لا بقدرة الأمير المشرف عليها، وقد حدث بعد موت يزيد أن بويع ابنه معاوية الثاني بالشام - وكان من الزاهدين في الحكم - فنادى الناس إلى صلاة جامعة، وقال لهم: «أما بعد، فإني قد ضعفت عن أمركم، فابتغيت لكم مثل عمر بن الخطاب حين استخلفه أبو بكر فلم أجده، فابتغيت ستة مثل ستة الشورى فلم أجدهم، فأنتم أولى بأمركم فاختاروا له من أحببتم.» ثم أوى إلى بيته، ومضت شئون الدولة على حالها حتى مات بعد ثلاثة أشهر، وله مع هذا منافس قوي كعبد الله بن الزبير بالحجاز. •••
فلا وجه للمفاضة بين الحسين بن علي ويزيد بن معاوية، ورأي معاوية وأعوانه في هذا أسبق من رأي الطالبيين وخصوم الأمويين. فقد ترددوا كثيرا قبل الجهر باختيار يزيد لولاية العهد وبيعة الخلافة بعد أبيه، ولم يستحسنوا ذلك قبل إزجائهم النصح إلى يزيد غير مرة بالإقلاع عن عيوبه وملاهيه، ولما أنكر بعض أولياء معاوية جرأة الحسين عليه في الخطاب، وأشاروا عليه أن يكتب له كتابا «يصغر إليه نفسه»، قال: «وما عسيت أن أعيب حسينا؟ والله ما أرى للعيب فيه موضعا.» •••
وثم تعلة أخرى يتعلل بها المفاضلون بين علي ومعاوية، ولا موضع لها في المفاضلة بين ولديهما الحسين ويزيد، وتلك ما يزعمونه من غلبة معاوية على «علي» بحجته في الإقناع ونشاطه أو نشاط أصحابه في الدعوة السياسية.
فهذه التعلة إن صلحت لتعليل نجاح معاوية، فما هي بصالحة لتعليل نجاح يزيد؛ لأن الذين انخدعوا أو تخادعوا للصيحة التي صاح بها معاوية في المطالبة بدم عثمان، كانوا يرددون هذه الصيحة، ويساعدهم على ترديدها حقد الثأر المزعوم، وسورة العصبية المهتاجة، ثم يساعدهم على ترديدها في مبدأ الأمر أن معاوية لم يكن مجاهرا بطلب الخلافة ولا متعرضا لمزاحمة أحد على البيعة، وإنما كان يتشبث بمقتل عثمان والمطالبة بدمه، ولا يزيد في دعواه على ادعاء ولاية الدم وصلة القرابة.
ولكن الصائحين بهذه الصيحة مع معاوية قد عاشوا حتى رأوا بأعينهم مبلغ الغيرة على تراث عثمان، وعلموا أن الملك هو الغرض المقصود من وراء تلك الفتن والأرزاء، وأن معاوية لا يقنع بأن يملك لنفسه حتى يورث الملك ولده من بعده، وليس هو من أهل الرأي، ولا هو من أهل الصلاح، ولا هو ممن تتفق عليه آراء هؤلاء، ولكنه فتى عربيد يقضي ليله ونهاره بين الخمور والطنابير، ولا يفرغ من مجالس النساء والندمان إلا ليهرع إلى الصيد فيقضي فيه الأسبوع بعد الأسبوع بين الأديرة والبوادي والآجام، لا يبالي خلال ذلك تمهيدا لملك ولا تدريبا على حكم ولا استطلاعا لأحول الرعية الذين سيتولاهم بعد أبيه؛ ثقة بما صار إليه من التمهيد والتوطيد وما سوف يصير.
فكل خلاف جاز في المفاضلة بين علي ومعاوية غير جائز في المفاضلة بين الحسين ويزيد، وإنما الموقف الحاسم بينهما، موقف الأريحية الصراح في مواجهة المنفعة الصراح، وقد بلغ كلاهما من موقفه أقصى طرفيه وأبعد غايتيه، فانتصر الحسين بأشرف ما في النفس الإنسانية من غيرة على الحق وكراهة للنفاق والمداراة، وانتصر يزيد بأرذل ما في النفس الإنسانية من جشع ومراء وخنوع لصغار المتع والأهواء.
أقام الحسين ليلته الأخيرة بكربلاء، وهو لا ينتظر من عاقبته غير الموت العاجل بعد سويعات، فأذن لأصحابه أن يتفرقوا عنه تحت الليل إن كانوا يستحيون أن يفارقوه في ضوء النهار، فأبوا إلا أن يموتوا دونه، وقال له مسلم بن عوسجة الأسدي: «أنحن نتخلى عنك، ولم نعذر إلى الله في أداء حقك؟ أما والله لا أفارقك حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضربهم بسيفي ما بقي قائمه بيدي، ولو لم يكن معي سلاحي لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك.» وقد بر بقسمه وبقي ومات، ودنا منه حبيب بن مظاهر وهو يجود بنفسه، فقال له: «لولا أني أعلم أني في أثرك لاحق بك لأحببت أن توصيني حتى أحفظك بما أنت له أهل.» فقال وكان آخر ما قال: «أوصيك بهذا - رحمك الله - أن تموت دونه.» وأومأ بيده نحو الحسين.
وقتل الحسين، وذهب الأمل في دولته ودولة الطالبيين من بعده إلى أجل بعيد، ولكنه كان يشتم بالكلمة العوراء فيهون على الرجل من أصحاب الأريحية أن يموت ولا يصبر على سماع تلك الكلمة، أو يترك الجواب عليها.
فلما نعي الحسين في الكوفة نادى واليها ابن زياد إلى الصلاة الجامعة، وصعد إلى المنبر، وخطب القوم فقال: «الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله، ونصر أمير المؤمنين يزيد بن معاوية وحزبه، وقتل الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي وشيعته.»
فما أتمها حتى وثب له من جانب المسجد شيخ ضرير هو عبد الله بن عفيف الأزدي الذي ذهبت إحدى عينيه يوم الجمل، وذهبت عينه الأخرى يوم صفين، فصاح بالوالي غداة يوم انتصاره وزهوه: «يابن مرجانة! أتقتل أبناء النبيين، وتقوم على المنبر مقام الصديقين؟ وإنما الكذاب أنت وأبوك والذي ولاك وأبوه.»
فما طلع عليه الصباح إلا وهو مصلوب.
إلى هذا الأفق الأعلى من الأريحية والنخوة ارتفعت بالنفس الإنسانية نصرة الحسين.
وإلى الأغوار المرذولة من الخسة والأثرة هبطت بالنفس الإنسانية نصرة يزيد. وحسبك من خسة ناصريه، أنهم كانوا يجزون بالحطام وهتك الأعراض على غزو «المدينة» النبوية واستباحة ذمارها فيسرعون إلى الجزاء، يسرعون إليه وليسوا هم بكافرين بالنبي الدفين في تلك المدينة، فيكون لهم عذر الإقدام على أمر لا يعتقدون فيه التحريم!
بل حسبك من خسة ناصريه أنهم كانوا يرعدون من مواجهة الحسين بالضرب في كربلاء؛ لاعتقادهم بكرامته وحقه، ثم ينتزعون لباسه ولباس نسائه فيما انتزعوه من أسلاب! ولو أنهم كانوا يكفرون بدينه وبرسالة جده، لكانوا في شرعة المروءة أقل خسة من ذاك. •••
وتتقابل وسائل النجاح في المزاجين كما تتقابل المقاصد والغايات.
فكان شعار معاوية وأشياعه: «إن لله جنودا من العسل.» وهو يعني العسل الذي يداف بالسم؛ ليخلي طريق النجاح من كل معترض فيها ولو كان من الأصدقاء، فكثرت روايات المؤرخين عن مقتل الحسن بن علي والأشتر النخعي بهؤلاء الجنود! وأعجب منها ما قيل عن مقتل عبد الرحمن بن خالد، وقد كان نصيرا لمعاوية في حروب الشام؛ فإنه قد مات مسموما على ما اشتهر من الروايات لأنه رشح للخلافة بعد معاوية دون يزيد، وعلم ذلك أقرباء عبد الرحمن بن خالد، فقتلوا طبيب معاوية «ابن أثال» الذي اتهموه بسمه في الدواء.
ولو استباح الحسين وشيعته هذه الوسائل مرة واحدة، لكانوا وشيكين أن يبلغوا مقصدهم من قريب، فقد كان هانئ بن عروة شيخ كندة من أنصار الحسين وأبيه، وكانت كندة كلها تطيعه وتلبيه حتى قيل إنه «إذا صرخ لباه منهم ألف سيف». فزاره عبيد الله بن زياد - والي يزيد على الكوفة - ليعوده في بعض مرضه ويتألفه ويستميله إليه، وقيل: إن هانئا عرض على مسلم بن عقيل بن أبي طالب أن يقتل عبيد الله بن زياد وهو عنده، وقيل: إن الذي عرض ذلك رجل من صحبة هانئ المقربين، فأبى مسلم ما عرضه هذا وذاك، وهو يومئذ طلبة ذلك الوالي، وجنوده قد تعقبوه وأهدروا دمه وأجزلوا الوعود لمن يسلمه أو يدل عليه، وقال: «إنا أهل بيت نكره الغدر.» ولو أنه بطش بابن زياد، لقد بطش يومئذ بأكبر أنصار يزيد.
وليقل من شاء: إن قتل ابن زياد كان صوابا راجحا.
وإن التحرج من قتله كان خطأ فادحا من وجهة السياسة أو من وجهة الأخلاق، فالذي لا يشك فيه أنه إن كان صوابا فهو صواب سهل يستطيعه كثيرون، وإن كان خطأ فهو الخطأ الصعب الذي لا يستطيعه إلا القليلون. •••
كذلك يقول من يقول: إن الأريحية التي سمت إليها طبائع أنصار الحسين، إنما هي أريحية الإيمان الذي يعتقد صاحبه أنه يموت في نصرة الحسين، فيذهب لساعته إلى جنات النعيم. فهؤلاء الذين يقولون هذا القول يجعلون المنفعة وحدها باعث الإنسان إلى جميع أعماله، حتى ما صدر منها عن عقيدة وإيمان، وينسون أن المنفعة وحدها لن تفسر لنا حتى الغرائز الحيوانية التي يصاب من جرائها الفرد طوعا أو كرها في خدمة نوعه، بل ينسون أن أنصار يزيد لا يكرهون جنات النعيم ولا يكفرون بها، فلماذا لم يطلبوها كما طلبها أنصار الحسين؟ إنهم لم يطلبوها لأنهم منقادون لغواية أخرى، ولأنهم لا يملكون عزيمة الإيمان ونخوة العقيدة، ولا تلك القوة الخلقية التي يتغلبون بها على رهبة الموت؛ ويقدعون بها وساوس التعلق بالعيش والخنوع للمتعة القريبة، فلولا اختلاف الطبائع لظهر شغف الناس جميعا بجنات النعيم على نحو واحد، ومضى الناس على سنة واحدة في الأريحية والفداء، ومرجع الأمر إذن في آخر المطاف إلى فرق واضح بين طبائع الأريحيين وطبائع النفعيين.
وكذلك يقول من يقول: إن الأريحية في نفوس أنصار الحسين كانت أريحية أفراد معدودين ثبتوا معه، ولم يخذلوه إلى يومه الأخير. وينسى هؤلاء أن الارتفاع ليقاس بالقمة الواحدة كما يقاس بالقمم الكثيرة، وأن الغور ليسبر في مكان واحد كما يسبر في كل مكان، وإنما تكون الندرة هنا أدل على جلالة المرتقى الذي تطيقه النفس الواحدة أو الأنفس المعدودات، ولا تطيقه نفوس الأكثرين.
فمدار الخلاف إذن في هذه الجولة التاريخية إنما هو الفارق الخالد بين مزاجين بارزين كائنا ما كان تفسير المفسرين للعقائد الروحية والمطامع السياسية، ولم يتلاق هذان المزاجان على تناحر وتناجز كما تلاقيا عامة في النزاع بين الطالبيين والأمويين، وخاصة في النزاع بين الحسين ويزيد.
فحياة الحسين - رضي الله عنه - صفحة لا صفحة تماثلها في توضيح الفارق بين خصائص هذين المزاجين، وبيان ما لكل منهما من عدة للنجاح في كفاح الحياة، سواء نظرنا إلى الأمد البعيد أو قصرنا النظر على الأمد القريب.
الفصل الثاني
الخصومة
أسباب التنافس والخصومة
قبل أن يقف الحسين ويزيد متناجزين، كانت الحوادث قد جمعت لهما أسباب التنافس والخصومة منذ أجيال، وكان هذا التنافس بينهما يرجع إلى كل سبب يوجب النفرة بين رجلين: من العصبية، إلى الترات الموروثة، إلى السياسة، إلى العاطفة الشخصية، إلى اختلاف الخليقة والنشأة والتفكير.
تنافس هاشم وأمية على الزعامة قبل أن يولد معاوية؛ فخرج أمية ناقما إلى الشام وبقي هاشم منفردا بزعامة بني عبد مناف في مكة، فكان هذا أول انقسام وتقسيم بين الأمويين والهاشميين: هؤلاء يعتصمون بالشام، وهؤلاء يعتصمون بالحجاز.
ثم علا نجم «أبي سفيان بن حرب بن أمية» في الحجاز، فأصبحت له زعامة مرموقة إلى جانب الزعامة الهاشمية، فلما ظهرت الدعوة المحمدية أخذته الغيرة على زعامته، فكان في طليعة المحاربين للدعوة الجديدة، وندرت غزوة من الغزوات لم تكن فيها لأبي سفيان إصبع ظاهرة في تأليب القبائل وجمع الأموال، وشاءت المصادفات زمنا من الأزمان أن يظل وحده على زعامة قريش في حربها للنبي
صلى الله عليه وسلم ، فمات الوليد بن المغيرة زعيم مخزوم، ودان زعماء تيم وبني عدي وغيرهم من البطون القرشية الصغيرة بالإسلام، وبقي أبو سفيان وحده على رأس الزعامة الجاهلية والزعامة الأموية في منازلة النبي ومن معه من المهاجرين والأنصار، وبلغ من تغلغل العداء في هذه الأسرة للنبي
صلى الله عليه وسلم
أن أبا لهب عمه كان أوحد أعمامه في الكيد له والتأليب عليه؛ وإنما جاءه هذا من بنائه بأم جميل بنت حرب، أخت أبي سفيان التي وصفها القرآن بأنها «حمالة الحطب»؛ كناية عن السعي في الشر وتأريث نار البغضاء.
ثم فتحت مكة، فوقف أبو سفيان ينظر إلى جيش المسلمين، ويقول للعباس بن عبد المطلب: «والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيما.» فلما قال العباس: «إنها النبوة.» قال: «نعم إذن!»
وقد أسلم أبو سفيان وابنه معاوية عند فتح مكة، وكان إسلام بيته أعسر إسلام عرف بعد فتحها، فكانت زوجه هند بنت عتبة تصيح في القوم بعد إسلامه: «اقتلوا الخبيث الدنس الذي لا خير فيه، قبح من طليعة قوم، هلا قاتلتم ودفعتم عن أنفسكم وبلادكم!» •••
وظل أبو سفيان إلى ما بعد إسلامه زمنا يحسب غلبة الإسلام غلبة عليه، فنظر إلى النبي مرة، وهو بالمسجد نظرة الحائر المتعجب وهو يقول لنفسه: «ليت شعري بأي شيء غلبني!» فلم يخف عن النبي
صلى الله عليه وسلم
معنى هذه النظرة، وأقبل عليه حتى ضرب يده بين كتفيه، وقال له: «بالله غلبتك يا أبا سفيان!»
وكان في غزوة حنين يشهد المسلمين هزيمة الأولى فيقول: «ما أراهم يقفون دون البحر!» وقيل إنه كان في حروب الشام يهتف كلما تقدم الروم: «إيه بني الأصفر!» فإذا تراجعوا عاد فقال: «ويل لبني الأصفر!» •••
وقد تألفه النبي
صلى الله عليه وسلم
ما استطاع قبل فتح مكة وبعد فتحها، فتزوج بنته أم حبيبة قبل الفتح، وجعل بيته بعد الفتح حرما «من دخله فهو آمن ومن أغلق عليه داره فهو آمن.» وأقامه على رأس المؤلفة قلوبهم الذين يزاد لهم في العطاء عسى أن يذهب ما في نفوسهم من الكراهة لغلبة الإسلام.
ومع هذا كان المسلمون يوجسون منه فلا ينظرون إليه ولا يقاعدونه، حتى برم بذلك، وأحب أن يمسح ما بصدورهم من قبله؛ فتوسل إلى النبي أن يجعل معاوية كاتبا بين يديه، وأن يأمره ليقاتل الكفار كما كان يقاتل المسلمين.
ثم قبض النبي
صلى الله عليه وسلم ، ونجم الخلاف على مبايعة الخليفة بعده بين المهاجرين والأنصار وبين بعض الصحابة من جهة أخرى. فاشرأب أبو سفيان إلى هذه الفتنة، وخيل إليه أنه مصيب بين فتوقها ثغرة ينفذ منها إلى السيادة على قريش، ثم السيادة من هذا الطريق على الأمة الإسلامية بأسرها. فدخل على «علي» والعباس، يثيرهما ويعرض عليهما المعونة بما في وسعه من خيل ورجل، فنادى بهما: «يا علي! وأنت يا عباس! ... ما بال هذا الأمر في أذل قبيلة من قريش وأقلها؟ والله لو شئت لأملأنها عليه - على أبي بكر - خيلا ورجلا، وآخذنها عليه من أقطارها.»
وهو لا ريب لم يغضب لأن الخلافة قد فاتت بني هاشم، ولا كان يسره أن تصير الخلافة إليهم فتستقر فيهم قرارا لا طاقة له بتحويله، ولكنه أراد خلافا يفتح الباب لزعامة أموية يملك بها زمام قريش والدولة العربية جمعاء.
فلم يخف مقصده هذا على «علي» رضي الله عنه، وقال له: «لا والله لا أريد أن تملأها عليه خيلا ورجلا، ولولا أننا رأينا أبا بكر لذلك أهلا ما خليناه وإياها.»
ثم أنبه قائلا: «يا أبا سفيان! إن المؤمنين قوم نصحة بعضهم لبعض، وإن المنافقين قوم غششة بعضهم لبعض، متخاونون وإن قربت ديارهم وأبدانهم.»
وانقضت خلافة أبي بكر وخلافة عمر، والأمور تجري في مجراها الذي يأخذ على المطامع سبيلها، ويخيف أصحاب الفتن أن يبرزوا بها من جحورها.
حتى قامت خلافة عثمان بن عفان فانتصر بها الأمويون أيما انتصار؛ لأنه رأس من رءوسهم وابن عم قريب لزعماء بيوتهم، وأصبحت الدولة الإسلامية أموية لا يطمع في خيراتها ولا ولاياتها إلا من كان من أمية أو من حزبها، فمروان بن الحكم وزير الخليفة الأكبر يغدق العطاء على الأقرباء ويحبسه عن سائر الناس، ومعاوية بن بي سفيان والي الشام يجتذب إليه الأقرباء والأولياء ومن يرجى منهم العون ويخشى منهم الخلاف.
فلما قتل عثمان - رضي الله عنه - كان المنتفعون بمناصب الدولة وأموالها جميعا من الأمويين أو من صنائعهم المقربين، ومال السلطان إلى جانب أمية على كل جانب آخر من القرشيين وغير القرشيين. •••
لا جرم كان الصراع بعد ذلك صراعا معروف النهاية من مطلع البداية، فقتل علي بن أبي طالب غيلة، وخلصت الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان.
ثم بايع أناس من أهل العراق وفارس الحسن بن علي، فلم يستقم له أمرهم، وضاق صدره بجدالهم ومحالهم، وكان رجلا سكيتا يكره المنازعة ويجنح إلى العزلة، فصالح معاوية على شروط وفى له معاوية بالمعجل منها والتوى عليه بمؤجلها، وزاد على ذلك كما تواتر في شتى الروايات أنه أغرى امرأته «جعدة بنت الأشعث» بسمه، ووعدها أن يزوجها يزيد ويعطيها مائة ألف درهم، فوفى بوعد المال ولم يف بوعد الزواج.
وقد أوصى الحسن - رضي الله عنه - أن يدفن عند قبر جده إلا أن تخاف فتنة، فلما توفي أرادوا دفنه حيث أوصى، فقام مروان بن الحكم وجمع بني أمية وزمرتهم ومنعوا مشيعيه. فأنكر الحسين عليهم منع سبط النبي أن يدفن إلى جوار جده، فقيل له: «إن أخاك قال إذا خفتم الفتنة ففي مقابر المسلمين سعة. وهذه فتنة.» فسكت على مضض.
أهداف معاوية
وقد كان معاوية ولا ريب ينوي أن يجعلها دولة أموية متعاقبة في ذريته من بعده، منذ تصدى للخلافة، وخلا له المجال من أقوى منافسيه، إلا أنه كان يتردد ويتكتم ولا يفضي بنيته إلى أقرب المقربين إليه، ثم كبرت سنه وخاف أن يعجل عن قصده، فمهد لبيعة ابنه يزيد بعض التمهيد، وتوسل إلى ذلك بما طاب له من وسيلة؛ فلباه أهل الشام وكتب بيعته إلى الآفاق، ثم همه أمر الحجاز فكتب إلى مروان بن الحكم عامله أن يجمع من قبله لأخذ البيعة منهم ليزيد، فأبى مروان وأغرى رءوس قريش بالإباء لأنه كان يتطلع إلى الخلافة بعد معاوية ويحسبه أقدر عليها من يزيد؛ لما اشتهر به من نقص وعبث ... فعزله معاوية وولى سعيد بن العاص مكانه، فلم يجبه أحد إلى ما أراد، فكتب معاوية إلى عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن جعفر، والحسين بن علي، وأمر عامله سعيدا أن يوصل كتبه إليهم ويبعث إليه بجواباتها، وقال لسعيد: «فهمت ما ذكرت من إبطاء الناس، وقد كتبت إلى رؤسائهم كتبا فسلمها إليهم، ولتشد عزيمتك وتحسن نيتك، وعليك بالرفق، وانظر حسينا خاصة فلا يناله منك مكروه، فإن له قرابة وحقا عظيما لا ينكره مسلم ولا مسلمة، وهو ليث عرين، ولست آمنك إن ساورته ألا تقوى عليه.» •••
فأعيت سعيد بن العاص كل حيلة في إقناع وجهاء الناس وعامتهم بهذه البيعة البغيضة، وخف معاوية إلى مكة ومعه الجند وحقائب الأموال، ودعا بأولئك النفر ، فقال لهم: «قد علمتم سيرتي فيكم وصلتي لأرحامكم، يزيد أخوكم وابن عمكم، وأردت أن تقدموا يزيد باسم الخلافة، وتكونوا أنتم تعزلون وتؤمرون، وتجبون المال وتقسمونه.»
فأجاب عبد الله بن الزبير، وخيره بين أن يصنع كما صنع رسول الله إذ لم يستخلف أحدا، أو كما صنع أبو بكر إذ عهد إلى رجل ليس من بني أبيه، أو كما صنع عمر إذ جعل الأمر شورى في سته نفر ليس فيهم أحد من ولده ولا من بني أبيه.
فقال معاوية مغضبا: «هل عندك غير هذا؟»
قال: «لا!»
والتفت إلى الآخرين يسألهم قائلا: «فأنتم؟» فوافقوا ابن الزبير.
فقال متوعدا: «أعذر من أنذر! إني كنت أخطب فيكم فيقوم إلي القائم منكم فيكذبني على رءوس الناس فأحمل ذلك وأصفح، وإني قائم بمقالة، فأقسم بالله لئن رد علي أحدكم كلمة في مقامي هذا، لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف إلى رأسه، فلا يبقين رجل إلا على نفسه!»
ثم أمر صاحب حرسه أن يقيم على رأس كل منهم رجلين مع كل واحد منهما سيف، وقال له: «إن ذهب رجل منهم يرد علي كلمة بتصديق أو تكذيب، فليضرباه بسيفيهما.»
ثم خرج بهم إلى المسجد ورقي المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم لا يبرم أمر دونهم ولا يقضى إلا على مشورتهم، وإنهم قد رضوا وبايعوا ليزيد فبايعوه على اسم الله.» فبايع الناس.
وهكذا كانت البيعة ليزيد في الحجاز. •••
ومات معاوية وهو يعلم أن بيعة كهذه لا تجوز ولا تؤمن عقباها؛ فأوصى ابنه «أنه لا يخاف إلا هؤلاء من قريش: الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير». قال: «فأما عبد الله بن عمر فرجل قد وقذته العبادة وإذا لم يبق أحد غيره بايعك، وأما الحسين بن علي فلا أظن أهل العراق تاركيه حتى يخرجوه، فإن خرج عليك فظفرت به فاصفح عنه، فإن له رحما ماسة وحقا عظيما، أما ابن الزبير فإنه خب ضب، فإذا أمكنته فرصة وثب، فإن هو فعلها فقدرت عليه، فقطعه إربا إربا إلا أن يلتمس منك صلحا، فإن فعل فاقبل واحقن دماء قومك ما استطعت.»
خلافة يزيد
وآل الأمر على هذا النحو إلى يزيد في سنة ستين للهجرة، وهو بين الرابعة والثلاثين والخامسة والثلاثين، ولكنه دون أنداده في تجارب الأيام، وليس حوله من المشيرين والنصحاء أمثال المغيرة وزياد وعمرو بن العاص، وغيرهم من القروم الذين كانوا حول أبيه؛ فتهيب ما هو مقدم عليه، وكتب إلى عامله بالمدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان: أن «خذ حسينا وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذا شديدا ليست فيه رخصة حتى يبايعوا، والسلام».
فبعث الوليد إلى مروان بن الحكم يستشيره، وكان مروان يريد الخلافة لنفسه، ولكنه علم بعد موت معاوية وقيام يزيد أن الأمر اليوم أمر بني أمية، فإن خرج منهم فقد خرج منهم أجمعين، فنصح للوليد نصيحة ذات وجهين: ظاهرها الشدة في الدعوة ليزيد، وباطنها السعي إلى الخلاص من يزيد ومنافسيه. فقال: «أرى أن تبعث الساعة إلى هؤلاء النفر فتدعوهم إلى البيعة، أما ابن عمر فلا أراه يرى القتال، ولكن عليك بالحسين وعبد الله بن الزبير، فإن بايعا وإلا فاضرب أعناقهما.»
وضرب عنق الحسين وابن الزبير معناه الخلاص من أعظم المنافسين ليزيد، ثم الخلاص من زيد نفسه بإثارة النفوس وإيغار الصدور عليه! •••
وقد ذهب رسول الوليد إلى الحسين وابن الزبير، فوجدهما في المسجد؛ فعلم الحسين ما يراد منه، وجمع طائفة من مواليه يحملون السلاح، وقال لهم وهو يدخل بيت الوليد: «إن دعوتكم أو سمعتم صوتي قد علا فاقتحموا علي بأجمعكم، وإلا فلا تبرحوا حتى أخرج عليكم.»
فلما عرضوا عليه البيعة ليزيد قال: «أما البيعة فإن مثلي لا يعطي بيعته سرا، ولا أراك تقنع بها مني سرا.»
قال الوليد: «أجل!»
قال الحسين: «فإذا خرجت إلى الناس فدعوتهم إلى البيعة دعوتنا معهم فكان الأمر واحدا.»
ثم انصرف ومروان غاضب صامت لا يتكلم، وما هو إلا أن توارى الحسين حتى صاح بالوليد: «عصيتني والله! لا قدرت منه على مثلها أبدا حتى تكثر القتلى بينكم وبينه.»
فأنكر الوليد لجاجته وقال له: «أتشير علي بقتل الحسين! والله إن الذي يحاسب بدم الحسين يوم القيامة لخفيف الميزان عند الله.» •••
وهكذا انتهت المنافسة بين بني أمية وبني هاشم إلى مفترق طريق لا سبيل فيه إلى توفيق، ولم تنقطع قط سلسلة هذه المنافسة منذ أجيال، وإن غلبها الإسلام في عهد النبوة، وفي عهد الصديق والفاروق.
وكفى بالإسلام فضلا في هذا المجال أنه غلب العصبية بالعقيدة، فجعلها تابعة لها غير قادرة على الجهر بمخالفتها! ولكن العصبية المكبوحة عصبية موجودة غير معدومة. •••
وكثيرا ما يفلت المكبوح من عنانه، وإن طالت به الرياضة والانقياد.
فاتفق كثيرا في مساجلات شتى بين كبار الصحابة، أن بدرت إلى اللسان بوادر العصبية والنبي
صلى الله عليه وسلم
حاضر، فلما أشار عمر بقتل أبي سفيان - على خلاف رأي العباس في استبقائه وتألفه - قال العباس: «مهلا يا عمر! فوالله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت مثل هذا، ولكنك قد عرفت أنه من رجال عبد مناف.»
ولما توثب أسيد بن حضير لضرب أعناق المفترين على السيدة عائشة، ثار به سعد بن عبادة وصاح به: «كذبت لعمر الله! ما تضرب أعناقهم، أما والله ما قلت هذا المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك - الأوس - ما قلت هذا.»
وقد مات الفاروق وهو يوصي عليا فيقول: «اتق الله يا علي، إن وليت شيئا فلا تحملن بني هاشم على رقاب المسلمين.» ثم يلتفت إلى عثمان فيقول له: «اتق الله، إن وليت شيئا فلا تحملن بني أمية على رقاب المسلمين.» •••
ومن عجائب الحيل التي تحاول بها الغرائز الإنسانية أن تبقي وجودها وتمضي لطيتها، أن بني أمية انتفعوا من حرب الإسلام للعصبية في تعزيز عصبيتهم، فجعلوها حجة على بني هاشم أن النبوة لا تحصر الأمر فيهم، وأن الأنبياء لا يورثون. وإذا نهضت هذه الحجة على بني هاشم، فبنو أمية أقوى المنتفعين بها من بطون عبد مناف!
وقد أوجبت الضرورة قبول المجاملة في هذه المنافسات فترة من الزمن على عهد معاوية بن أبي سفيان، فكان يلطف القول إلى أبناء علي ويواليهم بالهدايا والمجاملات، ولكنه كان مضطرا إلى مجاملة آل علي ومضطرا إلى تنقص علي والغض من دعواه، فكان بذلك مضطرا إلى النقيضين في آن.
إنه ملك وبايع بالملك ليزيد وهو يعلم أنه غالب بالسلاح والمال، مغلوب بالسمعة والشعور، فكان الناس يفضلون عليا عليه، وهو لا يملك أن يفاضله بقرابة النبي، ولا بالسابقة إلى الإسلام، ولا بالعراقة في قريش، فتجنب النسب والسابقة، وعمد إلى شخص علي في منازعات الخلافة؛ فاتهمه بتفرقة الكلمة بين المسلمين، وأمر بلعنه على المنابر عسى أن يضعف من تلك المكانة التي هو مغلوب بها، ويستبقي الدولة التي هو بها غالب، ولج في ذلك حتى قتل أناسا لم يطيعوه في لعن علي واتهامه، وأبى أن يجيب الحسن بن علي إلى شرطه الذي أراد به أن يرفع اللعن عن أبيه. وكان معاوية على حصافته يجهل أنه قد أضاع سمعة وشعورا من حيث حارب عليا في مقام السمعة والشعور.
وإن مجاملة كهذه التي تحيي الرجل وتغض من قدر أبيه لهي أضعف مجاملة بين متلاقيين، فضلا عن خصمين متنافسين قد آل بهما التنافس بعد أجيال إلى مفترق الطريق.
زواج الحسين
وكأنما كانت هذه المنافسة المؤصلة الجذور لا تكفي قصاص التاريخ، فأضاف إليها أناس من ثقاتهم قصة منافسة أخرى هي وحدها كافية للنفرة بين قلبين متآلفين، وهي قصة زواج الحسين - رضي الله عنه - بزينب بنت إسحاق التي كان يهواها يزيد هوى أدنفه وأعياه.
وكانت زينب هذه على ما قيل أشهر فتيات زمانها بالجمال، وكانت زوجة لعبد الله بن سلام القرشي والي العراق من قبل معاوية.
فمرض يزيد بحبها وأخفى سره عن أهله، حتى استخرجه منه بعض خصيان القصر الذين يعينونه على شهواته، فلما علم أبوه سر مرضه أرسل في طلب عبد الله بن سلام، واستدعى إليه أبا هريرة وأبا الدرداء، فقال لهما: إن له ابنة يريد زواجها ولم يرض لها حليلا غير ابن سلام ؛ ولدينه وفضله وشرفه ورغبة معاوية في تكريمه وتقريبه، فخدع ابن سلام بما بلغه وفاتح معاوية في خطبة ابنته، فوكل معاوية الأمر إلى أبي هريرة ليبلغها ويستمع جوابها، فكان جوابها المتفق عليه بينها وبين أبيها أنها لا تكره ما اختاروه، ولكنها تخشى الضر وتشفق أن يسوقها إلى ما يغضب الله، فطلق ابن سلام زوجته واستنجز معاوية وعده، فإذا هو يلويه به، ويقول بلسان ابنته إنها توجس من رجل يطلق زوجته وهي ابنة عمه وأجمل نساء عصره.
وقيل إن الحسين سمع بهذه المكيدة، فسأل أبا هريرة أن يذكره عند زينب خاطبا، فصدع أبو هريرة بأمره، وقال لزينب: «إنك لا تعدمين طلابا خيرا من عبد الله بن سلام.»
قالت: «من؟» قال: «يزيد بن معاوية والحسين بن علي، وهما معروفان لديك بأحسن ما تبتغينه في الرجال.»
واستشارته في اختيار أيهما، فقال: «لا أختار فم أحد على فم قبله رسول الله، تضعين شفتيك في موضع شفتيه.»
فقالت: «لا أختار على الحسين بن علي أحدا، وهو ريحانة النبي، وسيد شباب أهل الجنة.»
فقال معاوية متغيظا:
أنعمي أم خالد
رب ساع لقاعد
ولم يلبث الحسين أن ردها إلى زوجها قائلا: «ما أدخلتها في بيتي وتحت نكاحي رغبة في مالها ولا جمالها، ولكن أردت إحلالها لبعلها.»
فإن صحت هذه القصة وهي متواترة في تواريخ الثقات، فقد تم بها ما نقص من النفرة والخصومة بين الرجلين، وكان قيام يزيد على الخلافة يوم فصل في هذه الخصومة لا يقبل الإرجاء، وكان بينهما كما أسلفنا مفترق طريق.
الفصل الثالث
الخصمان
موازنة
لخص المقريزي المنافسة التي بين الهاشميين والأمويين في بيتين فقال:
عبد شمس قد أضرمت لبني ها
شم حربا يشيب منها الوليد
فابن حرب للمصطفى، وابن هند
لعلي، وللحسين يزيد
وسنعرض في ختام هذا الفصل عرضا موجزا لهذه المقابلة المتسلسلة بين أفراد الأسرتين لتحقيق الرأي فيها، ولكننا نجتزئ هنا بالمقابلة بين الخصمين المتصاولين من هاشم وعبد شمس في شخصي الحسين ويزيد؛ فأيا كان الميزان الذي يوزن به كل من الرجلين، فلا مراء البتة في خير الرجلين.
وما من رجل فاز حيث ينبغي أن يخيب، كما قد فاز يزيد بن معاوية في حربه للحسين، وما اختصم رجلان كان أحدهما أوضح حقا وأظهر فضلا من الحسين في خصومته ليزيد بن معاوية.
والموازنة بين هذين الخصمين هي في بعض وجوهها موازنة بين الهاشميين والأمويين من بداءة الخلاف بين الأسرتين، وهي موازنة حفظت كفتيها على وضعهما زهاء سبعة قرون، فلم يظهر في هذه القرون أموي قح، إلا ظهرت فيه الخصال الأموية المعهودة في القبيلة بأسرها، ولم يظهر في خلالها هاشمي قح، إلا رأيت فيه ملامح من تلك الخصال التي بلغت مثلها الأعلى في محمد بن عبد الله
صلى الله عليه وسلم .
والهاشميون والأمويون من أرومة واحدة ترتفع إلى عبد مناف، ثم إلى قريش في أصلها الأصيل.
ولكن الأسرتين تختلفان في الأخلاق والأمزجة وإن اتحدتا في الأرومة؛ فبنو هاشم في الأغلب الأعم مثاليون أريحيون ولا سيما أبناء فاطمة الزهراء، وبنو أمية في الأغلب الأعم عمليون نفعيون، ولا سيما الأصلاء منهم في عبد شمس من الآباء والأمهات.
وتفسير هذا الاختلاف مع اتحاد الأرومة غير عسير؛ فإن الأخوين في البيت الواحد قد يختلفان في الأخلاق والأعمال، كما يختلف الغريبان من أمتين بعيدتين، تبعا لاختلاف سلسلة الميراث في الأصول والفروع، على ذلك النحو الذي يأذن أحيانا باختلاف الألوان والملامح في نسل واحد، تأخذ كل شعبة منه بناحية من نواحي الوراثة. •••
ومن الثابت الذي لا نزاع فيه أن عبد المطلب وأمية كانا يختلفان حتى في الصورة والقامة والملامح.
وفي نسل أمية شبهة نشير إليها ولا نزيد، فهي محل الإشارة والمراجعة في هذا المقام.
دخل دغفل النسابة على معاوية فقال له: «من رأيت من عليه قريش؟» فقال: «رأيت عبد المطلب بن هاشم وأمية بن عبد شمس.» فقال: «صفهما لي.» فقال: «كان عبد المطلب أبيض، مديد القامة، حسن الوجه، في جبينه نور النبوة وعز الملك، يطيف به عشرة من بنيه كأنهم أسد غاب.» قال: «فصف أمية.» قال: «رأيته شيخا قصيرا، نحيف الجسم ضريرا، يقوده عبده ذكوان.» فقال معاوية: «مه! ذاك ابنه أبو عمرو.» فقال دغفل: «ذلك شيء قلتموه بعد وأحدثتموه. وأما الذي عرفت فهو الذي أخبرتك به.»
وذكر الهيثم بن عدي في كتاب المثالب أن أبا عمرو بن أمية كان عبدا لأمية اسمه ذكوان فاستلحقه، ونقل أبو الفرج الأصفهاني - وهو من الأمويين - ما تقدم فلم يعرض له بتفنيد.
ووضح الفرق بين بني هاشم وبني أمية في الخلائق والمناقب في الجاهلية قبل الإسلام. فكان الهاشميون سراعا إلى النجدة ونصرة الحق والتعاون عليه. ولم يكن بنو أمية كذلك، فتخلفوا عن حلف الفضول الذي نهض به بنو هاشم وحلفاؤهم، وهو الحلف الذي اتفق فيه نخبة من رؤساء قريش «ليكونن مع المظلوم حتى يؤدوا إليه حقه، وليأخذن أنفسهم بالتآسي في المعاش والتساهم في المال، وليمنعن القوي من ظلم الضعيف والقاطن من عنف الغريب»، واتفقوا على هذا الحلف لأن العاص بن وائل اشترى بضاعة من رجل زبيدي ولواه بثمنها، فنصروا الرجل الغريب على القرشي وأعطوه حقه.
ولما تنافر عبد المطلب وحرب بن أمية إلى نفيل بن عدي، قضى لعبد المطلب وقال لحرب:
أبوك معاهر وأبوه عف
وذاد الفيل عن بلد الحرام
يشير إلى فيل أبرهة الذي أغار به على مكة، وقال عن أمية إنه «معاهر»؛ لأنه كان يتعرض للنساء، وقد ضرب بالسيف مرة لأنه تعرض لامرأة من بني زهرة، وكان له تصرف عجيب في علاقات الزواج والبنوة، فاستلحق عبده ذكوان وزوجه امرأته في حياته، ولم يعرف سيد من سادات الجاهلية قط صنع هذا الصنيع.
اختلاف النشأة
وندع اختلاف الطبائع ومغامز النسب، ثم ننظر في اختلاف النشأة والعادة - مع اختلاف الخلقة الجسدية - فنرى أنهما صالحتان لتفسير الفارق بين أبناء هاشم وأبناء عبد شمس بعد جيلين أو ثلاثة أجيال.
فقد كان بنو هاشم يعملون في الرئاسة الدينية، وبنو عبد شمس يعملون في التجارة أو الرئاسة السياسية، وهما ما هما في الجاهلية من الربا والمماكسة والغبن والتطفيف والتزييف، فلا عجب أن يختلفا هذا الاختلاف بين أخلاق الصراحة وأخلاق المساومة، وبين وسائل الإيمان ووسائل الحيلة على النجاح.
ويتفق كثيرا في الكهانات أن يتصف رؤساء الأديان بصفات الرياء والدهاء والعبث بأحلام الأغرار والجهلاء، ولكنهم يتصفون بهذه الصفة حين يعلمون الكذب فيما يمارسون من شعائر الكهانة ومظاهر العبادة، ويتخذونها صناعة يروجونها لمنفعتهم أو لما يقدرون فيها من منفعة أولئك الأغرار والجهلاء.
أما أبناء هاشم فلم يكونوا من طراز أولئك الكهان المشعوذين، ولا كانوا من المحتالين بالكهانة على خداع أنفسهم وخداع المؤمنين والمصدقين؛ بل كانوا يؤمنون بالبيت ورب البيت، وبلغ من إيمانهم بدينهم أن عبد المطلب جد النبي
صلى الله عليه وسلم
أوشك أن يذبح ابنه فدية لرب البيت؛ لأنه نذر «لئن عاش له عشرة بنين لينحرن أحدهم عند الكعبة»، ولم يتحلل من نذره حتى استوثق من كلام العرافة بعد رمي القداح ثلاث مرات. •••
والأخلاق المثالية توائم الرئاسة الدينية التي يدين أصحابها بما يدعون إليه، فإن لم تكن في بني هاشم موروثة من معدن أصيل في الأسرة، فهي أشبه بسمت الرئاسة الدينية والعقيدة المتمكنة والشعائر المتبعة جيلا بعد جيل، وهي أخلق أن تزداد في الأسرة تمكنا بعد ظهور النبوة فيها، وأن يتلقاها بالوراثة والقدوة أسباط النبي وأقرب الناس إليه.
وإنك لتنحدر مع أعقاب الذرية في الطالبيين - أبناء علي والزهراء - مائة سنة ومائتي سنة وأربعمائة سنة، ثم يبرز لك رجل من رجالها فيخيل إليك أن هذا الزمن الطويل لم يبعد قط بين الفرع وأصله في الخصال والعادات، كأنما هو بعد أيام معدودات لا بعد المئات وراء المئات من السنين، ولا تلبث أن تهتف عجبا: إن هذه لصفات علوية لا شك فيها؛ لأنك تسمع الرجل منهم يتكلم ويجيب من يكلمه، وتراه يعمل ويجزي من عمل له، فلا تخطئ في كلامه ولا في عمله تلك الشجاعة والصراحة، ولا ذلك الذكاء والبلاغ المسكت، ولا تلك اللوازم التي اشتهر بها علي وآله وتجمعها في كلمتين اثنتين تدلان عليها أو في دلالة، وهما: «الفروسية والرياضة».
طبع صريح، ولسان فصيح، ومتانة في الأسر يستوي فيها الخلق والخلق، ونخوة لا تبالي ما يفوتها من النفع إذا هي استقامت على سنة المروءة والإباء.
فمن يحيى بن عمر، إلى علي بن أبي طالب، خمسة أو ستة أجيال. ولكن يحيى بن عمر يوصف لك، فإذا هو صورة مصغرة من صور علي بن أبي طالب على نحو من الأنحاء، فمن أوصافه التي وصفه بها الكاتب الأموي أبو الفرج الأصبهاني أنه كان «رجلا فارسا، شجاعا، شديد البدن، مجتمع القلب، بعيدا عن رهق الشباب وما يعاب به مثله».
ومما روي عنه «أنه كان مقيما ببغداد، وكان له عمود حديد ثقيل يكون معه في منزله، وربما سخط على العبد أو الأمة من حشمه؛ فيلوي العمود في عنقه فلا يقدر أحد أن يحله عنه حتى يحله يحيى رضي الله عنه».
ولما ضايقه الأمراء وضنوا عليه بجرايته في بيت المال، كان يجوع ويعرض عليه الطعام فيأباه ويقول: «إن عشنا أكلنا.»
ثم ثار وبلغت أنباء ثورته بغداد، فأقبلت عليهم الجموع المحشودة لقتاله، وأسرع إليه بعض الأعراب فصاح به: «أيها الرجل أنت مخدوع، هذه الخيل قد أقبلت.» فوثب إلى متن فرسه فجال به، وحمل على قائد القوم فضربه ضربة بسيفه على وجهه، فولى منهزما وتبعه أصحابه، فجلس معهم ساعة وهو لا يبالي ما يكون. •••
ولما تكاثرت عليه الجموع وقتل بعد ذلك، اتهم الناس صاحبه الهيضم العجلي أنه كان مدسوسا عليه، وأنه غرر به لينكص عنه عند احتدام القتال، فأقسم الرجل بالطلاق إنه لم يكن له في الهزيمة صنع مدبر. قال: «وإنما كان يحيى يحمل وحده ويرجع، فنهيته عن ذلك فلم يقبل، وحمل مرة كما كان يفعل، فبصرت عيني به وقد صرع في وسط عسكرهم، فلما رأيته قتل انصرفت بأصحابي.»
ويحيى الشهيد هذا هو الذي قال ابن الرومي جيميته المشهورة في وصف قتاله ومقتله، وهي طويلة، منها قوله يخاطب أمراء زمانه:
فلو شهد الهيجا بقلب أبيكم
غداة التقى الجمعان والخيل تمعج
1
لأعطى يد العاني أو ارتد هاربا
كما ارتد بالقاع الظليم
2
المهيج
ولكنه ما زال يغشى بنحره
شبا الحرب حتى قال ذو الجهل: أهوج
وحاشى له من تلكم غير أنه
أبى خطة الأمر الذي هو أسمج
وأين به عن ذاك؟ لا أين، إنه
إليه بعرقيه الزكيين محرج
كأنى به كالليث يحمي عرينه
وأشباله لا يزدهيه المهجهج
كدأب علي في المواطن قبله - أبي حسن - والغصن من حيث يخرج
كأني أراه إذ هوى عن جواده
وعفر بالترب الجبين المشجج
فحب به جسما إلى الأرض إذ هوى
وحب به روحا إلى الله تعرج •••
وقد أصاب ابن الرومي الوصف والتعليل، فما كان كل من يحيى ولا أسلافه من قبله إلا عليا صغيرا يتأسى بعلي الكبير، أو غصنا زاكيا يخرج من دوحته الكبرى، «والغصن من حيث يخرج» كما قال، ولولا قوة هذه الطبائع في أساس الأسرة الطالبية لما انحدرت على هذه الصورة الواضحة بعد ستة أجيال، فنحن نرى يحيى بن عمر بعد هذه الأجيال - وهو بعموده الحديدي وجرأته التي لا تتزعزع ويقينه الذي لا يلوي به الإغراء والوعيد - كأنما هو نسخة أخرى من جده الكبير الذي يحمل باب خيبر وقد أعيا حمله الرجال، وينهد لعمرو بن ود وقد تهيبه مئات الأبطال، ويتوسط الصفوف حاسرا وقد برزوا له بشكة القتال ودروع النزال.
ولم يكن لبني أمية - على نقيض هذا - نصيب ملحوظ من الخلائق المثالية والشمائل الدينية، ولا كان ظهور النبوة في أسرة منافسة لأسرتهم من شأنه أن يعزز مناقبها فيهم كما يعتز بها أبناء بيتها وفروع أرومتها؛ بل لعله كان من شأنه أن يجنح بهم من طرف خفي إلى صفات تقابل تلك الصفات، ومزايا تعوض لهم ما فاتهم من تلك المزايا، فتمكنت فيهم قبل ظهور النبوة وبعدها خلائقهم العملية التي دربتهم عليها المساومات التجارية، وراضهم عليها مراس المطامع السياسية، فاشتهر أناس من رءوسهم بمحاسن هذه الخلائق ومعائبها على السواء، وشاعت عنهم صفات الحلم والصبر والحنكة والدهاء كما شاعت عنهم صفات المراوغة والجشع والإقبال على الترف ومناعم الحياة. •••
ولقد تقابل الحسين بن علي ويزيد بن معاوية في تمثيل الأسرتين، كما تقابلا في كثير من الخلائق والحظوظ، ولكنهما تفاوتا في تمثيل أسرتيهما كما تفاوتا في غير ذلك من وجوه الخلاف بينهما، فكان الحسين بن علي نموذجا لأفضل المزايا الهاشمية ولم يكن يزيد بن معاوية نموذجا لأفضل المزايا الأموية؛ بل كان فيه الكثير من عيوب أسرته، ولم يكن له من مناقبها المحمودة إلا القليل.
وليس بنا هنا أن نفصل القول في أحوال كل من الرجلين وخصائص كل من النموذجين، ولكننا نجتزئ منهما بما يملأ الكفتين في هذا الميزان، وهو ميزان الأريحية والنفعية في حادث كبير من حوادث التاريخ العربي يندر نظيره في جميع التواريخ.
مكانة الحسين
وإذا كانت المعركة كلها هي معركة الأريحية والنفعية، فالمزية الأولى التي ينبغي توكيدها هنا للحسين بن علي - رضي الله عنه - هي مزية نسبه الشريف ومكانه من محبة النبي
صلى الله عليه وسلم .
إن المؤرخ الذي يكتب هذا الحادث قد يكون عربيا مسلما أو يكون من غير العرب والمسلمين، وقد يؤمن بمحمد أو ينكر محمدا وغيره من الأنبياء، ولكنه يخطئ دلالة الحوادث التاريخية إذا استخف بهذه المزية التي قلنا إنها أحق مزايا الحسين بالتوكيد في الصراع بينه وبين يزيد.
فليس المهم أن يؤمن المؤرخون بقيمة ذلك النسب الشريف في نفوسهم أو قيمته في علوم العلماء وأفكار المفكرين، ولكنما المهم أن أتباع يزيد كانوا يؤمنون بحق ذلك النسب الشريف في الرعاية والمحبة، وأنهم مع هذا غلبتهم منافعهم على شعورهم فكانوا من حزب يزيد ولم يكونوا من حزب الحسين.
فلولا هذه المزية في الحسين لما وضح الصراع بين الأريحية والنفعية عند الفريقين، ولا كان المصطرعون هنا وهناك من مزاجين مختلفين، ولا كان للمعركة كلها تلك الدلالة التي كشفت النفس الإنسانية في جانبين منها قويين، يتنازعان حوادث الأمم والأفراد من زمان بعيد، وسيظلان على نزاعهما هذا إلى زمان بعيد. •••
ولقد كان الحسين بن علي بهذه المزية أحب إنسان إلى قلوب المسلمين، وأجدر إنسان أن تنعطف إليه القلوب.
كان النبي
صلى الله عليه وسلم
هو الذي سماه، وسمى من قبله أخاه. قال علي رضي الله عنه: لما ولد الحسن سميته حربا، فجاء رسول الله فقال: «أروني ابني، ما سميتموه؟»
قلت: «حرب!» فقال: «بل هو حسن.» فلما ولد الحسين سميته حربا، فجاء رسول الله فقال: «أروني ابني، ما سميتموه؟» قلت: «حرب!» فقال: «بل هو حسين.»
وذهب إلى الحسين وإخوته كل ما في فؤاد النبي
صلى الله عليه وسلم
من محبة البنين، وهو مشوق الفؤاد إلى الذرية من نسله. فكان - عليه السلام - لا يطيق أذاهما، ولا يحب أن يستمع إلى بكاء منهما في طفولتهما، على كثرة ما يبكي الأطفال الصغار، وخرج من بيت عائشة يوما، فمر على بيت فاطمة فسمع حسينا يبكي، فقال: «ألم تعلمي أن بكاءه يؤذيني؟»
وكان يقول لها: «ادعي إلي ابني.» فيشمهما ويضمهما إليه، ولا يبرح حتى يضحكهما ويتركهما ضاحكين. وروى أبو هريرة أنه كان عليه السلام يدلع لسانه للحسين، فيرى الصبي حمرة لسانه فيهش إليه، وكان عيينة بن بدر، شهده في بعض هذه المجالس فقال متعجبا: «يصنع هذا بهذا؟ فوالله إن لي الولد ما قبلته قط!» قال عليه السلام: «من لا يرحم، لا يرحم!» •••
وخرج ليلة في إحدى صلاتي العشاء وهو حامل حسنا أو حسينا، فوضعه ثم كبر للصلاة فأطال سجدة الصلاة. قال راوي الحديث: «فرفعت رأسي فإذا الصبي على ظهر رسول الله وهو ساجد فرجعت إلى سجودي، فلما قضى الصلاة قيل يا رسول الله: إنك سجدت بين ظهري صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر أو أنه يوحى إليك.» قال: «كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله.»
وقام عليه السلام يخطب المسلمين، فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل عليه السلام من المنبر، فحملهما ووضعهما بين يديه ثم قال: «صدق الله!
إنما أموالكم وأولادكم فتنة
نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما.» •••
ولا يوجد مسلم في العصر القديم أو العصر الحديث يحب نبيه كما يحب المؤمنون أنبياءهم، ثم يصغر عنده حساب هذا الحنان الذي غمر به قلبه الكريم سبطيه وأحب الناس إليه. فبهذا الحنان النبوي قد أصبح الحسين في عداد تلك الشخوص الرمزية التي تتخذ منها الأمم والملل عنوانا للحب، أو عنوانا للفخر، أو عنوانا للألم والفداء. فإذا بها محبوب كل فرد ومفخرته، وموضع عطفه وإشفاقه، كأنما تمت إليه وحده بصلة القرابة أو بصلة المودة.
وقد بلغ الحسين بهذا الحنان - مع الزمن - مبلغه من تلك المكانة الرمزية فأوشك بعض واصفيه أن يلحقه في حمله وولادته ورضاعه بمواليد المعجزات. فقال بعضهم: «لم يولد مولود لستة أشهر وعاش إلا الحسين وعيسى ابن مريم.» وقال آخرون: إنه - رضي الله عنه - لم ترضعه أمه ولم ترضعه أنثى «واعتلت فاطمة لما ولدت الحسين وجف لبنها، فطلب رسول الله مرضعة فلم يجد، فكان يأتيه فيلقمه إبهامه فيمصه، ويجعل الله في إبهام رسوله رزقا يغذيه، ففعل ذلك أربعين يوما وليلة، فأنبت الله - سبحانه وتعالى - لحمه من لحم رسول الله.»
وروي عنه غير ذلك كثير من الأساطير التي تحيط بها الأمم تلك الشخوص الرمزية التي تعزها وتغليها فتلتمس لها مولدا غير المولد المألوف، والنشأة المعهودة، وتلحقها أو توشك أن تلحقها بالخوارق والمعجزات.
ولقد كانت حقيقة الحسين الشخصية كفؤا لتلك الصورة الرمزية التي نسجتها حوله الأجيال المتعاقبة قبل أن يرى منه أبناء جيله غير تلك الحقيقة.
فكان ملء العين والقلب في خلق وخلق، وفي أدب وسيرة، وكانت فيه مشابه من جده وأبيه، إلا أنه كان في شدته أقرب إلى أبيه. قال علي - رضي الله عنه - مشيرا إلى الحسن: «إن ابني هذا سيخرج من هذا الأمر، وأشبه أهلي بي الحسين.» واتفق بعض الثقات على أن «الغالب على الحسن الحلم والأناة كالنبي، وعلى الحسين الشدة كعلي».
صفات الحسين
وقد تعلم في صباه خير ما يتعلمه أبناء زمانه من فنون العلم والأدب والفروسية، وإليه يرفع كثير من المتصوفة وحكماء الدين نصوصهم التي يعولون عليها ويردونها إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وقد أوتي ملكة الخطابة من طلاقة لسان وحسن بيان وغنة صوت وجمال إيماء، ومن كلامه المرتجل قوله في توديع أبي ذر وقد أخرجه عثمان من المدينة بعد أن أخرجه معاوية من الشام: «يا عماه! إن الله قادر على أن يغير ما قد ترى، والله كل يوم في شأن، وقد منعك القوم دنياهم ومنعتهم دينك، وما أغناك عما منعوك وأحوجهم إلى ما منعتهم! فاسأل الله الصبر والنصر، واستعذ به من الجشع والجزع، فإن الصبر من الدين والكرم، وإن الجشع لا يقدم رزقا والجزع لا يؤخر أجلا.»
وكان يومئذ في نحو الثلاثين من عمره فكأنما أودع هذه الكلمات شعار حياته كاملة منذ أدرك الدنيا إلى أن فارقها في مصرع كربلاء. •••
وتواترت الروايات بقوله الشعر في أغراض الحكمة وبعض المناسبات البيتية، ومن ذلك هذه الأبيات:
اغن عن المخلوق بالخالق
تغن عن الكاذب والصادق
واسترزق الرحمن من فضله
فليس غير الله من رازق
من ظن أن الناس يغنونه
فليس بالرحمن بالواثق
ومنه هذان البيتان في زوجته وابنته:
لعمرك إنني لأحب دارا
تكون بها سكينة والرباب
أحبهما وأبذل كل مالي
وليس لعاتب عندي عتاب
وهما - سواء صحت نسبتهما إليه أو لم تصح - معبران عن خلقه في بيته وبين أهله، فقد كان من أشد الآباء حدبا على الأبناء وأشد الأزواج عطفا على النساء، ومن وفاء زوجاته بعد مماته أن الرباب هذه التي ذكرت في البيتين السابقين خطبها أشراف قريش بعد مقتله فقالت: «ما كنت لأتخذ حما بعد رسول الله» وبقيت سنة لا يظلها سقف حتى فنيت وماتت، وهي لا تفتر عن بكائه والحزن عليه.
خلق كريم
وقد سن الحسين لمن بعده سنة في آداب الأسرة تليق بالبيت الذي نشأ فيه، ووكل إليه أن يرعى له حقه، ويوجب على الناس مهابته وتوقيره، فهو على فضله وذكائه وشجاعته ورجحانه على أخيه الحسن في مناقب كثيرة ومآثر عدة كان يستمع إلى رأي الحسن ولا يسوءه بالمراجعة أو المخالفة. فلما هم الحسن بالتسليم لمعاوية كان ذلك على غير رضى من الحسين. فلم يوافقه وأشار عليه بالقتال، فغضب الحسن وقال له: «والله لقد هممت أن أسجنك في بيت وأطين عليك بابه، حتى أقضي بشأني هذا وأفرغ منه ثم أخرجك.»
فلم يراجعه الحسين بعدها وآثر الطاعة والسكوت.
ومن رعايته لسنن الأسرة ووصايا الأبوة أنه ركبه دين فساومه معاوية بمائتي ألف دينار أو بمبلغ جسيم من المال على عين «أبي نيزر» فأبى أن يبيعها مع حاجته إلى بعض ما عرض عليه؛ لأن أباه تصدق بمائها لفقراء المدينة، ولو أنه باعها لوقفها معاوية على أولئك الفقراء.
وقد أخذ نفسه بسمت الوقار في رعايته أسرته ورعاية أسرته ورعاية الناس عامة؛ فهابه الناس وعرف معاوية عنه هذه المهابة فوصفه لرجل من قريش ذاهب إلى المدينة فقال: «إذا دخلت مسجد رسول الله فرأيت حلقة فيها قوم كأن رءوسهم الطير، فتلك حلقة أبي عبد الله مؤتزرا إلى أنصاف ساقيه.»
ولم يذكر عنه قط أنه كان يواجه الناس بتخطئة وهو يعلمهم ويبصرهم بشئون دينهم، إلا أن تكون مكابرة أو لجاجة فله في جواب ذلك أشباه تلك القوارص التي كانت تؤثر عن أبيه.
وما لم تكن مكابرة أو لجاجة فهو يحتال على تصحيح الخطأ حيلة لا غضاضة فيها على المخطئين.
فمن آدابه وآداب أخيه في ذلك أنهما رأيا أعرابيا يخفف الوضوء والصلاة فلم يشاءا أن يجبهاه بغلطه، وقالا له: «نحن شابان وأنت شيخ ربما تكون أعلم بأمر الوضوء والصلاة منا، فنتوضأ ونصلي عندك، فإن كان عندنا قصور تعلمنا.» فتنبه الشيخ إلى غلطه دون أن يأنف من تنبيههما إليه، ومر يوما بمساكين يأكلون فدعوه إلى الطعام على عادة العرب، فنزل وأكل معهم ثم قال لهم: «قد أجبتكم فأجيبوني.» ودعاهم إلى الغداء في بيته. •••
ورويت الغرائب في اختبار حذقه بالفقه واللغة كما رويت أمثال هذه الغرائب في امتحان قدرة أبيه عليهما السلام. فقيل: إن أعرابيا دخل المسجد الحرام فوقف على الحسن - رضي الله عنه - وحوله حلقة من مريديه فسأل عنه، فقال لما عرفوه به: «إياه أردت. جئت لأطارحه الكلام، وأسأله عن عويص العربية.» فقال له بعض جلسائه: «إن كنت جئت لهذا فابدأ بذلك الشاب.» وأومأ إلى الحسين عليه السلام، فلما سلم على الحسين وسأله عن حاجته قال: «إني جئتك من الهرقل والجعلل والأيتم والهمهم.» فتبسم الحسين وقال: يا أعرابي! لقد تكلمت بكلام ما يعقله إلا العالمون.
فأجابه الأعرابي قائلا يريد الإغراب: وأقول أكثر من هذا، فهل أنت مجيبي على قدر كلامي؟ ثم أذن له الحسين فأنشد أبياتا تسعة، منها:
هفا قلبي إلى اللهو
وقد ودع شرخيه
فأجابه الحسين مرتجلا بتسعة أبيات في معناها ومن وزنها، يقول منها:
فما رسم شجاني قد
محت آيات رسميه
سفور درجت ذيلي
ن في بوغاء قاعيه
هنوف مرجف تترى
على تلبيد ثوبيه
إلى آخر الأبيات، ثم فسر له ما أراد من الهرقل وهو ملك الروم، والجعلل وهو قصار النخل، والأيتم وهو بعض النبات، والهمهم وهو القليب الغزير الماء، وفي هذا الكلمات أوصاف البلاد التي جاء منها وإشارة إليها.
فقال الأعرابي: «ما رأيت كاليوم أحسن من هذا الغلام كلاما، وأذرب لسانا، ولا أفصح منه منطقا.»
وتلك رواية من روايات على منوالها، إن لم تنبئ بما وقع فهي منبئة بما تداوله الناس من شهرة الحسين في صباه الباكر بالعلم والفصاحة.
ولخبرته بالكلام وشهرته بالفصاحة، كان الشعراء يرتادونه وبهم من الطمع في إصغائه أكبر من طمعهم في عطائه، ولكنه على هذا كان يجري معهم على شرعة ذوي الأقدار والأخطار من أنداده، فيبذل لهم الجوائز ما وسعه البذل، ويؤثرهم على نفسه في خصاصة الحال. وقد لامه أخوه الحسن في ذلك، فكتب إليه: «إن خير المال ما وقي به العرض.» إلا أنه في الواقع لم يكن يعطي لوقاية العرض وكفى، ولكنه كان يعطي من قصده من ذوي الحاجات ولا يخيب رجاء لمن استعان به على مروءة.
وفاء وشجاعة
وقد اشتهر مع الجود بصفتين من أكرم الصفات الإنسانية وأليقهما ببيته وشرفه، وهما: الوفاء والشجاعة.
فمن وفائه أنه أبى الخروج على معاوية بعد وفاة أخيه الحسن؛ لأنه عاهد معاوية على المسالمة، وقال لأنصاره الذين حرضوه على خلع معاوية إن بينه وبين الرجل عهدا وعقدا لا يجوز له نقضه حتى تمضي المدة، وكان معاوية يعلم وفاءه وجوده معا، فقال لصحبه يوما وقد أرسل الهدايا إلى وجوه المدينة من كسى وطيب وصلات: «إن شئتم أنبأناكم بما يكون من القوم. أما الحسن: فلعله ينيل نساءه شيئا من الطيب ويهب ما بقي من حضره ولا ينتظر غائبا، وأما الحسين: فيبدأ بأيتام من قتل مع أبيه بصفين فإن بقي شيء نحر به الجزر وسقى به اللبن.»
وشجاعة الحسين صفة لا تستغرب منه؛ لأنها «الشيء من معدنه» كما قيل، وهي فضيلة ورثها عن الآباء وأورثها الأبناء بعده، وقد شهد الحروب في إفريقية الشمالية وطبرستان والقسطنطينية، وحضر مع أبيه وقائعه جميعا من الجمل إلى صفين، وليس في بني الإنسان من هو أشجع قلبا ممن أقدم على ما أقدم عليه الحسين في يوم كربلاء.
وقد تربى للشجاعة كما تلقاها في الدم بالوراثة، فتعلم فنون الفروسية كركوب الخيل والمصارعة والعدو من صباه، ولم تفته ألعاب الرياضة التي تتم بها مرانة الجسم على الحركة والنشاط، منها لعبة تشبه «الجولف» عند الأوروبيين كانوا يسمونها المداحي: جميع مدحاة، وهي أحجار أمثال القرصة يحفرون في الأرض حفيرة ويرسلون تلك الأحجار، فمن وقع حجره في الحفيرة فهو غالب. •••
أما عاداته في معيشته: فكان ملاكها لطف الحس وجمال الذوق والقصد في تناول كل مباح. كان يحب الطيب والبخور، ويأنق للزهر والريحان.
وروى أنس بن مالك أنه كان عنده فدخلت عليه جارية بيدها طاقة من ريحان فحيته بها. فقال لها: «أنت حرة لوجه الله تعالى.» فسأله أنس متعجبا: «جارية تجيئك بطاقة ريحان فتعتقها؟!» قال: «كذلك أدبنا الله. قال تبارك وتعالى:
وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها
وكان أحسن منها عتقها.»
وكان يميل للفكاهة ويأنس في أوقات راحته لأحاديث أشعب وأضاحيكه، ولكنه على شيوع الترف في عصره لم يكن يقارب منه إلا ما كان يجمل بمثله؛ حتى تحدث المتحدثون أنه لا يعرف رائحة الشراب.
وكانت له صلوات يؤديها غير الصلوات الخمس، وأيام من الشهر يصومها غير أيام رمضان، ولا يفوته الحج عاما إلا لضرورة.
وقد عاش سبعا وخمسين سنة بالحساب الهجري، وله من الأعداء من يصدقون ويكذبون. فلم يعبه أحد منهم بمعابة، ولم يملك أحد منهم أن ينكر ما ذاع من فضله، حتى حار معاوية بعيبه حين استعظم جلساؤه خطاب الحسين له، واقترحوا عليه أن يكتب إليه بما يصغره في نفسه، فقال: إنه كان يجد ما يقوله في علي، ولكن لا يجد ما يقوله في حسين.
تلك جملة القول في سيرة أحد الخصمين.
خلق يزيد
ويقف خصمه أمامه موقف المقابلة والمناقضة لا موقف المقارنة والمعادلة في معظم خلائقه وعاداته وملكاته وأعماله.
فيزيد بن معاوية عريق النسب في بني عبد مناف ثم في قريش، ولكن الأصدقاء والخصوم والمادحين والقادحين متفقون على وصف الخلائق التي اشتهر بها أبناء هذا الفرع من عبد مناف. وأشهرها الأثرة، وأحمد ما يحمد منها أنها تنفع الناس من طريق النفع لأصحابها، وندر من وجوه الأمويين في الجاهلية أو الإسلام من اشتهر بخصلة تجلب إلى صاحبها ضررا أو مشقة في سبيل نفع الناس.
وبيت أبي سفيان بيت سيادة مرعية لا مراء فيها.
ولكن الحقيقة التي ينبغي أن نذكرها في هذا المقال أن معاوية بن أبي سفيان لم يكن ليرث شيئا من هذه السيادة التي كان قوامها كله وفرة المال؛ لأن أبا سفيان على ما يظهر قد أضاع ماله في حروب الإسلام، ولم يكن له من الوفر ما يبقى على كثرة الوارث، وروي أن امرأة استشارت النبي
صلى الله عليه وسلم
في التزوج بمعاوية فقال لها: «إنه صعلوك!» •••
كذلك ينبغي أن نذكر حقيقة أخرى في هذا المقام، وهي أن معاوية لم يكن من كتاب الوحي كما أشاع خدام دولته بعد صدر الإسلام، ولكنه كان يكتب للنبي
صلى الله عليه وسلم
في عامة الحوائج وفي إثبات ما يجبى من الصدقات وما يقسم في أربابها، ولم يسمع عن ثقة قط أنه كتب للنبي شيئا من آيات القرآن الكريم.
وعرفت لمعاوية خصال محمودة من خصال الجد والسيادة كالوقار والحلم والصبر والدهاء، ولكنه على هذا كان لا يملك حلمه في فلتات تميد بالملك الراسخ، ومنها قتله حجر بن عدي وستة من أصحابه؛ لأنهم كانوا ينكرون سب علي وشيعته، فما زال بقية حياته يندم على هذه الفعلة ويقول: «ما قتلت أحدا إلا وأنا أعرف فيم قتلته ما خلا حجرا فإني لا أعرف بأي ذنب قتلته.»
وأم يزيد هي ميسون بنت مجدل الكلبية من كرائم بني كلب المعرقات في النسب، وهي التي كرهت العيش مع معاوية في دمشق، وقالت تتشوق إلى عيش البادية:
للبس عباءة وتقر عيني
أحب إلي من لبس الشفوف
وبيت تخفق الأرواح فيه
أحب إلي من قصر منيف
ومن هذه الأبيات قولها:
وخرق من بني عمي فقير
أحب إلي من علج عنيف!
فأرسلها وابنها يزيد إلى باديتها، فنشأ يزيد مع أمه بعيدا عن أبيه. •••
وقد أفاد من هذه النشأة البدوية بعض أشياء تنفع الأقوياء، ولكنها على ما هو مألوف في أعقاب السلالات القوية تضيرهم وتجهز على ما بقي من العزيمة فيهم.
فكان ما استفاد من بادية بني كلب بلاغة الفصحى، وحب الصيد، وركوب الخيل، ورياضة الحيوانات ولا سيما الكلاب.
وهذه صفات في الرجل القوي تزينه وتشحذ قواه، ولكنها في أعقاب السلالات - أو عكارة البيت كما يقال بين العامة - مدعاة إلى الإغراق في اللهو والولع بالفراغ؛ لأنها هي عنده كل شيء وليست مددا لغيرها من كبار الهمم وعظائم الهموم.
وهكذا انقلبت تلك الصفات في يزيد من المزية إلى النقيصة؛ فكان كلفه بالشعر الفصيح مغريا له بمعاشرة الشعراء والندماء في مجالس الشراب، وكان ولعه بالصيد شاغلا يحجبه عن شواغل الملك والسياسة، وكانت رياضته للحيوانات مهزلة تلحقه بأصحاب البطالة من القرادين والفهادين، فكان له قرد يدعوه «أبا قيس» يلبسه الحرير ويطرز لباسه بالذهب والفضة، ويحضره مجالس الشراب، ويركبه أتانا في السباق، ويحرص على أن يراه سابقا مجليا على الجياد، وفي ذلك يقول يزيد كما جاء في بعض الروايات:
تمسك أبا قيس بفضل عنانها
فليس عليها إن سقطت ضمان
ألا من رأى القرد الذي سبقت به
جياد أمير المؤمنين أتان
وقد يكون عبد الله بن حنظلة مبالغا في المذمة حين قال فيما نسب إليه: «والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء. إن رجلا ينكح الأمهات والبنات والأخوات ويشرب الخمر ويدع الصلاة، والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت الله فيه بلاء حسنا.»
ولكن الروايات لم تجمع على شيء كإجماعها على إدمانه الخمر، وشغفه باللذات، وتوانيه عن العظائم. وقد مات بذات الجنب وهو لما يتجاوز السابعة والثلاثين، ولعلها إصابة الكبد من إدمان الشراب والإفراط في اللذات. ولا يعقل أن يكون هذا كله اختلاقا واختراعا من الأعداء؛ لأن الناس لم يختلقوا مثل ذلك على أبيه أو على عمرو بن العاص، وهما بغيضان أشد البغض إلى أعداء الأمويين، ولأن الذين حاولوا ستره من خدام دولته لم يحاولوا الثناء على مناقب فيه تحل عندهم محل مساوئه وعيوبه، كأن الاجتراء على مثل هذا الثناء من وراء الحسبان.
ولم يكن هذا التخلف في يزيد من هزال في البنية أو سقم اعتراه كذلك السقم الذي يعتري أحيانا بقايا السلالات التي تهم بالانقراض والدثور، ولكنه كان هزالا في الأخلاق وسقما في الطوية، قعد به عن العظائم مع وثوق بنيانه وضخامة جثمانه واتصافه ببعض الصفات الجسدية التي تزيد في وجاهة الأمراء كالوسامة وارتفاع القامة، وقد أصيب في صباه بمرض خطير - وهو الجدري - بقيت آثاره في وجهه إلى آخر عمره، ولكنه مرض كان يشيع في البادية، ولم يكن من دأبه أن يقعد بكل من أصيب به عن الطموح والكفاح. •••
وعلى فرط ولعه بالطراد حين يكون الطراد لهوا وفراغا، كانت همته الوانية تفتر به عن الطراد حين تتسابق إليه عزائم الفرسان في ميادين القتال، ولو كان دفاعا عن دينه ودنياه.
فلما سير أبوه جيش سفيان بن عوف إلى القسطنطينية لغزو الروم ودفاعهم عن بلاد الإسلام - أو بلاد الدولة الأموية - تثاقل وتمارض حتى رحل الجيش، وشارع بعد ذلك أنه امتحن في طريقه ببلاء المرض والجوع، فقال يزيد:
ما إن أبالي بما لاقت جموعهم
بالفرقدونة من حمى ومن موم
إذا اتكأت على الأنماط مرتفقا
بدير مران عندي أم كلثوم
فأقسم أبوه حين بلغه هذان البيتان ليلحقن بالجيش ليدرأ عنه عار النكول والشماتة بجيش المسلمين بعد شيوع مقاله في خلواته. •••
من أعجب عجائب المناقضة التي تمت في كل شيء بين الحسين ويزيد أن يزيد لم يختص بمزية محمودة تقابل نظائرها من مزايا الحسين، حتى في تلك الخصال التي تأتي بها المصادفة، ولا فضل فيها لأصحابها، ومنها مزية السن وسابقة الميلاد.
فلما تنازعا البيعة كان الحسين في السابعة والخمسين مكتمل القوة ناضج العقل وافي المعرفة بالعلم والتجربة، كان يزيد في نحو الرابعة والثلاثين لم يمارس من شئون الرعاة ولا الرعية ما ينفعه بين هؤلاء أو هؤلاء.
ومزية السن هذه قد يطول فيها الأخذ والرد بين أبناء العصور الحديثة، ولكنها كانت تقطع القول في أمة العرب حيث نشأ الأسلاف والأخلاف على طاعة الشيوخ ورعاية الأعمار. وهذا على أن السابعة والخمسين ليست بالسن التي تعلو بصاحبها في الكبر حتى تسلبه مزية الفتوة ومضاء العزيمة.
كذلك لا يقال إن «الوراثة المشروعة» في الممالك كان لها شأن يرجح بيزيد على الحسين في ميزان العروبة والإسلام. فقد كان توريث معاوية ابنه على غير وصية معروفة من السلف بدعة هرقلية كما سماها المسلمون في ذلك الزمان، ولم يكن معقولا أن العرب في صدر الإسلام يوجبون طاعة يزيد لأنه ابن معاوية، وهم لم يوجبوا طاعة آل النبي في أمر الخلافة لأنهم قرابة محمد
صلى الله عليه وسلم .
فقد شاءت عجائب التاريخ إذن أن تقيم بين ذينك الخصمين قضية تتضح فيها النزعة النفعية على نحو لم تتضحه قط في أمثالها من القضايا، وقد وجب أن ينخذل يزيد كل الخذلان لولا النزعة النفعية التي أعانته وهو غير صالح لأن يستعين بها بغير أعوان من بطانته وأهله، ولئن كان في تلك النزعة النفعية مسحة تشوبها من غير معدنها الوضيع لتكونن هي عصبية القبيلة من بني أمية، وهي هنا نزعة مواربة تعارض الإيمان الصريح ولا تسلم من الختل والتلبيس. •••
لهذا شك بعض الناس في إسلام ذلك الجيل من الأمويين، وهو لا شك لا نرتضيه من وجهة الدلائل التاريخية المتفق عليها. فقد يخطر لنا الشك في صدق دين أبي سفيان؛ لأن أخباره في الإسلام تحتمل التأويلين، ولكن معاوية كان يؤدي الفرائض، ويتبرك بتراث النبي، ويوصي أن تدفن معه أظافره التي حفظها إلى يوم وفاته. وليس بيسير علينا أن نفهم كيف ينشأ معاوية الثاني على تلك التقوى وذلك الصلاح وهو ناشئ في بيت مدخول الإسلام، يتصارح أهله أحيانا بما ينم على الكفر به أو التردد فيه.
إنما هي الأثرة، ثم الخرق في السياسة، ثم التمادي في الخرق مع استثارة العناد والعداء، وفي تلك الأثرة ولواحقها ما ينشئ المقابلة من أحد طرفيها في هذه الخصومة، ويتم المناظرة في شتى بواعثها بين ذينك الخصمين الخالد، ونعني بهما ها المثالية والواقعية، وما الحسين واليزيد إلا المثالان الشاخصان مهما للعيان.
الفصل الرابع
أعوان الفريقين
رجال المعسكرين
كان الحسين في طريقه إلى الكوفة - يوم دعاه شيعته إليها - يسأل من يلقاهم عن أحوال الناس، فينبئونه عن موقفهم بينه وبين بني أمية، وقلما اختلفوا في الجواب.
سأل الفرزدق وهو خارج من مكة - والفرزدق مشهور بالتشيع لآل البيت - فقال له: «قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أمية، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء.»
وقال له مجمع بن عبيد العامري: «أما أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم وملئت غرائرهم، فهم ألب واحد عليك، وأما سائر الناس بعدهم فإن قلوبهم تهوي إليك وسيوفهم غدا مشهورة عليك.»
وقد أصاب الفرزدق وأصاب مجمع بن عبيد، فإن الناس جميعا كانوا بأهوائهم وأفئدتهم مع الحسين بن علي ما لم تكن لهم منفعة موصولة بملك بني أمية، فهم إذن عليه بالسيوف التي تشهرها الأيدي دون القلوب.
وقد «أعظمت الرشوة» للرؤساء، وأعظمت لهم من بعدها الوعود والآمال، فعلموا أن دوام نعمتهم من دوام ملك بني أمية.
فأما الرؤساء الذين كانت لهم مكانتهم بمعزل عن الملك القائم، فقد كانوا ينصرون حسينا ولا ينصرون الأمويين، أو كانوا يصانعون الأمويين، ولا يبلغون بالمصانعة أن يشهروا الحرب على الحسين.
ومن هؤلاء هانئ بن عروة من كبار الزعماء في قبائل كندة، وشريك بن الأعور، وسليمان بن صرد الخزاعي، وكلاهما من ذوي الشرف والدين.
بل كان من العاملين لبني أمية من يخزه ضميره إذا بلغ العداء للحسين أشده، فيترك معسكر بني أمية ليلوذ بالمعسكر الذي كتب عليه الموت والبلاء. كما فعل الحر بن يزيد الرياحي في كربلاء، وقد رأى القوم يهمون بقتل الحسين ولا يقنعون بحصاره. فسأل عمر بن سعد قائد الجيش: «أمقاتل أنت هذا الرجل؟» فلما قال: «نعم.» ترك الجيش الأموي وذهب يقترب من الحسين حتى داناه فقال له: «جعلت فداك يا بن رسول الله. أنا صاحبك حبستك عن الرجوع وجعجعت بك في هذا المكان، وما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضته عليهم، ووالله لو علمت أنهم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبت مثل الذي ركبت، وإني تائب إلى الله مما صنعت، فهل ترى لي من توبة؟»
فقبل الحسين توبته وجعل الرجل يقاتل من ساعتها حتى قتل، وآخر كلمة على لسانه فاه بها: «السلام عليك يا أبا عبد الله!» •••
فمجمل ما يقال على التحقيق أنه لم يكن في معسكر يزيد رجل يعينه على الحسين إلا وهو طامع في مال، مستميت في طمعه استماتة من يهدر الحرمات، ولا يبالي بشيء منها في سبيل الحطام.
ولقد كان لمعاوية مشيرون من ذوي الرأي كعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزيادة بن أبيه، وأضرابهم من أولئك الدهاة الذين يسميهم التاريخ أنصار دول وبناة عروش.
وكان لهم من سمعة معاوية وذرائعه شعار يدارون به المطامع، ويتحللون من التأثيم.
لكن هؤلاء بادوا جميعا في حياة معاوية، ولم يبق ليزيد مشير واحد ممن نسميهم بأنصار الدول وبناة العروش، وإنما بقيت له شرذمة على غراره أصدق ما توصف به أنها شرذمة جلادين، يقتلون من أمروا بقتله ويقبضون الأجر فرحين.
فكان أعوان معاوية ساسة وذوي مشورة.
وكان أعوان يزيد جلادين وكلاب طراد في صيد كبير.
وكانوا في خلائقهم البدنية على المثال الذي يعهد في هذه الطغمة من الناس، ونعني به مثال المسخاء المشوهين، أولئك الذين تمتلئ صدورهم بالحقد على أبناء آدم ولا سيما من كان منهم على سواء الخلق وحسن الأحدوثة، فإذا بهم يفرغون حقدهم في عدائه وإن لم ينتفعوا بأجر أو غنيمة، فإذا انتفعوا بالأجر والغنيمة فذلك هو حقد الضراوة الذي لا تعرف له حدود.
وشر هؤلاء جميعا هم شمر بن ذي الجوشن، ومسلم بن عقبة، وعبيد الله بن زياد. ويلحق بزمرتهم على مثال قريب من مثالهم عمر بن سعد بن أبي قاص.
فشمر بن ذي الجوشن كان أبرص كريه المنظر قبيح الصورة، وكان يصطنع المذهب الخارجي؛ ليجعله حجة يحارب بها عليا وأبناءه، ولكنه لا يتخذه حجة ليحارب بها معاوية وأبناءه. كأنه يتخذ الدين حجة للحقد، ثم ينسى الدين والحقد في حضرة المال. •••
ومسلم بن عقبة مخلوق مسمم الطبيعة في مسلاخ إنسان. «وكان أعور أمغر ثائر الرأس، كأنما يقلع رجليه من وحل إذا مشى».
وقد بلغ من ضراوته بالشر وهو شيخ فان مريض، أنه أباح المدينة في حرم النبي
صلى الله عليه وسلم
ثلاثة أيام، واستعرض أهلها بالسيف جزرا كما يجزر القصاب الغنم حتى ساخت الأقدام في الدم، وقتل أبناء المهاجرين والأنصار وذرية أهل بدر، وأخذ البيعة ليزيد بن معاوية على كل من استبقاه من الصحابة والتابعين على أنه عبد قن لأمير المؤمنين!
وانطلق جنده في المدينة إلى جوار قبر النبي يأخذون الأموال ويفسقون بالنساء، حتى بلغ القتلى في تقدير الزهري سبعمائة من وجوه الناس وعشرة آلاف من الموالي. ثم كتب إلى يزيد يصف له ما فعل وصف الظافر المتهلل، فقال بعد كلام طويل: «فأدخلنا الخيل عليهم، فما صليت الظهر - أصلح الله أمير المؤمنين - إلا في مسجدهم! بعد القتل الذريع والانتهاب العظيم، وأوقعنا بهم السيوف، وقتلنا من أشرف لنا منهم، واتبعنا مدبرهم، وأجهزنا على جريحهم، وانتهبناها ثلاثا كما قال أمير المؤمنين - أعز الله نصره - وجعلت دور بني الشهيد عثمان بن عفان في حرز وأمان، والحمد لله الذي شفا صدري من قتل أهل الخلاف القديم والنفاق العظيم، فطالما عتوا وقديما ما طغوا. أكتب هذا إلى أمير المؤمنين وأنا في منزل سعيد بن العاص مدنفا مريضا ما أراني إلا لما بي. فما كنت أبالي متى مت بعد يومي هذا.» •••
وكل هذا الحقد المتأجج في هذه الطوية العفنة إنما هو الحقد في طبائع المسخاء الشائهين، يوهم نفسه أنه الحقد من ثأر عثمان أو من خروج قوم على ملك يزيد.
وكان عبيد الله بن زياد متهم النسب في قريش؛ لأن أباه زيادا كان مجهول الأب فكانوا يسمونه زياد ابن أبيه. ثم ألحقه معاوية بأبي سفيان؛ لأن أبا سفيان ذكر بعد نبوغ زياد أنه كان قد سكر بالطائف ليلة فالتمس بغيا فجاءوه بجارية تدعى سمية، فقالت له بعد مولد زياد إنها حملت به في تلك الليلة.
وكانت أم عبيد الله جارية مجوسية تدعى مرجانة فكانوا يعيرونه بها وينسبونه إليها، ومن عوارض المسخ فيه - وهي عوارض لها في نفوس العرب دخلة تورث الضغن والمهانة - أنه كان ألكن اللسان لا يقيم نطاق الحروف العربية.
فكان إذا عاب الحروري من الخوارج، قال: «هروري» فيضحك سامعوه، وأراد مرة أن يقول أشهروا سيوفكم، فقال: افتحوا سيوفكم. فهجاه يزيد بن مفرغ قائلا:
ويوم فتحت سيفك من بعيد
أضعت وكل أمرك للضياع
ولم يكن أهون لديه من قطع الأيدي والأرجل والأمر بالقتل في ساعة الغضب لشبهة ولغير شبهة. ففي ذلك يقول مسلم بن عقيل وهو صادق مؤيد بالأمثال والمثلات: «ويقتل النفس التي حرم الله قتلها على الغضب والعداوة وسوء الظن، وهو يلهو ويلعب كأنه لم يصنع شيئا.»
وقد كانت هذه الضراوة على أعنفها وأسوئها يوم تصدى عبيد الله بن زياد لمنازلة الحسين؛ لأنه كان يومئذ في شرة الشباب لم يتجاوز الثامنة والعشرين، وكان يزيد يبغضه ويبغض أباه؛ لأنه كان قد نصح لمعاوية بالتمهل في الدعوة إلى بيعة يزيد، فكان عبيد الله من ثم حريصا على دفع الشبهة والغلو في إثبات الولاء للعهد الجديد.
والذين لم يمسخوا في جبلتهم وتكوينهم هذا المسخ من أعوان يزيد بن معاوية، كان الطمع في المناصب والأموال واللذات قد بلغ بهم يبلغه المسخ من تحويل الطبائع وطمس البصائر ومغالطة النفوس في الحقائق. •••
ومن هذا القبيل، عمر بن سعد بن أبي وقاص الذي أطاع عبيد الله بن زياد في وقعة كربلاء، ولم يعدل بتلك الوقعة عن نهايتها المشئومة، وقد كان العدول بها عن تلك النهاية في يديه. فقد أغرى عمر بن سعد بولاية الري، وهي درة التاج في ملك الأكاسرة الأقدمين. وكان يتطلع إليها منذ فتحها أبوه القائد النبيل العزوف، وينسب إليه أنه قال وهو يراود نفسه على مقاتلة الحسين:
فوالله ما أدري وإني لحائر
أفكر في أمري على خطرين
أأترك ملك الري والري منيتي
أم ارجع مأثوما بقتل حسين
وفي قتله النار التي ليس دونها
حجاب، وملك الري قرة عيني
فإن لم تكن هذه الأبيات من لسانه فهي ولا شك من لسان حاله؛ لأنها تسجل الواقع الذي لا شبهة فيه. •••
ومن الواقع الذي لا شبهة فيه أيضا، أن عمر بن سعد هذا لم يخل من غلظة في الطبع على غير ضرورة ولا استفزاز، فهو الذي ساق نساء الحسين بعد مقتله على طريق جثث القتلى التي لم تزل مطروحة بالعراء؛ فصحن وقد لمحنها على جانب الطريق صيحة أسالت الدمع من عيون رجاله، وهم ممن قاتل الحسين وذويه.
هؤلاء وأمثالهم لا يسمون ساسة ملك ولا تسمى مهنتهم تدعيم سلطان، ولكنهم يسمون جلادين متنمرين يطيعون ما في قلوبهم من غلظة وحقد، ويطيعون ما في أيديهم من أموال ووعود، وتسمى مهمتهم مذبحة طائشة لا يبالي من يسفك فيها الدماء أي غرض يصيب. •••
ومنذ قضي على يزيد بن معاوية أن يكون هؤلاء وأمثالهم أعوانا له في ملكه، قضي عليه من ساعتها أن يكون علاجه لمسألة الحسين علاج الجلادين الذين لا يعرفون غير سفك الدماء، والذين يسفكون كل دم أجروا عليه.
وهكذا كان ليزيد أعوان إذا بلغ أحدهم حده في معونته فهو جلاد مبذول السيف والسوط في سبيل المال.
وكان للحسين أعوان إذا بلغ أحدهم حده في معونته فهو شهيد يبذل الدنيا كلها في سبيل الروح.
وهي إذن حرب جلادين وشهداء.
الفصل الخامس
خروج الحسين
الحسين في مكة
عمل يزيد بوصية أبيه، فلم يكن له هم منذ قيامه على الملك إلا أن يظفر ببيعة الحسين وعبد الله بن الزبير في مقدمة النفر الذين أنكروا العهد له في حياة معاوية.
وكان الوليد بن عقبة بن أبي سفيان والي معاوية يومئذ على المدينة، فلما جاءه كتاب يزيد بنعي أبيه، وأن يأخذ أولئك النفر بالبيعة «أخذا شديدا ليس فيه رخصة» دعا إليه بمروان بن الحكم، فأشار عليه بمشورته التي جمعت بين الإخلاص وسوء النية، وفحواها أن يبعث إلى الحسين وابن الزبير، فإن بايعا وإلا ضرب عنقيهما!
وحدث بين الحسين والوليد ما تقدمت الإشارة إليه في محضر مروان؛ إذ عاد الحسين إلى بيته، وقد عول على ترك المدينة إلى مكة كما تركها ابن الزبير من قبله، فخرج منها لليلتين بقيتا من شهر رجب سنة ستين للهجرة، ومعه جل أهل بيته وإخوته وبنو أخيه، ولزم في مسيره إلى مكة الطريق الأعظم فلم يتنكبه كما فعل ابن الزبير مخافة الطلب من ورائه. فصحت في الرجلين فراسة معاوية في هذا الأمر الصغير، كما صحت في غيره من كبار الأمور.
وانصرف الناس في مكة إلى الحسين عن كل مطالب بالخلافة غيره، ومنهم ابن الزبير، فكان ابن الزبير يطوف بالكعبة كل يوم ويتردد عليه في صباحه ومسائه، يتعرف رأيه وما نمي إليه من آراء الناس في الحجاز، والعراق، وسائر الأقطار الإسلامية.
فلبث الحسين في مكة أربعة أشهر على هذه الحال، يتلقى بين آونة وآونة دعوات المسلمين إلى الظهور وطلب البيعة، ولا سيما أهل الكوفة وما جاورها؛ فقد كتبوا إليه يقولون: إن هنالك مائة ألف ينصرونك. وألحوا في الكتابة يستعجلونه الظهور.
وتردد الحسين طوال هذه الأشهر فيما يفعل بهذه الدعوات المتتابعات، فبدا له أن يتمهل حتى يتبين جلية القوم ويستطلع طلعهم من قريب.
وآثر أن يرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب يمهد له طريق البيعة إن رأى فيها محلا لتمهيد، وكتب إلى رؤساء أهل الكوفة قبل ذلك كتابا يقول فيه: «أما بعد، فقد أتتني كتبكم وفهمت ما ذكرتم من محبتكم لقدومي عليكم، وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، وأمرته أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتب إلي أنه قد أجمع رأي ملئكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت علي به رسلكم وقرأت في كتبكم، أقدم عليكم وشيكا إن شاء الله، فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحق، والحابس نفسه على ذات الله، والسلام.» •••
ثم بلغ الحسين أن مسلما قد نزل الكوفة، فاجتمع على بيعته للحسين اثنا عشر ألفا، وقيل: ثمانية عشر ألفا؛ فرأى أن يبادر إليه قبل أن يتفرق هذا الشمل ويطول عليهم عهد الانتظار والمراجعة، فظهر عزمه هذا لمشيريه من خاصته وأهل بيته فاختلفوا في مشورتهم عليه بين موافق ومثبط وناصح بالمسير إلى جهة غير جهة العراق.
وكان أخوه محمد ابن الحنفية يرى - وهو بعد في المدينة - أن يبعث رسله إلى الأمصار ويدعوهم إلى مبايعته قبل قتال يزيد فإن أجمعوا على بيعته فذاك، وإن اجتمع رأيهم على غيره «لم ينقض الله بذلك دينه ولا عقله».
وكان عبد الله بن الزبير يقول له: «إن شئت أن تقيم بالحجاز آزرناك ونصحنا لك وبايعناك، وإن لم تشأ البيعة بالحجاز توليني أنا البيعة فتطاع ولا تعصى.»
ويزعم كثير من المؤرخين أن ابن الزبير كان متهم النصيحة للحسين، ومن هؤلاء المؤرخين أبو الفرج الأصبهاني. قال: «إن عبد الله بن الزبير لم يكن شيء أثقل عليه من مكان الحسين بالحجاز، ولا أحب إليه من خروجه إلى العراق طمعا في الوثوب بالحجاز؛ لأن ذلك لا يتم له إلا بعد خروج الحسين، فلقيه وقال له: «على أي شيء عزمت يا أبا عبد الله؟»
فأخبره برأيه في إتيان الكوفة، وأعلمه بما بعث به مع مسلم بن عقيل، فقال الزبير: «فما يحبسك؟ فوالله لو كان لي مثل شيعتك بالعراق ما تلومت في شيء.» •••
ولعل أنصح الناس له في هذه المسألة كان عبد الله بن عباس؛ لما بينهما من القرابة، وما عرف به ابن عباس من الدهاء. سأله: إن الناس أرجفوا أنك سائر إلى العراق، فما أنت صانع؟
قال: قد أجمعت السير في أحد يومي هذين.
فأعاذه ابن عباس بالله من ذلك، وقال له: إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك، إن أهل العراق قوم غدر، أقم بهذا البلد فإنك سيد أهل الحجاز، فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فلينفوا عدوهم ثم أقدم عليهم، فإن أبيت إلا أن تخرج فسر إلى اليمن، فإن بها حصونا وشعابا ولأبيك بها شيعة.
فقال له الحسين: يابن العم! إني أعلم أنك ناصح مشفق، ولكني قد أزمعت وأجمعت على المسير.
قال ابن عباس: إن كنت لابد فاعلا، فلا تخرج أحدا من ولدك ولا حرمك ولا نسائك، فخليق أن تقتل وهم ينظرون إليك كما قتل ابن عفان.
السفر إلى العراق
وخرج في الثامن من ذي الحجة لا ينتظر العيد بمكة؛ لأن أخبار البيعة بالكوفة حفزته إلى التعجيل بالسفر قبل فوات الأوان.
وكان مسلم بن عقيل قد نزل بالكوفة، فأقبل عليه الناس ألوفا ألوفا يبايعون الحسين على يديه، وبلغوا ثمانية عشر ألفا في تقدير ابن كثير، وثلاثين ألفا في تقدير ابن قتيبة.
وهال الأمر النعمان بن بشير - والي الكوفة - فحار فيما يصنع بمسلم وأتباعه وهم يزدادون يوما بعد يوم، فصعد المنبر وخطب الناس معلنا أنه لا يقاتل إلا من قاتله ولا يثب إلا على من وثب عليه. •••
وتسابق أنصار بني أمية إلى يزيد ينقلون إليه ما يجري بالكوفة، فأشار عليه سرجون الرومي مولى أبيه أن يعزل النعمان ويولي الكوفة عبيد الله بن زياد، مضمومة إلى البصرة التي كان يتولاها في ذلك الحين.
وقدم عبيد الله إلى الكوفة فكان أول ما عمل بها أن جمع إليه عرفاء المدينة - أي مشايخ أحيائها - فأمرهم أن يكتبوا له أسماء الغرباء ومن في أحيائهم من «طلبة أمير المؤمنين والحرورية وأهل الريب» وأنذرهم: «أيما عريف وجد في عرافته من بغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه إليه، صلب على باب داره، وألغيت تلك العرافة من العطاء».
والتمس وجوه المدينة من شيعة الحسين يترضاهم ويستخرج خفاياهم. فسأل عمن تخلف منهم عن لقائه وعلى رأسهم هانئ بن عروة، فقيل له: إنه مريض لا يبرح داره، وكان يتعلل بالمرض تجنبا للقائه والسلام عليه.
فذهب عبيد الله إليه يعوده ويتلطف إليه، وجاء في بعض الروايات أنه قد أشير على مسلم بن عقيل بقتله وهو في بيت هانئ، فأبى أن يغتاله وهو آمن في بيت مريض يعوده.
وقال ابن كثير ما فحواه أنهم أشاروا على مسلم بن عقيل بقتله وهو في دار شريك بن الأعور، وقد علم شريك أن عبيد الله سيعوده؛ فبعث إلى هانئ بن عروة يقول له: «ابعث مسلم بن عقيل يكون في داري ليقتل عبيد الله إذا جاء يعودني.» فتحين مسلم عن قتله، وسأله شريك: «ما منعك أن تقتله؟» قال: «بلغني حديث عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «إن الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن.» وكرهت أن أقتله في بيتك.»
قال شريك: «أما لو قتلته لجلست في الثغر لا يستعدي به أحد، ولكفيتك أمر البصرة، ولكنت تقتله ظالما فاجرا.»
ثم مات شريك بعد ثلاثة أيام. •••
وتضطرب الأقاويل في وقائع هذه الأيام؛ لتلاحقها وكثرتها وكثرة رواتها والعاملين فيها، ولكن الشائع من تلك الأقاويل ينبئنا عن عنت شديد لقيه عبيد الله بن زياد في مغالبة مسلم وشيعته، وأنه هرب مرة من المسجد؛ لأن الناس بصروا بمسلم مقبلا فتصايحوا بعبيد الله فاعتصم بقصره وأغلق عليه أبوابه.
واجتمع إلى مسلم أربعة آلاف من حزبه، فأمر من ينادي في الناس بشعار الشيعة: «يا منصور! أمت.» ثم تقدم إلى قصر الإمارة في تعبئة كتعبئة الجيش.
ولم يكن في القصر إلا ثلاثون رجلا من الشرط وعشرون من أهل الكوفة، فخامر اليأس عبيد الله وظن أنه هالك قبل أن يدركه الغوث من مولاه، ولكنه تحيل بما في وسع المستميت من حيلة هي على أية حال أجدى وأسلم له من التسليم، فأنفذ أنصاره إلى كل صوب في المدينة يعدون ويتوعدون. وانطلق هؤلاء الأنصار يرجفون بقرب وصول المدد الزاخر من يزيد، وينذرون الناس بقطع العطاء، وأخذ البريء بالمذنب والغائب بالشاهد، ويبذلون المال لمن يرشى بالمال، والوعد لمن يقنع بالوعد إلى حين.
مقتل مسلم بن عقيل
وتوسلوا بكل وسيلة تبلغ بهم ما أرادوا من تخذيل الناس عن مسلم بن عقيل حتى كانوا يرسلون الزوجة وراء زوجها والأم وراء ولدها والأخ وراء أخيه، فيتعلقون بهم حتى يقفلوا إلى دورهم أو يدخلوا بهم في زمرة عبيد الله.
فلما غربت شمس ذلك اليوم، نظر مسلم حوله فإذا هو في خمسمائة من أولئك الآلاف الأربعة، ثم صلى المغرب فلم يكن وراءه في الصلاة غير ثلاثين تسللوا من حوله تحت الظلام، وبقي وحيدا في المسجد لا يجد معه من يدله على منزل يأوي إليه.
وتسمع عبيد الله من القصر حين سكنت الجلبة، وسأل أصحابه أن يشرفوا ليروا من بقي من تلك الجموع؛ فلم يروا أحدا ولم يسمعوا صوتا. فخيل إليهم أنها مكيدة حرب وأن القوم رابضون تحت الظلال، فأدلى القناديل والمشاعل حتى اطمأن إلى خلو المسجد وتفرق مسلم وأتباعه، فدعا إلى الصلاة الجامعة وأمر المنادين في أرجاء الكوفة: «ألا برئت الذمة من رجل من الشرطة والعرفاء والمناكب - رءوس العرفاء - والمقاتلة، صلى العشاء إلا في المسجد.» •••
وأقام الحراس خلفه وهو يصلي بمن أجابوه وقد امتلأ بهم المسجد، فخطبهم بعد الفراغ من صلاته قائلا: «برئت ذمة الله من رجل وجدنا ابن عقيل في داره.»
وصاح في رئيس شرطته: «يا حصين بن نمير! ثكلتك أمك إن ضاع باب سكة من سكك الكوفة وخرج هذا الرجل ولم تأتني به، وقد سلطتك على دور أهل الكوفة فابعث مراصد على أفواه السكك، وأصبح غدا فاستبرئ الدور وجس خلالها حتى تأتيني بهذا الرجل.»
وما هي إلا سويعات حتى جيء بابن عقيل وقد دافع الشرط عن نفسه ما استطاع، ووصل إلى القصر جريحا مجهدا ظمآن فأهوى إلى قلة عند الباب فيها ماء بارد ، فقال له أحد أصحاب عبيد الله: «أتراها ما أبردها! والله لا تذوق منها قطرة حتى تذوق الجحيم في نار جهنم!»
وأنكر عمر بن حريث هذه الفظاعة من الرجل، فجاءه بقلة عليها منديل ومعها قدح فصب منها في القدح وأدناه منه، فإذا هو ينفث الدم في القدح كلما رفعه للشرب منه حتى امتلأ وسقطت فيه ثنيتاه، فحمد الله وقال: «لو كان لي من الرزق المقسوم لشربته.»
وأدخلوه على عبيد الله، فنظر إلى جلسائه وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص، فناشده القرابة ليسمعن منه وصية ينفذها بعد موته، فأبى أن يصغي إليه! ثم أذن له عبيد الله فقام معه، فقال مسلم: «إن علي بالكوفة دينا استدنته، سبعمائة درهم، فبع سيفي ودرعي فاقضها عني، وابعث إلى الحسين من يرده، فإني قد كتبت إليه أعلمه أن الناس معه ولا أراه إلا مقبلا.»
فعاد عمر إلى عبيد الله فأفشى له السر الذي ناجاه به وأوصاه أن يكتمه، ثم دعا عبيد الله بالحرسي الذي قاومه مسلم وضربه على رأسه - واسمه بكير بن حمران - فأسلم مسلما إليه وقال له: لتكن أنت الذي تضرب عنقه.
وصعدوا به إلى أعلى القصر فأشرفوا به على الجموع المحيطة به وضربوا عنقه، فسقط رأسه إلى الرحبة وألقيت جثته إلى الناس. ثم أرسل برأسه إلى يزيد مع رءوس سراة في المدينة كان مسلم يأوي إليهم أول مقدمه إليها، ومنهم هانئ بن عروة الذي تقدمت الإشارة إليه.
طلائع الفشل
كان مقتل مسلم بن عقيل في التاسع من ذي الحجة ليلة العيد، وكان خروج الحسين من مكة قبل ذلك بيوم واحد، فلم يسمع بمقتله إلا وهو في آخر الطريق.
ولما شارف العراق أحب أن يستوثق مرة أخرى قبل دخوله، فكتب إلى أهل الكوفة كتابا مع قيس بن سهر الصيداوي يخبرهم بمقدمه ويحضهم على الجد والتساند، فوافى قيس القادسية وقد رصد فيها شرط عبيد الله فاعتقلوه وأشخصوه إليه. فأمره عبيد الله أن يصعد القصر فيسب «الكذاب بن الكذاب الحسين بن علي» وينهى الناس أن يطيعوه .
فصعد قيس وقال: «أيها الناس، إن هذا الحسين بن علي خير خلق الله، ابن فاطمة بنت رسول الله، وأنا رسوله إليكم! وقد فارقته بالحاجز فأجيبوه، والعنوا عبيد الله بن زياد وأباه.»
فما كان منهم إلا أن قذفوا به من حالق، فمات.
وحدث مثل هذا مع عبد الله بن يقطر، فأبى أن يلعن الحسين، ولعن عبيد الله بن زياد، فألقوا به من شرفات القصر إلى الأرض فاندكت عظامه ولم يمت، فذبحوه.
وجعل الحسين كلما سأل قادما من العراق أنبأه بمقتل رسول من رسله أو داعية من دعاته، فأشار عليه بعض صحبه بالرجوع، وقال له غيرهم: «ما أنت مثل مسلم بن عقيل، ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع.»
ووثب بنو عقيل فأقسموا لا يبرحون حتى يدركوا ثأرهم أو يذوقوا ما ذاق مسلم.
ولم ير الحسين بعد ذلك أن يصحب معه أحدا إلا على بصيرة من أمره وما هو لاقيه إن تقدم ولم ينصرف لشأنه، فخطب الرهط الذين صحبوه وقال لهم: «وقد خذلنا شيعتنا، فمن أحب منكم أن ينصرف فلينصرف، ليس عليه منا ذمام.»
فتفرقوا إلا أهل بيته وقليلا ممن تبعوه في الطريق.
الحسين والحر بن يزيد
والتقى الركب عند جبل ذي حسم بطلائع جيش عبيد الله يقودها الحر بن يزيد التميمي اليربوعي في ألف فارس، أمروا بأن لا يدعوا الحسين حتى يقدموا به على عبيد الله في الكوفة.
فأمر الحسين مؤذنه بالأذان لصلاة الظهر، وخطب أصحابه وأصحاب الحر بن يزيد فقال:
أيها الناس، إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم ورسلكم أن أقدم علينا فليس لنا إمام؛ لعل الله يجمعنا بك على الهدى والحق. فقد جئتكم، فإن تعطوني ما أطمئن إليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم، وإن لم تفعلوا أو كنتم لقدومي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه.
فلم يجبه أحد.
فقال للمؤذن: أقم الصلاة!
وسأل الحر: أتريد أن تصلي أنت بأصحابك وأصلي بأصحابي؟
فقال الحر: بل نصلي جميعا بصلاتك. •••
ثم تياسر الحسين إلى طريق العذيب، فبلغها وفرسان عبيد الله يلازمونه، ويصرون على أخذه إلى أميرهم، وصده عن وجهته حيثما اتجه غير وجهتهم، فأقبل عليهم يعظهم وهم يصغون إليه، فقال:
أيها الناس! إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله مخالفا لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير ما عليه بفعل ولا قول كان حقا على الله أن يدخله مدخله.» ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالغي، وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله، وأنا أحق من غيري، وقد أتتني كتبكم ورسلكم ببيعتكم وأنكم لا تسلمونني ولا تخذلونني، فإن بقيتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم، وأنا الحسين بن على وابن فاطمة بنت رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، نفسي مع أنفسكم وأهلي من أهلكم، فلكم في أسوة. وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدي، وخلعتم بيعتي، فلعمري ما هي لكم بنكير، والمغرور من اغتر بكم، فحظكم أخطأتم، ونصيبكم ضيعتم. ومن نكث فإنما ينكث على نفسه وسيغني الله عنكم، والسلام.
فأنصت الحر بن يزيد وأصحابه، ثم توجه إليه يحذره العاقبة، وينبئه: «لئن قاتلت لتقتلن!»
فصاح به الحسين: أبالموت تخوفني! ما أدرى ما أقول لك، ولكني أقول كما قال أخو الأوس لابن عمر وهو يريد نصرة رسول الله، فخوفه ابن عمر وأنذره أنه لمقتول فأنشد:
سأمضي وما بالموت عار على الفتى
إذا ما نوى خيرا وجاهد مسلما
وآسى الرجال الصالحين بنفسه
وخالف مثبورا وفارق مجرما
فإن عشت لم أندم، وإن مت لم ألم
كفى بك ذلا أن تعيش وترغما •••
ثم سار الركبان ينظر بعضهما إلى بعض كلما مال الحسين نحو البادية أسرع الحر بن يزيد فرده نحو الكوفة. حتى نزلا بنينوى، فإذا راكب مقبل عليه بالسلاح، يحيي الحر ولا يحيي الحسين، ثم أسلم الحر كتابا من عبيد الله يقول فيه: «أما بعد؛ فجعجع بالحسين حتى يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي، فلا تنزله إلا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء. وقد أمرت رسولي أن يلزمك فلا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري، والسلام.»
فلما بدا من الحر بن يزيد أنه يريد أن ينفذ أمر عبيد الله بن زياد ويخشى رقيبه الذي أمر ألا يفارقه حتى ينفذ أمره، قال أحد أصحاب الحسين - زهير بن القين: إنه لا يكون والله بعد ما ترون إلا ما هو أشد منه، يابن رسول الله! إن قتال هؤلاء أهون علينا من قتال من يأتينا بعدهم، فلعمري ليأتينا من بعدهم ما لا قبل لنا به، فهلم نناجز هؤلاء.
فأعرض الحسين عن مشورته وقال: إني أكره أن أبدأهم بقتال.
عمر بن سعد
وكان الديلم قد ثاروا على يزيد بن معاوية، واستولوا على دستبي بأرض همذان، فجمع لهم عبيد الله بن زياد جيشا عدته أربعة آلاف فارس بقيادة عمر بن سعد بن وقاص الذي يذكر الديلم اسم أبيه - سعد - فاتح بلادهم، وقد وعد بولاية الري بعد قمع الثورة الديلمية، فلما قدم الحسين إلى العراق قال عبيد الله لعمر: نفرغ من الحسين ثم تسير إلى عملك.
فاستعفاه، وعلم عبيد الله موطن هواه فقال له: نعم نعفيك على أن ترد إلينا عهدنا.
فاستمهله حتى يراجع نصحاءه، فنصح له ابن أخته حمزة بن المغيرة بن شعبة - وهو من أكبر أعوان معاوية - ألا يقبل مقاتلة الحسين، وقال له: والله لأن تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض لو كان لك، خير من أن تلقى الله بدم الحسين. •••
وبات ليلته يقلب وجوه رأيه، حتى إذا أصبح ذهب إلى ابن زياد، فاقترح عليه أن يبعث إلى الحسين من أشراف الكوفة من ليس يغني في الحرب عنهم، فأبى ابن زياد إلا أن يسير إلى الحسين أو ينزل عن ولاية الري، فسار على مضض وجنوده متثاقلون متحرجون، إلا زعانف المرتزقة الذين ليس لهم من خلاق.
وكان جنود الجيش يتسللون منه ويتخلفون بالكوفة، فندب عبيد الله رجلا من أعوانه - هو سعد بن عبد الرحمن المنقري - ليطوف بها ويأتيه بمن تخلف عن المسير لقتال الحسين، وضرب عنق رجل جيء به وقيل: إنه من المتخلفين. فأسرع بقيتهم إلى المسير .
وقد أدرك الجيش الحسين وهو بكربلاء، على نحو خمسة وعشرين ميلا إلى الشمال الغربي من الكوفة، نزل بها في الثاني من المحرم سنة إحدى وستين.
وخلا الجو في الكوفة لرجلين اثنين يسابق كلاهما صاحبه في اللؤم وسوء الطوية، وينفردان بتصريف الأمر في قضية الحسين دون مراجعة من ذي سلطان، وهما عبيد الله بن زياد، وشمر بن ذي الجوشن.
عبيد الله المغموز النسب الذي لا يشغله شيء، كما يشغله التشفي لنسبه المغموز من رجل هو - بلا مراء - أعرق العرب نسبا في الجاهلية والإسلام، فليس أشهى إليه من فرصة ينزل فيها ذلك الرجل على حكمه، ويشعره فيها بذله ورغمه.
شمر بن ذي الجوشن
شمر بن ذي الجوشن الأبرص الكريه الذي يمضه من الحسين ما يمض كل لئيم مشنوء من كل كريم محبوب وسيم.
وكان كلاهما يفهم لؤم صاحبه، ويعطيه فيه حقه وعذره، فهما في هذه الخلة متناصحان متفاهمان!
ولم يكن أيسر من حل قضية الحسين على وجه يرضي يزيد، ويمهد له الولاء في قلوب المسلمين ولو إلى حين، لولا ذلك الضغن الممتزج بالخليقة الذي هو كسكر المخمور لا موضع معه لرأي مصيب، ولا لتفكير في عاقبة بعيدة أو قريبة.
فالحسين في أيديهم ليس أيسر عليهم من اعتقاله وإبقائه بأعينهم في مكان ينال فيه الكرامة ولا يتحفز لثورة.
لكنهما لم يفكرا في أيسر شيء، ولا أنفع شيء للدولة التي يخدمانها، وإنما فكرا في النسب المغموز والصورة الممسوخة، فلم يكن لهما من هم غير إرغام الحسين وإشهاد الدنيا كلها على إرغامه.
تلقى ابن زياد من عمر بن سعد كتابا يقول فيه إن الحسين «أعطاني أن يرجع إلى المكان الذي أقبل منه أو أن نسيره إلى أي ثغر من الثغور شئنا، أو أن يأتي يزيد فيضع يده في يده».
والذي نراه نحن من مراجعة الحوادث والأسانيد أن الحسين ربما اقترح الذهاب إلى يزيد ليرى رأيه، ولكنه لم يعدهم أن يبايعه أو يضع يده في يده؛ لأنه لو قبل ذلك لبايع في مكانه، واستطاع عمر بن سعد أن يذهب به إلى وجهته، ولأن أصحاب الحسين في خروجه إلى العراق قد نفوا ما جاء في ذلك الكتاب، ومنهم عقبة بن سمعان حيث كان يقول: «صحبت الحسين من المدينة إلى مكة ومن مكة إلى العراق، ولم أفارقه حتى قتل، وسمعت جميع مخاطباته إلى الناس إلى يوم قتله، فوالله ما أعطاهم ما يزعمون من أن يضع يده في يد يزيد، ولا أن يسيروه إلى ثغر من الثغور»، ولكنه قال: «دعوني أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه أو دعوني أذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر إلى ما يصير إليه أمر الناس.» •••
ولعل عمر بن سعد قد تجوز في نقل كلام الحسين عمدا؛ ليأذنوا له في حمله إلى يزيد فيلقي عن كاهله مقاتلته وما تجر إليه من سوء القالة ووخز الضمير، أو لعل الأعوان الأمويين قد أشاعوا عن الحسين اعتزامه للمبايعة ليلزموا بالبيعة أصحابه من بعده، ويسقطوا حجتهم في مناهضة الدولة الأموية.
وأيا كانت الحقيقة في هذه الدعوى فهي تكبر مأثمة عبيد الله وشمر ولا تنقص منها، ولقد كانا على العهد بمثليهما؛ كلاهما كفيل أن يحول بين صاحبه وبين خالجة من الكرم تخامره أو تغالب اللؤم الذي فطر عليه، فلا يصدر منهما إلا ما يوائم لئيمين لا يتفقان على خير.
وكأنما جنح عبيد الله إلى شيء من الهوادة حين جاءه كتاب عمر بن سعد، فابتدره شمر ينهاه، ويجنح إلى الشدة والاعتساف، فقال له: أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك وإلى جنبك! والله لئن رحل من بلادك ولم يضع يده في يدك ليكونن أولى بالقوة والعزة، ولتكونن أولى بالضعف والعجز؛ فلا تعطه هذه المنزلة، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه، فإن عاقبت كنت ولي العقوبة، وإن عفوت كان ذلك لك.
ثم أراد أن يوقع بعمر ويتهمه عند عبيد الله؛ ليخلفه في القيادة، ثم يخلفه في الولاية، فذكر لعبيد الله أن الحسين وعمر يتحدثان عامة الليل بين المعسكرين.
فعدل عبيد الله إلى رأي شمر وأنفذه بأمر منه أن يضرب عنق عمر إن هو تردد في إكراه الحسين على المسير إلى الكوفة أو مقاتلته حتى يقتل. وكتب إلى عمر يقول له:
أما بعد ... فإني لم أبعثك إلى الحسين لتكف عنه ولا لتمنيه السلامة والبقاء ولا لتطاوله ولا لتعتذر عنه ولا لتقعد له عندي شافعا. انظر فإن نزل الحسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إلي مسلما، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم، فإنهم لذلك مستحقون. فإن قتل الحسين فأوطئ الخيل صدره وظهره فإنه عاق مشاق قاطع ظلوم. فإن أنت مضيت لأمرنا جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أنت أبيت فاعتزل جندنا وخل بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر، والسلام.
وختمت مأساة كربلاء كلها بعد أيام معدودات.
ولكنها أيام بقيت لها جريرة لم يحمدها طالب منفعة ولا طالب مروءة، ومضت مئات السنين وهي لا تمحو آثار تلك الأيام في تاريخ الشرق والإسلام.
الفصل السادس
هل أصاب؟
خطأ الشهداء
خروج الحسين من مكة إلى العراق حركة لا يسهل الحكم عليها بمقياس الحوادث اليومية؛ لأنها حركة من أندر حركات التاريخ في باب الدعوة الدينية أو الدعوة السياسية. لا تتكرر كل يوم، ولا يقوم بها كل رجل، ولا يأتي الصواب فيها - إن أصابت - من نحو واحد ينحصر القول فيه، ولا يأتي الخطأ فيها - إن أخطأت - من سبب واحد يمتنع الاختلاف عليه. وقد يكون العرف فيها بين أصوب الصواب وأخطأ الخطأ فرقا صغيرا من فعل المصادفة والتوفيق، فهو خليق أن يذهب إلى النقيضين.
هي حركة لا يأتي بها إلا رجال خلقوا لأمثالها فلا تخطر لغيرهم على بال؛ لأنها تعلو على حكم الواقع القريب الذي يتوخاه في مقاصده سالك الطريق اللاحب والدرب المطروق.
هي حركة فذة يقدم عليها الرجال أفذاذ، من اللغو أن ندينهم بما يعمله رجال من غير هذا المعدن وعلى غير هذه الوتيرة؛ لأنهم يحسون ويفهمون، ويطلبون غير الذي يحسه ويفهمه ويطلبه أولئك الرجال.
هي ليست ضربة مغامر من مغامري السياسة، ولا صفقة مساوم من مساومي التجارة، ولا وسيلة متوسل ينزل على حكم الدنيا أو تنزل الدنيا على حكمه، ولكنها وسيلة من يدين نفسه ويدين الدنيا برأي من الآراء هو مؤمن به ومؤمن بوجوب إيمان الناس به دون غيره. فإن قبلته الدنيا قبلها وإن لم تقبله فسيان عنده فواته بالموت أو فواته بالحياة، بل لعل فواته بالموت أشهى إليه.
هي حركة لا تقاس إذن بمقياس المغامرات ولا الصفقات، ولكنها تقاس بمقياسها الذي لا يتكرر ولا يستعاد على الطلب من كل رجل أو في كل أوان.
ولا ننسى أن السنين الستين التي انقضت بعد حركة الحسين، قد انقضت في ظل دولة تقوم على تخطئته في كل شيء، وتصويب مقاتليه في كل شيء. •••
إن القول بصواب الحسين معناه القول ببطلان تلك الدولة، والتماس العذر له معناه إلقاء الذنب عليها. وليس بخاف على أحد كيف ينسى الحياء وتبتذل القرائح أحيانا في تنزيه السلطان القائم وتأثيم السلطان الذاهب. فليس الحكم على صواب الحسين أو على خطئه إذن بالأمر الذي يرجع فيه إلى أولئك الصنائع المتزلفين الذين يرهبون سيف الدولة القائمة، ويغنمون من عطائها، ولا لصنائع مثلهم يرهبون بعد ذلك سيفا غير ذلك السيف، ويغنمون من عطاء غير ذلك العطاء.
إنما الحكم في صواب الحسين وخطئه لأمرين لا يختلفان باختلاف الزمان وأصحاب السلطان، وهما البواعث النفسية التي تدور على طبيعة الإنسان الباقية، والنتائج المقررة التي مثلت للعيان باتفاق الأقوال.
وبكل من هذين المقياسين القويين حركة الحسين في خروجه على يزيد بن معاوية، فنقول إنه قد أصاب.
أصاب إذا نظرنا إلى بواعثه النفسية التي تهيمن عليه، ولا يتخيل العقل أن تهيمن عليه بواعث غيرها.
وأصاب إذا نظرنا إلى نتائج الحركة كلها نظرة واسعة، لا يستطيع أن يجادل فيها من يأخذ الأمور بسنة الواقع والمصلحة، أو من يأخذ الأمور بسنة النجدة والمروءة.
فما هي بواعث النفسية التي قامت بنفس الحسين يوم دعي في المدينة بعد موت معاوية لمبايعة ابنه يزيد؟
هي بواعث تدعوه كلها أن يفعل ما فعل، ولا تدعو مثله إلى صنيع غير ذلك الصنيع، وخير لبني الإنسان ألف مرة أن يكون فيهم خلق كخلق الحسين الذي أغضب يزيد بن معاوية، من أن يكون جميع بني الإنسان على ذلك الخلق الذي يرضى به يزيد.
فأول ما ينبغي أن نذكره لفهم البواعث النفسية التي خامرت نفس الحسين في تلك المحنة الأليمة، أن بيعة يزيد لم تكن بالبيعة المستقرة ولا بالبيعة التي يضمن لها الدوام في تقدير صحيح.
فهي بيعة نشأت في مهد الدس والتمليق، ولم يجسر معاوية عليها حتى شجعه عليها من له مصلحة ملحة في ذلك التشجيع. •••
كان المغيرة بن شعبة واليا لمعاوية على الكوفة، ثم هم بعزله وإسناد ولايته إلى سعيد بن العاص جريا على عادته في إضعاف الولاة قبل تمكنهم، وضرب فريق منهم بفريق حتى يعينه بعضهم على بعض ولا يتفقوا عليه. فلما أحس المغيرة نية معاوية، قدم الشام ودخل على يزيد وقال له كالمستفهم المتعجب: لا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة؟!
ولم يكن يزيد نفسه يصدق أنه أهل لها، أو أن بيعته مما يتم بين المسلمين على هينة. فقال للمغيرة: أوترى ذلك يتم؟
فأراه المغيرة أنه ليس بالعسير، إذا أراده أبوه.
وأخبر يزيد أباه بما قال المغيرة، فعلم هذا أن فرصته سانحة، وأنه سيبادل معاوية رشوة آجلة برشوة عاجلة. يرشوه بإعانته على بيعة يزيد، ويأخذ منه الرشوة ببقائه على ولاية الكوفة إلى أن يقضي في أمر هذه البيعة، وله في التمهيد لها نصيب.
فلما لقي معاوية سأله هذا عما أخبره به يزيد، فأعاده عليه وهو يزخرفه له بما يرضيه. قال: قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان، وفي يزيد منك خلف فاعقد له، فإن حدث بك حادث كان كهفا للناس وخلفا منك، ولا تسفك دماء ولا تكون فتنة.
فسأله معاوية وهو يتهيب ويتأنى: ومن لي بذلك؟
قال: أكفيك أهل الكوفة، ويكفيك زياد أهل البصرة، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك.
فرده معاوية إلى عمله كما كان يتمنى، وأوصاه ومن معه ألا يتعجلوا بإظهار هذه النية. ثم استشار زياد بن أبي سفيان ، فأطلع هذا بعض خاصته على الأمر وهو يقول: إن أمير المؤمنين، يتخوف نفرة الناس ويرجو طاعتهم. ويزيد صاحب رسلة وتهاون مع ما قد أولع به من الصيد. فالق أمير المؤمنين وأد إليه فعلات يزيد وقل له رويدك بالأمر، فأحرى أن يتم لك ولا تعجل فإن دركا في تأخير خير من فوت في عجلة.
فأشار عليه صاحبه «ألا يفسد على معاوية رأيه ولا يبغضه في ابنه»، وعرض عليه أن يلقى يزيد فيخبره أن أمير المؤمنين كتب إليك يستشيرك في البيعة له، وأنك تتخوف خلاف الناس لهنات ينقمونها عليه، وأنك ترى له ترك ما ينقم عليه؛ لتستحكم له الحجة على الناس. •••
وقالوا: إن يزيد كف عن كثير مما كان يصنع بعد هذه النصيحة، وإن معاوية أخذ برأي زياد في التؤدة فلم يجهر بعقد البيعة حتى مات زياد.
وقد أحس معاوية الامتعاض من بيته قبل أن يحسه من الغرباء عنه. فكانت امرأته «فاختة» بنت قرطة بن حبيب بن عبد شمس تكره بيعة يزيد، وتود لو أثر بالبيعة ابنها عبد الله، فقالت له: ما أشار به عليك المغيرة؟ أراد أن يجعل لك عدوا من نفسك يتمنى هلاكك كل يوم.
واشتدت نقمة مروان بن الحكم - وهو أقرب الأقرباء إلى معاوية - حين بلغته دعوة العهد ليزيد فأبى أن يأخذ العهد له من أهل المدينة، وكتب إلى معاوية: «إن قومك قد أبوا إجابتك إلى بيعتك.» فعزله معاوية من ولاية المدينة وولاها سعيد بن العاص. فأوشك مروان أن يثور، ويعلن الخروج، وذهب إلى أخواله من بني كنانة فنصروه وقالوا له: نحن نبلك في يدك وسيفك في قرابك. فمن رميته بنا أصبناه، ومن ضربته قطعناه ... الرأي رأيك، ونحن طوع يمينك.
ثم أقبل مروان في وفد منهم كثير إلى دمشق، فذهب إلى قصر معاوية وقد أذن للناس، فمنعه الحاجب؛ لكثرة من رأى معه فضربوه واقتحموا الباب. ودخل مروان وهم معه حتى سلم على معاوية وأغلظ له القول. فخاف معاوية هذا الجمع من وجوه قومه، وترضى مروان ما استطاع، وجعل له ألف دينار كل شهر ومائة لمن كان معه من أهل بيته. •••
ولم يكن مروان وحده بالغاضب بين بني أمية من بيعة يزيد، بل كان سعيد بن عثمان بن عفان يرى أنه أحق منه بالخلافة؛ لأنه ابن عثمان الذي تذرع معاوية إلى الخلافة باسمه. فقال لمعاوية: يا أمير المؤمنين، علام تبايع ليزيد وتتركني! فوالله لتعلم أن أبي خير من أبيه وأمي خير من أمه، وأنك إنما نلت ما نلت بأبي.
فسرى معاوية عنه، وقال له ضاحكا هاشا: يابن أخي، أما قولك إن أباك خير من أبيه، فيوم من عثمان خير من معاوية، وأما قولك إن أمك خير من أمه، ففضل قرشية على كلبية فضل بين، وأما أن أكون نلت ما أنا فيه بأبيك فإنما الملك يؤتيه الله من يشاء. قتل أبوك رحمه الله فتواكلته بنو العاص وقامت فيه بنو حرب، فنحن أعظم بذلك منة عليك، وأما أن تكون خيرا من يزيد فوالله ما أحب أن داري مملوءة رجالا مثلك بيزيد، ولكن دعني من هذا القول وسلني أعطك. وولاه خراسان.
فكان أكبر بني أمية أعظمهم أملا في الخلافة بعد معاوية، وكان بغضهم لبيعة يزيد على قدر أملهم فيها، وهؤلاء - وإن جمعتهم مصلحة الأسرة فترة من الزمن - لم تكن منافستهم هذه ليزيد بالعلامة التي تؤذن بالبقاء وتبشره بالضمان والقرار.
وعلى هذا النحو ولدت بيعة يزيد بين التوجس والمساومة والإكراه.
وبهذه الجفوة قوبلت بين أخلص الأعوان وأقرب القرباء.
وظهر من اللحظات الأولى، أن المغيرة بن شعبة كان سمسارا يصافق على ما لا يملك؛ فقد ضمن الكوفة والبصرة ومنع الخلاف في غيرهما، فإذا الكوفة أول من كره بيعة يزيد، وإذا البصرة تتلكأ في الجواب وواليها يرجئ الأمر، ويوصي بالتمهل فيه، فلا يقدم عليه معاوية في حياته، وإذا أطراف الدولة من ناحية همذان تثور، وإذا بالحجاز يستعصي على بني أمية سنوات، وإذا باليمن ليس فيها نصير للأمويين، ولو وجدت خارجا يعلن الثورة عليهم لكانت ثورتها كثورة الحجاز.
بل يجوز أن يقال - مما ظهر في حركة الحسين كل الظهور - إن الشام نفسها لم تنطو على رجل يؤمن بحق يزيد وبطلان دعوى الحسين. فقد كانوا يتحرجون من حرب الحسين، ويتسلل من استطاع منهم التسلل قبل لقائه، إلا أن يهدد بقطع الأرزاق وقطع الرقاب.
والحوادث التي تلت حركة الحسين إلى ختام عهد يزيد أدل مما تقدم على اضطراب عهده وقلة ضمانه؛ لأن الأحداث والنذر لم تزل تتوالى بقية حياته وبعد موته بسنين.
ونحن اليوم نعلم من التاريخ كيف انتهت هذه الحوادث والنذر في عهد يزيد أو بعد عهده، فيخيل إلينا أن عواقبها لم تكن تحتمل الشك ولم يكن بها من خفاء، ولكن الذين استقبلوها كانوا خلقاء ألا يروا فيها طوالع ملك تعنو له الرءوس ويرجى له طول البقاء.
بواعث الخروج
نعم، كانت هناك ندحة عن الخروج لو كان يزيد في الخلافة رضى المسلمين من العقل والخلق وسلامة التدبير وعزة الموئل والدولة، وكان المسلمون قد توافوا على اختياره لحبهم إياه، وتعظيمهم لعقله وخلقه، واطمئنانهم إلى سياسته، واعتمادهم على صلاحه وإصلاحه.
ولكنه على نقيض ذلك، كان كما علمنا رجلا هازلا في أحوج الدول إلى الجد، لا يرجى له صلاح ولا يرجى منه إصلاح. وكان اختياره لولاية العهد مساومة مكشوفة، قبض كل مساهم فيها ثمن رضاه ومعونته جهرة وعلانية من المال أو الولاية أو المصانعة، ولو قبضوا مثل هذا الثمن ليبايعوا وليا للعهد شرا من يزيد لما همهم أن يبايعوه وإن تعطلت حدود الدين وتقوضت معالم الأخلاق.
وأعجب شيء أن يطلب إلى الحسين بن علي أن يبايع مثل هذا الرجل ويزكيه أمام المسلمين، ويشهد له عندهم أنه نعم الخليفة المأمول، صاحب الحق في الخلافة وصاحب القدرة عليه. ولا مناص للحسين من خصلتين: هذه، أو الخروج! لأنهم لن يتركوه بمعزل عن الأمر لا له ولا عليه. •••
إن بعض المؤرخين من المستشرقين وضعاف الفهم من الشرقيين ينسون هذه الحقيقة ولا يولونها نصيبها من الرجحان في كف الميزان.
وكان خليقا بهؤلاء أن يذكروا أن مسألة العقيدة الدينية في نفس الحسين لم تكن مسألة مزاج أو مساومة، وأنه كان رجلا يؤمن أقوى الإيمان بأحكام الإسلام، ويعتقد أشد الاعتقاد أن تعطيل حدود الدين هو أكبر بلاء يحيق به وبأهله وبالأمة العربية قاطبة في حاضرها ومصيرها؛ لأنه مسلم ولأنه سبط محمد، فمن كان إسلامه هداية نفس فالإسلام عند الحسين هداية نفس وشرف بيت.
وقد لبث بنو أمية بعد مصرعه ستين سنة يسبونه ويسبون أباه على المنابر، ولم يجسر أحد منهم قط على المساس بورعه وتقواه ورعايته لأحكام الدين في أصغر صغيرة يباشرها المرء سرا أو علانية، وحاولوا أن يعيبوه بشيء غير خروجه على دولتهم فقصرت ألسنتهم وألسنة الصنائع والأجراء دون ذلك. فكيف يواجه مثل هذا الرجل خطرا على الدين في رأس الدولة وعرش الخلافة مواجهة الهوادة والمشايعة والتأمين؟ وكيف يسام أن يرشح للإمامة من لا شفاعة له ولا كفاية فيه إلا أنه ابن أبيه؟
لقد كان أبوه معاوية على كفاءة ووقار وحنكة ودراية بشئون الملك والرئاسة، وكان له مع هذا نصحاء ومشيرون أولو براعة وأحلام تكبح من السلطان ما جمح وتقيم ما انحرف وتملي له فيما عجز عنه، وهذا ابنه القائم في مقامه لا كفاءة ولا وقار ولا نصحاء ولا مشيرون، إلا من كان عونا على شر أو موافقا على ضلالة. فما عسى أن تكون الشهادة له بالصلاح للإمامة إلا تغريرا بالناس وقناعة بالسلامة أو الأجر المبذول على هذا التغرير؟
ثم هي خطوة لا رجعة بعدها إذا أقدم عليها الحسين بما أثر عنه من الوفاء وصدق السريرة. فإذا بايع يزيد فقد وفى له بقية حياته كما وفى لمعاوية بما عاهده عليه، ولا سيما حين يبايع يزيد على علم بكل نقيصة فيه قد يتعلل بها المتعلل لنقض البيعة وانتحال أسباب الخروج.
فملك يزيد لم يقم على شيء واحد يرضاه الحسين لدينه أو لشرفه أو للأمة الإسلامية، ومن طلب منه أن ينصر هذا الملك فإنما يطلب منه أن ينصر ملكا ينكر كل دعواه، ولا يحمد له حالة من الأحوال، ولا تنس بعد هذا كله أن هذا الملك كان يقرر دعائمه في أذهان الناس بالغض من الحسين في سمعة أبيه وكرامة شيعته ومريديه. فكانوا يسبون عليا على المنابر وينعتونه بالكذب والمروق والعصيان، وكانوا يتحرون أنصاره حيث كانوا فيقهرونهم على سبه والنيل منه بمشهد من الناس، وإلا أصابهم العنت والعذاب، وشهروا في الأسواق بالصلب والهوان. فمجاراة هذه الأمور كلها في مفتتح ملك جديد معناه أنها سنة قد وجبت واستقرت الجيل بعد الجيل بغير أمل في التغيير والتبديل. فمن أقر هذه السنة في مفتتح هذا الملك الجديد فقد ضعف أمله، وضعف أمل أنصاره فيه يوما بعد يوم، وازداد مع الزمن ضعفا كما ازدادت حجة خصومه قوة عليه.
هذه هي البواعث النفسية التي كانت تجيش في صدر الحسين يوم دعاه أولياء بن أمية إلى مبايعة يزيد والنزول عن كل حق له ولأبنائه ولأسرته في إمامة المسلمين، كائنا من كان القائم بالأمر وبالغا ما بلغ من قلة الصلاح وبطلان الحجة. وهي بواعث لا تثنيه عن الخروج، ولا تزال تلح عليه في اتخاذ طريق واحد من طريقين لا معدل عنهما، وهما الخروج إن كان لابد خارجا في وقت من الأوقات، أو التسليم بما ليست ترضاه له مروءة ولا يرضاه له إيمان.
مصرع وانتصار
أما نتائج الحركة كلها - إذا نظرنا إليها نظرة واسعة - فهي أنجح للقضية التي كان ينصرها من مبايعة يزيد.
فقد صرع الحسين عام خروجه، ولحق به يزيد بعد ذلك بأقل من أربع سنوات.
ولم تنقض ست سنوات على مصرع الحسين حتى حاق الجزاء بكل رجل أصابه في كربلاء، فلم يكد يسلم منهم أحد من القتل والتنكيل مع سوء السمعة ووسواس الضمير.
ولم تعمر دولة بني أمية بعدها عمر رجل واحد مديد الأجل، فلم يتم لها بعد مصرع الحسين نيف وستون سنة! وكان مصرع الحسين هو الداء القاتل الذي سكن في جثمانها حتى قضى عليها، وأصبحت ثارات الحسين نداء كل دولة تفتح لها طريقا إلى الأسماع والقلوب.
ولإصابة هذه الحركة في نتائجها الواسعة دخل في روع بعض المؤرخين أنها تدبير من الحسين رضي الله عنه ، توخاه منذ اللحظة الأولى وعلم موعد النصر فيه؛ فلم يخامره الشك في مقتله ذلك العام، ولا في عاقبة هذه الفعلة التي ستحيق لا محالة بقاتليه بعد أعوام.
فقال ماريين الألماني في كتابه (السياسة الإسلامية): «إن حركة الحسين في خروجه على يزيد إنما كانت عزمة قلب كبير عز عليه الإذعان وعز عليه النصر العاجل، فخرج بأهله وذويه ذلك الخروج الذي يبلغ به النصر الآجل بعد موته، ويحيي به قضية مخذولة ليس لها بغير ذلك حياة.»
فإن لم يكن رأي الكاتب حقا كله، فبعضه على الأقل حق لا شك فيه، ويصدق ذلك - في رأينا - على حركة الحسين بعد أن حيل بينه وبين الذهاب لوجهه الذي يرتضيه، فآثر الموت كيفما كان ولم يجهل ما يحيق ببني أمية من جراء قتله ... فهو بالغ منهم بانتصارهم عليه ما لم يكن ليبلغه بالنجاة من وقعة كربلاء. •••
وقد جرى ذكر الموت على لسان الحسين من خطوته الأولى، وهو يتهيأ للرحيل، ويودع أصحابه في الحجاز. فقال لهم: «إن الموت حق على ولد آدم.» ولم يخف عليه أنه يركب الخطة التي لا يبالي راكبها ما يصيبه من ذلك القضاء.
لكنه لم يكن ييأس من إقناع الناس والتفافهم به منذ خطوته الأولى. ولم يعقد عزمه على ملاقاة الموت حتى ساموه الرغم، وأبوا عليه أن ينصرف إلى أي منصرف قبل التسليم المبين - مسوقا على الكره منه - إلى عبيد الله بن زياد.
وتتباين آراء المتأخرين خاصة في خروج الحسين بنسائه وأبنائه، أكان هو الأحزم والأكرم أم كان الأحزم والأكرم أن يخرج بمفرده حتى يرى ما يكون من استجابة الناس له أو إعراضهم عنه وضعفهم في تأييده.
وليس للمتأخرين أن يقضوا في مسألة كهذه بعقولهم وعاداتهم؛ لأنها مسألة يقضى فيها بحكم العقل العربي وعاداته في أشباه هذه المواقف. وقد كان اصطحاب النساء والأبناء عادة عربية في البعوث التي يتصدى لها المرء متعمدا القتال دون غيره فضلا عن البعوث التي قد تشتبك في القتال، وقد تنتهي بسلام كبعثة الحسين.
فكان المقاتلون في وقعة ذي قار يصطحبون حلائلهم وذراريهم، ويقطعون وضن الرواحل - أي أحزمتها - قبل خوض المعركة، وكان المسلمون والمشركون معا يصطحبون الحلائل والذراري في غزوات النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكان مع المسلمين في حرب الروم صفوة نساء قريش وعقائل بيوتاتها، وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
يصطحب زوجة أو أكثر من زوجة في غزواته وحروبه، وحكم الواحدة هنا حكم الكثيرات، وهي عادة عربية عريقة يقصدون بها الإشهاد على غاية العزم وصدق النية فيما هم مقبلون عليه، وفي معلقة ابن كلثوم إشارة مجملة إلى معنى هذه العادة العربية من قديم عصورها حيث يقول:
على آثارنا بيض حسان
نحاذر أن تقسم أو تهونا
يقتن جيادنا ويقلن لستم
بعولتنا إذا لم تمنعونا
وقد كان الحسين - رضي الله عنه - يندب الناس لجهاد يخوضونه إن قضي عليهم أن يخوضوه فلا يبالون ما يصيبهم في أنفسهم وفي أبنائهم وأموالهم؛ لأنهم يطلبون به ما هو أعز على المؤمن من النفس والولد والمال، فليس من المروءة أن يندبهم لأمر ولا يكون قدوة لهم فيه.
وكان على الحسين - وقد أزمع الخروج - أن يجمع له أقوى حجة في يديه، ويجمع على خصومه أقوى حجة تنقلب عليهم، إذا غلبوه وأخفق في مسعاته، فيكون أقوى ما يكون وهو منتصر، ويكونون أبغض ما يكونون وهو مخذول.
والمسلم الذي ينصر الحسين لنسبه الشريف أولى أن ينصره غاية نصره وهو بين أهله وعشيرته، وإلا فما هو بناصره على الإطلاق، وتنقلب الآية في حالة الخذلان، فينال المنتصر من البغضاء والنقمة على قدر انتصاره الذي يوشك أن ينقلب عليه.
صواب الشهداء
وجملة ما يقال أن خروج الحسين من الحجاز إلى العراق كان حركة قوية لها بواعثها النفسية التي تنهض بمثله، ولا يسهل عليه أن يكبتها أو يحيد بها عن مجراها.
وإنها قد وصلت إلى نتائجها الفعالة من حيث هي قضية عامة تتجاوز الأفراد إلى الأعقاب والأجيال، سواء أكانت هذه القضية نصرة لآل الحسين أم حربا لبني أمية.
إنما يبدو الخطأ في هذه الحركة حين ننظر إليها من زاوية واحدة ضيقة المجال قريبة المرمى، وهي زاوية العمل الفردي الذي يراض بأساليب المعيشة اليومية، ويدور على النفع العاجل للقائمين به والداعين إليه.
فحركة الحسين لم تكن مسددة الأسباب لمنفعة الحسين بكل ثمن وحيثما كانت الوسيلة.
وعلة ذلك ظاهرة قريبة، وهي أن الحسين - رضي الله عنه - طلب الخلافة بشروطها التي يرضاها، ولم يطلبها غنيمة يحرص عليها مهما تكلفه من ثمن، ومهما تتطلب من وسيلة.
وهنا غلطة الشهداء.
بل قل: هنا صواب الشهداء.
ومن هو الشهيد إن لم يكن هو الرجل الذي يصاب، ويعلم أنه يصاب؛ لأن الواقع يخذله، ولا يجري معه إلى مرماه؟
ومن هو الشهيد إن لم يكن هو الرجل الذي «يكلف الأيام ضد طباعها» ويصدق الخير في طبيعة الإنسان، والخير عزيز والدنيا به شحيحة؟
منذ القدم، أخطأ الشهداء هذا الخطأ، ولو أصابوا فيه؛ لما كانوا شهداء، ولا شرفت الدنيا بفضيلة الشهادة.
فالحسين - رضي الله عنه - قد طلب خلافة الراشدين حيث لا تتسنى خلافة الراشدين، أو حيث تتسنى الدولة الدنيوية التي يضن بها أصحابها، ويتكالبون عليها، ويتوسلون إليها بوسائلها.
فكانت عنايته بالدعوة والإقناع أعظم جدا من عنايته بالتنظيم والإلزام.
نزل رسوله الأول مسلم بن عقيل بالكوفة صفر اليدين من المال حتى احتاج فيها أن يقترض سبعمائة درهم هي التي أوصى بردها إلى أصحابها قبل قتله.
وتلك عقبة من العقبات التي تعوق الدعوات الكبار، ولكنها على هذا لم تكن بالعقبة العصية التذليل.
فلو أنه قد طلب المال من وسائله الدنيوية أو السياسة، لما استعصى عليه أن يأخذ منه ما يكفيه. فلعله كان ميسورا له بعد أن تجمع حوله الأنصار، وبايع الحسين على يديه ثلاثون ألفا كما جاء في بعض الروايات. ففي تلك اللحظة لعله كان يستطيع أن يحيط بقصر الوالي الأموي، ويستولي عليه، وينشئ الحكومة الحسينية فيه. ثم لعله كان يستطيع بعد ذلك أن يوجه الدعاة إلى أطراف الدولة الشرقية ليلتقى البيعة، ويقيم الولاة، ويحشد الأجناد.
فإذا كان هذا فاته حتى خف الأمويون لدرء الخطر عنهم وبعثوا إلى الكوفة بعبيد الله بن زياد ، فقد سيق عبيد الله هذا في يوم من الأيام إلى يديه، وكان في وسعه أن يبطش به، ويستوي على كرسيه، ويحرم يزيد بن معاوية نصيرا من أعنف أنصاره.
وقد فاته هذا؛ لأن شريعة الخلافة لا تبيحه في رأيه، أو لأنه اعتقد أن الحق بين وأن الباطل بين؛ فلا حاجة به بعد التمييز بينهما إلى فتكة الغدر كما سماها، ولا محل عنده لإهدار الدماء، وهو ينعي على الدولة القائمة أنها تهدر الدماء بالشبهات.
ولقد رأى مسلم أن حق صاحبه في الخلافة قائم على شيء واحد، وهو إقبال الناس إليه طائعين، ومبايعتهم إياه مختارين. فأما وقد تفرقوا عنه رهبة من السلطان أو ضعفا في اليقين، فالرأي عنده أن يكتب إلى صاحبه يعلمه بانفضاض الناس عنه، ويثنيه عن القدوم، ولا حق له عليهم بعد ذلك حتى يثوبوا إليه.
وقيام الخلافة على هذا الاختيار عقيدة لا نفهمها نحن الآن، ولكن قد يفهمها يومئذ من كان على مقربة من عهد النبوة وعهد الصديق والفاروق.
فقد كان الصراع بين الحسين ويزيد أول تجربة من قبيلها بعد عهد النبوة وعهد الخلفاء الأولين.
لم يكن الصراع بين علي ومعاوية على هذا الوضوح الذي لا شبهة فيه بين الحق والباطل وبين الفضيلة والنقيصة.
لكنه في بيعة الحسين كان قد وضح وضوح الصبح لذي عينين.
وكان ذلك كما قلنا أول تجربة من قبيلها بعد عهد الفداء في سبيل العقيدة والإيمان، بعد العهد الذي كان الرجل فيه يخرج من ماله، وينفصل من ذويه، ويتجرد لحرب أبيه أخيه وبنيه إن خالفوه في أمر الإسلام، بعد العهد الذي كان القليل فيه من المسلمين يصدون الكثير من المشركين وفي أيديهم السلاح والعتاد ومن ورائهم المعاقل والأزواد، بعد العهد الذي تغير فيه الناس، وخيل إلى من كان يعهدهم على غير تلك الحال أنهم متغيرون.
الناس عبيد الدنيا
فكيف ينخذل الحسين وينتصر يزيد في عالم شهد النبوة وشهد الخلافة على سنة الراشدين؟ إن كلمة واحدة قالها الحسين في ساعة يأسه تشف عن مبلغ يقينه بوجوب الحق ، وعجبه من أن يكون الأمر غير ما وجب، وذلك حيث قال: «الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت به معائشهم، فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون.»
إن الطبائع الأرضية لا تنخدع في صلاح الناس، ولا تعجب هذا العجب؛ لأنها لا تخرج من نطاقها المحدود، ولا تصدق ما وراءه من الآمال والوعود.
إنها لا تضل عن طريق المنفعة؛ لأنها لا تعرف غيرها من طريق، إنها تؤثر القنديل الخافت في يدها على الكوكب اللامع في السماء، لا لأنها لا ترى الكوكب اللامع في السماء؛ بل لأنها ترى القنديل والكوكب فتعلم أن هذا قريب وأن ذاك جد بعيد.
إنها لا تنخدع بالسراب؛ لأنها لا تخرج من عقر دارها، ولا تشعر بظمأ الفؤاد، ولا تنظر إلى السراب.
ولكن طبيعة الشهداء غير طبيعة المساومة على البيع والشراء.
طبيعة المساومة موكلة بالحرص على الهنات.
وطبيعة الشهادة موكلة ببذل الحياة لما هو أدوم من الحياة.
وشتان طبيعة وطبيعة، وشتان خطأ الشهداء وخطأ المساومين.
وليست موازين المساومة بالموازين الفذة التي يصلح عليها أمر بني الإنسان، فإن بني الإنسان ما بهم عن غنى قط عن الذين يخطئون؛ لأنهم أرفع من المصيبين، وأنهم لهم الشهداء.
وإنهم لعلى صواب في المدى البعيد، وإن كانوا على خطأ في المدى القريب، مدى الأجواف والمعدات والجلود لا مدى الأرواح والأخلاد.
من هؤلاء كان الحسين - رضي الله عنه - بل هو أبو الشهداء، وينبوع شهادة متعاقبة لا يقرن بها ينبوع في تاريخ البشر أجمعين.
فلا جرم يصيب في المدى البعيد، ويخطئ في المدى القريب، مدى المنفعة التي تناله هو في معيشة يومه، وهو المدى الذي لا يأسف عليها ولا ينص الركاب إليه.
الفصل السابع
كربلاء
الحرم المقدس
عرفت قديما باسم «كوربابل» ثم صحفت إلى كربلاء، فجعلها هذا التصحيف عرضة لتصحيف آخر يجمع بين الكرب والبلاء، كما رسمها بعض الشعراء.
ولم يكن لها ما تذكر به في أقرب جيرة لها فضلا عن أرجاء الدنيا البعيدة منها؛ فليس لها من موقعها، ولا من تربتها، ولا من حوادثها، ما يغري أحدا برؤيتها، ثم يثبت في ذاكرة من يراها ساعة يرحل عنها.
فلعل الزمن كان خليقا أن يعبر بها سنة بعد سنة وعصرا بعد عصر، دون أن يسمع لها اسم أو يحس لها بوجود، إلا أن تذكر «نينوى» وجيرتها فتدخل في زمرة تلك الجيرة بغير حساب.
وشاءت مصادفة من المصادفات أن يساق إليها ركب الحسين بعد أن حيل بينه وبين كل وجهة أخرى، فاقترن تاريخها منذ ذلك اليوم بتاريخ الإسلام كله. ومن حقه أن يقترن بتاريخ بني الإنسان حيثما عرفت لهذا الإنسان فضيلة يستحق بها التنويه والتخليد.
فهي اليوم حرم يزوره المسلمون للعبرة والذكرى، ويزوره غير المسلمين للنظر والمشاهدة، ولكنها لو أعطيت حقها من التنويه لحق لها أن تصبح مزارا لكل آدمي يعرف لبني نوعه نصيبا من القداسة وحظا من الفضيلة؛ لأننا لا نذكر بقعة من بقاع هذه الأرض يقترن اسمها بجملة من الفضائل والمناقب أسمى وألزم لنوع الإنسان من تلك التي اقترنت باسم كربلاء، بعد مصرع الحسين فيها.
فكل صفة من تلك الصفات العلوية التي بها الإنسان إنسان وبغيرها لا يحسب غير ضرب من الحيوان السائم؛ فهي مقرونة في الذاكرة بأيام الحسين - رضي الله عنه - في تلك البقعة الجرداء.
وليس في نوع الإنسان صفات علويات أنبل ولا ألزم من الإيمان والفداء والإيثار، ويقظة الضمير، وتعظيم الحق، ورعاية الواجب، والجلد في المحنة، والأنفة من الضيم، والشجاعة في وجه الموت المحتوم، وهي - ومثيلات لها من طرازها - هي التي تجلت في حوادث كربلاء منذ نزل بها ركب الحسين، ولم تجتمع كلها ولا تجلت قط في موطن من المواطن تجليها في تلك الحوادث، وقد شاء القدر أن تكون في جانب منها أشرف ما يشرف به أبناء آدم؛ لأنها في الجانب الآخر منها أخزى ما يخزى به مخلوق من المخلوقات.
وحسبك من تقويم الأخلاق في تلك النفوس، أنه ما من أحد قتل في كربلاء إلا كان في وسعه أن يتجنب القتل بكلمة أو بخطوة، ولكنهم جميعا آثروا الموت عطاشا جياعا مناضلين على أن يقولوا تلك الكلمة أو يخطوا تلك الخطوة؛ لأنهم آثروا جمال الأخلاق على متاع الحياة.
أو حسبك من تقويم الأخلاق في نفس قائدها وقدوتها أنهم رأوه بينهم فافتدوه بأنفسهم، ولن يبتعث المرء روح الاستشهاد فيمن يلازمه إلا أن يكون هو أهلا للاستشهاد في سبيله وسبيل دعوته، وأن يكون في سليقة الشهيد الذي يأتم به الشهداء.
نموت معك
أقبل الفتى الصغير علي بن الحسين على أبيه، وقد علم أنهم مخيرون بين الموت والتسليم فسأله: ألسنا على الحق؟
قال الوالد المنجب النجيب: بلى، والذي يرجع إليه العباد.
فقال الفتى: يا أبه! فإذن لا نبالي!
وهكذا كانوا جميعا لا يبالون ما يلقون، ما علموا أنهم قائمون بالحق وعليه يموتون.
وأراد الحسين - وقد علم أن التسليم لا يكون - أن يبقى للموت وحده، وألا يعرض له أحدا من صحبه، فجمعهم مرة بعد مرة، وهو يقول لهم في كل مرة: «لقد بررتم وعاونتم والقوم لا يريدون غيري، ولو قتلوني لم يبتغوا غيري أحدا، فإذا جنكم الليل فتفرقوا في سواده وانجوا بأنفسكم.»
فكأنما كان قد أراد لهم الهلاك ولم يرد النجاة، وفزعوا من رجائهم إياه كما يفزع غيرهم من مطالبتهم بالثبات والبقاء، وقالوا له كأنهم يتكلمون بلسان واحد: «معاذ الله والشهر الحرام، ماذا نقول للناس إذا رجعنا إليهم؟ أنقول لهم: إنا تركنا سيدنا وابن سيدنا وعمادنا، تركناه غرضا للنبل ودريئة للرماح وجزرا للسباع، وفررنا عنه رغبة في الحياة؟ معاذ الله، بل نحيا بحياتك ونموت معك.»
قالوا له: نموت معك ولك رأيك. ولم يخطر لأحد منهم أن يزين له العدول عن رأيه إيثارا لنجاتهم ونجاته، ولو خادعوا أنفسهم قليلا؛ لزينوا له التسليم، وسموه نصيحة مخلصين يريدون له الحياة، ولكنهم لم يخادعوا أنفسهم ولم يخادعوه، ورأوا أصدق النصيحة له أن يجنبوه التسليم ولا يجنبوه الموت، وهم جميعا على ذلك.
ولم يكونوا جميعا من ذوي عمومته وقرباه؛ بل كان منهم غرباء نصحوا له ولأنفسهم هذه النصيحة التي ترهب العار ولا ترهب الموت، فقال له زهير بن القين: «والله لوددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أقتل هكذا ألف مرة، ويدفع الله بذلك الفشل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك.»
وقال مسلم بن عوسجة كأنه يعتب لما اختار له من السلامة: «أنحن نخلي عنك؟ وبم نعتذر إلى الله في أداء حقك؟ لا والله حتى أطعن في صدورهم برمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدى، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به؛ لقذفتهم بالحجارة، والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسوله فيك. وأما والله لو علمت أنني أقتل ثم أحيا ثم أحرق ثم أحيا ثم أحرق ثم أذرى ويفعل بي ذلك سبعين مرة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك.»
وجيء إلى رجل من أصحابه الغرباء بنبأ عن ابنه في فتنة الديلم، فعلم أن الديلم أسروه، ولا يفكون إساره بغير فداء، فأذن له الحسين أن ينصرف وهو في حل من بيعته ويعطيه فداء ابنه، فأبى الرجل إباء شديدا، وقال: «عند الله أحتسبه ونفسي.» ثم قال للحسين: «هيهات أن أفارقك ثم أسأل الركبان عن خبرك، لا يكن والله هذا أبدا.» •••
وقد تناهت هذه المناقب إلى مداها الأعلى في نفس قائدهم الكريم، يخيل إلى الناظر في أعماله بكربلاء أن خلائقه الشريفة كانت في سباق بينها أيها يظفر بفخار اليوم كله، فلا يدري أكان في شجاعته أشجع، أم في صبره أصبر، أم في كرمه أكرم، أم في إيمانه وأنفته وغيرته على الحق بالغا من تلك المناقب المثلى أقصى مداه، إلا أنه كان يوم الشجاعة لا مراء، وكانت الشجاعة فضيلة الفضائل التي تمدها سائرها بروافد من كل خلق نبيل يعينها على شأنها. فكان الحسين - شبل علي - في شجاعته الروحية والبدنية معا في غاية الغايات، وكان مضرب المثل بين الرعيل الأول من أشجع الشجعان في أبناء آدم وحواء.
ملك جأشه، وكل شيء من حوله يوهن الجأش، ويحل عقدة العزم، ويغري بالدعة والمجاراة.
ملك جأشه ومن حوله نساؤه وأبناؤه في نضارة العمر، يجوعون ويظمأون، ويتشبثون به ويبكون، وملك جأشه روية وأناة، ولم يملكه وثبة واثب إلى الغضب أو هيجة مهتاج إلى الوغى، فكان قبل القتال وفي حومة القتال قويا بصيرا ينفض الضعف عن عزائمه، كما ينفض الأسد غبرات الحصباء عن لبده، ولم يخامره الأسف قط في ذلك الموقف المرهوب إلا من أجل أحبائه وأعزائه الذين يراهم ويرونه، ويسمع صيحتهم ويسمعونه. فقال وهو ينظر إلى الأخبية ومن فيها: «لله در ابن عباس فيما أشار به علي!»
وجلس ليلة القتال في خيمته يعالج سهاما له بين يديه، ويرتجز وأمامه ابنه العليل:
يا دهر أف لك من خليل
كم لك بالإشراق والأصيل
من صاحب وماجد قتيل
والدهر لا يقنع بالبديل
والأمر في ذاك إلى الجليل
وكل حي سالك سبيلي
فرد ابنه عبرته لكيلا يزده ألما على ألمه، وسمعته أخته زينب، فلم تقو على حنانها ووجلها، وخرجت إليه من خبائها حاسرة تنادي: «وا ثكلاه! اليوم مات جدي رسول الله وأمي فاطمة الزهراء وأبي علي وأخي الحسن، فليت الموت أعدمني الحياة يا حسيناه! يا بقية الماضين وثمالة الباقين!»
فبكى لبكائها ولم ينثن ذرة عن عزمه الذي بات عليه، وقال لها: يا أخت! لو ترك القطا لنام. ولم يزل يناشدها ويعزيها، وهو في قرارة نفسه مستقر كالطود على مواجهة الموت وإباء التسليم أو النزول على «حكم ابن مرجانة» كما قال، ثم احتملها مغشيا عليها حتى أدخلها الخباء. •••
تزول الممالك وتدول الدول وتنجح المطامع أو تخيب وتحضر المطالب أو تغيب، وهذه الخلائق العلوية في صدر الإنسان أحق بالبقاء من الممالك وما حوته، ومن الدول وما حفظته أو ضيعته؛ بل أحق بالبقاء من رواسي الأرض وكواكب السماء.
حرب النور والظلام
وكانت فئة الحسين صغيرة كما علمنا قد رصدت لها هنالك تلك الفئة الكبيرة التي تناقضها أتم ما يكون التناقض بين طرفين، وتباعدها أبعد ما تكون المسافة بين قطبين، فكل ما فيها أرضي مظلم مسف بالغ في الإسفاف، وليس فيها من النفحة العلوية نصيب.
أللمصادفات نظام وتدبير؟!
نحن لا نعلم إلا أنها مصادفات يخفى علينا ما بينها من الوشائج والصلات، ولكنها - لذلك - هي الأعاجيب التي تستوقف النظر لعجبها العاجب، وإن لم تستوقفه لما يفهمه فيها من نظام وتدبير.
فجيرة كربلاء كانت قديما من معاهد الإيمان بحرب النور والظلام، وكان حولها أناس يؤمنون بالنضال الدائم بين أورمزد وأهرمان، ولكنه كان في حقيقته ضربا من المجاز وفنا من الخيال.
وتشاء مصادفات التاريخ إلا أن ترى هذه البقاع التي آمنت بأورمزد وأهرمان حربا هي أولى أن تسمى حرب النور والظلام من حرب الحسين ومقاتليه. •••
وهي عندنا أولى بهذه التسمية من حروب الإسلام والمجوسية في تلك البقاع وما وراءها من الأرض الفارسية لأن المجوسي كان يدافع شيئا ينكره؛ ففي دفاعه معنى من الإيمان بالواجب كما تخيله ورآه، ولكن الجيش الذي أرسله عبيد الله بن زياد لحرب الحسين كان جيشا يحارب قلبه لأجل بطنه أو يحارب ربه لأجل واليه؛ إذ لم يكن فيهم رجل واحد يؤمن ببطلان دعوى الحسين أو رجحان حق يزيد، ولم يكن فيهم كافر ينفح عن عقيدة غير عقيدة الإسلام، إلا من طوى قلبه على كفر كمين هو مخفيه، ولا نخالهم كثيرين.
ولو كانوا يحاربون عقيدة بعقيدة، لما لصقت بهم وصمة النفاق ومسبة الأخلاق؛ فعداوتهم ما علموا أنه الحق وشعروا أنه الواجب أقبح بهم من عداوة المرء ما هو جاهله بعقله ومعرض عنه بشعوره؛ لأنهم يحاربون الحق وهم يعلمون.
ومن ثم كانوا في موقفهم ذاك ظلاما مطبقا، ليس فيه من شعور الواجب بصيص واحد من عالم النور والفداء؛ فكانوا حقا في يوم كربلاء قوة من عالم الظلام تكافح قوة من عالم النور.
أقربهم إلى العذر يومئذ من اعتذر بالفرق والرهبة؛ لأنهم أكرهوه بالسيف على غير ما يريد، فكان الجبن أشرف ما فيهم من خصال السوء.
وكان منهم أناس كتبوا إلى الحسين يستدعونه إلى الكوفة ليبايعوه على حرب يزيد، لما ندبهم عمر بن سعد للقائه وسؤاله أحجموا عما ندبهم له واستعفوه؛ لأن جوابهم إن سألوه في شأن مجيئه إليهم: إنني جئتكم ملبيا ما دعوتم إليه!
وركب أناسا منهم الفزع الدائم بقية حياتهم ؛ لأنهم عرفوا الإثم فيما اقترفوه عرفانا لا تسعهم المغالطة فيه، ومن هؤلاء رجل من بني أبان بن دارم كان يقول: قتلت شابا أمرد مع الحسين بين عينيه أثر السجود، فما نمت ليلة منذ قتلته إلا أتاني فيأخذ بتلابيبي حتى يأتي جهنم فيدفعني فيها، فأصيح فما يبقى أحد في الحي إلا سمع صياحي. •••
ورأى هذا الرجل صاحبا له بعد حين، وقد تغير وجهه واسود لونه، فقال له: «ما كدت أعرفك.» وكان يعرفه جميلا شديد البياض.
ومنهم من كان يتزاور عن الحسين في المعمعة، ويخشى أن يصيبه أو يصاب على يديه، ولو أنهم حاربوه لأنهم علموا أنه أهل للمحاربة فلم يتزاوروا عنه ولم يتحاشوه؛ لكانت الحرب هنالك حربا بين رأيين ومذهبين وشجاعتين، ولكنهم كشفوا أنفسهم بتحاشيهم إياه، فإذا هم يحاربون رأيهم الذي يدينون به، ووليهم الذي يضمرون له الحرمة والكرامة، في ذلك خزيهم الأثيم.
على أن الجبن والجشع لا يفسران كل ما اقترفه جيش عبيد الله من شر ولؤم في أيام كربلاء.
فلا حاجة بالجبان ولا بالجشع إلى التمثيل والتنكيل أو التبرع بالإيذاء حيث لا تلجئه الضرورة إليه، وليس قتل الطفل الذي يموت من العطش وهو على مورد الماء بالأمر الذي يلجئ إليه الجبن أو يلجئ إليه طلب المال، وقد حدث في أيام كربلاء من أمثال هذا البغي اللئيم شيء كثير رواه الأمويون، ولم تقتصر روايته على الهاشميين والطالبيين أو أعداء بني أمية! •••
وينبغي أن نفهم ذلك على وجه واحد لا سبيل إلى فهمه بغيره، وهو نكسة الشر في النفوس البشرية، حين تلج بها مغالطة الشعور وحين تغالب عنانها حتى تعييها المغالبة فينطلق بها العنان.
فالرجل الخبيث المغرق في الخباثة قد يتصرف في خلوته تصرف الأنذال، ثم لا يبالي أن يعرف نذالته وهو بنجوة من أعين الرقباء، ولكن أربعة الآلاف لا يتصارحون بالنذالة بينهم، ولا يقول بعضهم لبعض إنهم يعملون ما يستحقون به التحقير والمهانة، ولا تقبل لهم فيه معذرة ولا علالة، وإنما شأنهم في هذه الحالة أن يصطنعوا الحماسة، ويجاهدوا التردد ما استطاعوا؛ ليظهروا في ثوب الغلاة المصدقين الذين لا يشكون لحظة في صدق ما يعملون، فيغمض الرجل منهم عينيه، ويستتر بغشاء من النفاق حتى ليوشك أن يخدع نفسه عن طوية فؤاده.
وتلك لجاجة المغالطة في الشعور.
أما مجاذبة النفس عنانها وانطلاقها بعد هذه المجاذبة المخفقة، فالشواهد عليها كثيرة فيما نراه كل يوم؛ يحاول الرجل أن يجتنب الخمر فلا يستطيع، فإذا هو قد خلع العذار، وغرق فيها ليله ونهاره غير مبال بما يقال كأنما هو القائل: «دع عنك لومي فإن اللوم إغراء.»
وتحب المرأة أن تستحيي وتتوارى من المسبة في هواها، ثم يغلبها هواها فإذا هي ألقت حياءها للريح، وصنعت ما تحجم عنه التي لم تنازع نفسها قط في هوى، ولم تشعر قط بوطأة الخجل والاستتار.
واندفاع المتهجمين على الشر في حرب كربلاء بغير داع من الحفيظة ولا ضرورة ملزمة تقضي بها شريعة القتال، لهو الاندفاع الذي يسبر لنا عمق الشعور بالإثم في نفوس أصحاب يزيد، وقد رأينا من قبل عمق الشعور بالحق في أصحاب الحسين، وما بنا من حاجة إلى البحث عن علة مثل هذه العلة لمن خلقوا مجرمين، وخلقت معهم ضراوة الحقد والإيذاء لهذا الميدان وغير هذا الميدان، كشمر بن ذي الجوشن، ومن جرى مجراه؛ فهؤلاء لا يصنعون غير صنيعهم الأثيم كلما وجدوا السبيل إليه.
على أنها - بعد كل هذا - حرب بين الكرم واللؤم، وبين الضمير والمعدة، وبين النور والظلام؛ فشأنها على أية حال أن تصبح مجالا من الطرفين لقصارى ما يبلغه الكرم، وقصارى ما يبلغه اللؤم، وقد بلغت في ذلك أقصى مدى الطرفين. •••
ومن المتعذر بعد وقوف هاتين القوتين موقف المراقبة والمناجزة، أن نتقصى أوائل القتال، ونتتبع ترتيب الحوادث واحدة بعد واحدة على حسب وقوعها؛ فإن الأقوال في سرد حوادث كربلاء لا تتفق على ترتيب واحد، سواء كان هذا الترتيب في رواية أنصار الحسين أو رواية أنصار يزيد.
إلا أن الترتيب الطبيعي يستبين للعقل من سبب الوقوف في ذلك المكان، وهو منع الحسين أن ينصرف إلى سبيله، وأن يرد الماء حتى يكرهه العطش إلى التسليم، وكان الموقف كما وصفه أبو العلاء بعد ذلك بأربعة قرون:
منع الفتى هينا فجر عظائما
وحمى نمير الماء فانبعث الدم
ولم يمتنع طريق الماء في بادئ الأمر دفعة واحدة؛ لأن حراس المورد من جماعة عمر بن سعد لم يكونوا على جزم بما يصنعون في مواجهة الحسين وصحبه، فلما اندفع بعض أصحاب الحسين إلى الماء بالقرب والأداوى، مانعهم القوم هنيهة، ثم أخلوا لهم سبيل النهر خوفا وحيرة، فشربوا وملأوا قربهم وأداواهم بما يغنيهم عن الاستقاء إلى حين.
والظاهر أن الشر كله كان في حضور شمر بن ذي الجوشن على تلك الساحة، متربصا كل التربص بمن يتوانى في حصار الحسين ومضايقته، فيعزله ويعرضه لسوء الجزاء، ثم يطمع من وراء ذلك أن يتولى قيادة الجيش وإمارة الري بعد عزل عمر بن سعد بن أبي وقاص؛ فبطل التردد شيئا فشيئا، وتعذر على الحسين وأصحابه بعد الهجمة الأولى أن يصلوا إلى الماء، ولبثوا أياما وليس في معسكرهم ذو حياة من رجل أو امرأة أو طفل أو حيوان إلا وهو يتلظى على قطرة ماء فلا ينالها، ومنهم الطفل العليل والشيخ المكدود والحيوان الأعجم، وصياح هؤلاء الظماء من حرقة الظمأ يتوالى على مسمع الحسين ليل نهار وهو لا يملك لهم غير الوصاية بالصبر وحسن المواساة.
وفي ذلك المأزق الفاجع، نضحت طبائع اللؤم في معسكر ابن زياد بشر ما تنضح به طبيعة لئيمة في البنية الآدمية؛ فاقترفوا من خسة الأذى ما تنزه عنه الوحوش الضاريات، وجعلوا يتلهون ويتفكهون بما تقشعر منه الجلود وتندى له الوجوه، ونكاد نمسك عن تسطيره أسفا وامتعاضا لولا أن القليل منه جزء لا ينفصل من هذه الفاجعة، وبيان لما يلي من وقعها في النفوس وتسلسل تراتها إلى أمد بعيد.
مآثم مخزية
فمن هذه المآثم المخزية أن الحسين برح به العطش فلم يباله، ولكنه رأى ولده عبد الله يتلوى من ألمه وعطشة، وقد بح صوته من البكاء، فحمله على يده يهم أن يسقيه، ويقول للقوم: «اتقوا الله في الطفل إن لم تتقوا الله فينا.» فأوتر رجل من نبالة الكوفة قوسه، ورمى الطفل بسهم وهو يصيح ليسمعه العسكران: «خذ اسقه هذا.» فنفذ السهم إلى أحشائه!
وكانوا يصيحون بالحسين متهاتفين: «ألا ترى إلى الفرات كأنه بطون الحيات؟! والله لا تذوقه حتى تموت ومن معك عطشا.»
ولما اشتد عطش الحسين دنا من الفرات ليشرب، فرماه حصين بن نمير بسهم وقع في فمه، فانتزعه الحسين وجعل يتلقى الدم بيديه فامتلأت راحتاه بالدم، فرمى به إلى السماء وقد شخص ببصره إليها وهو يقول: «إن تكن حبست عنا النصر من السماء، فاجعل ذلك لما هو خير منه، وانتقم لنا من القوم الظالمين!»
وقد كان منع الماء - قبل الترامي بالسهام - نذيرا كافيا بالحرب، يبيح الحسين أن يصيب منهم من يتعرض للإصابة، ولكنه رأى شمر بن ذي الجوشن - أبغض مبغضيه المؤلبين عليه - يدنو من بيوته، ويجول حولها؛ ليعرف منفذ الهجوم عليها، فأبى على صاحبه السلم بن عوسجة أن يرميه بسهم، وقد أمكنه أن يصميه، وهو من أسد الرماة؛ لأنه كره أن يبدأهم بعداء. •••
وكأنه لمح منهم ضعف النية وسوء الدخلة في الدفاع عن مولاهم، وعلم أنهم لا يخلصون في حبه، ولا يؤمنون بحقه، وأنهم يخدمونه للرغبة أو الرهبة ولا يخدمونه للحق والذمة؛ فطمع أن يقرع ضمائرهم وينبه غفلة قلوبهم، ورمى بآخر سهم من سهام الدعوة قبل أن يرمي بسهم واحد من سهام القتال، فخرج لهم يوما بزي جده - عليه السلام - متقلدا سيفه لابسا عمامته ورداءه، وأراهم أنه سيخطبهم، فكان أول ما صنعوه دليلا على صدق فراسته فيهم؛ لأن رؤساءهم ومؤلبيهم أشفقوا أن يتركوا له آذان القوم فينفذ إلى قلوبهم ويلمس مواقع الإقناع من ألبابهم، فضجوا بالصياح والجلبة، وأكثروا من العجيج والحركة؛ ليحجبوا كلامه عن أسماعهم، ويتقوا أثر موعظته فيهم، وهو بتلك الهيئة التي تغضي عنها الأبصار، وتعنو لها الجباه.
ولكنه صابرهم حتى ملوا، ومل إخوانهم ضجيجهم هذا الذي يكشفون به عن عجزهم وخوفهم، ولا يوجب الثقة بدعواهم عند إخوانهم، فهدأوا بعد لحظات وسمعوه بعد الحمد والصلاة : «انسبوني من أنا! هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم؟ أولم يبلغكم ما قاله رسول الله لي ولأخي: هذان سيدا شباب أهل الجنة؟ ويحكم! أتطلبونني بقتيل لكم قتلته أو مال لكم استهلكته؟»
ثم نادى بأسماء أنصاره الذين استدعوه إلى الكوفة ثم خرجوا لحربه في جيش ابن زياد. فقال: «يا شيث بن الربعي! يا حجار بن أبحر! يا قيس بن الأشعث! يا يزيد بن الحارث! يا عمر بن الحجاج! ألم تكتبوا إلي أن قد أينعت الثمار واخضرت الجنبات، وإنما تقدم على جند لك مجند؟»
فزلزلت الأرض تحت أقدامهم بهذه الكلمات، وبلغ بها المقنع ممن فيه مطمع لإقناع، وتحولت إلى صفه فئة منهم تعلم أنها تتحول إلى صف لن تجد فيه غير الموت العاجل، واستطابت هذا الموت، ولم تستطب البقاء مع ابن زياد لاغتنام الغنيمة وانتظار الجزاء من المناصب والأموال. •••
ولم تكن كلمة الحسين كل ما شهره عسكره من سلاح الدعوة قبل الاحتكام إلى السيف؛ فقد كانت للبطل المجيد زهير بن القين كلمات في أهل الكوفة أمضى من السيوف والرماح حيث تصيب، فركب فرسه وتعرض لهم قائلا: «يا أهل الكوفة! نذار لكم من عذاب الله نذار. إن حقا على المسلم نصيحة المسلم، ونحن حتى الآن إخوة على دين واحد ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنا نحن أمة وأنتم أمة. إن الله قد ابتلانا وإياكم بذرية نبيه محمد
صلى الله عليه وسلم
لينظر ما نحن وأنتم عاملون، وإنما ندعوكم إلى نصر حسين وخذلان الطاغية ابن الطاغية عبيد الله بن زياد، فإنكم لا تدركون منهما إلا سوءا: يسملان أعينكم، ويقطعان أيديكم وأرجلكم، ويمثلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقراءكم أمثال حجر بن عدي وأصحابه وهانئ بن عروة وأشباهه.»
فوجم منهم من وجم، وتوقح منهم من توقح، على ديدن المريب المكابر إذا خلع العذار ولم يأنف من العار، وتوعدوه وتوعدوا الحسين معه أن يقتلوهم أو يسلموهم صاغرين إلى عبيد الله بن زياد.
تخاذل وضعف
ولا يظهر من عدد الفريقين ساعة القتال أن المتحولين إلى معسكر الحسين كانوا كثيرين أو متلاحقين، ولكن بداءة التحول كانت مما يخيف ويزعج؛ لأنها اشتملت على قائد كبير من قواد ابن زياد وهو الحر بن يزيد الذي أرسلوه في أول الأمر ليحلئ الحسين عن دخول الكوفة، وقد كان يحسب أن عمله ينتهي إلى هذه المراقبة ولا يعدوها إلى القتال وسفك الدم، فلما تبين نية القتال، أقبل يدنو نحو عسكر الحسين قليلا قليلا، وتأخذه رعدة وينتابه ألم شديد، حتى راب أمره صاحبه المهاجر بن أوس فقال له: والله إن أمرك لمريب! ما رأيت منك قط مثل ما أراه الآن، ولو قيل: من أشجع أهل الكوفة؟ ما عدوتك.
فباح له الرجل بما في نفسه، وقال له: إني أخير نفسي بين الجنة والنار، ولا أختار على الجنة شيئا ولو قطعت أو حرقت.
ثم ضرب فرسه، ولحق بالحسين، وهو يعتذر قائلا: لو علمت أنهم ينتهون إلى ما أرى ما ركبت مثل الذي ركبت، وإني قد جئتك تائبا مما كان مني إلى ربي، مؤاسيا لك بنفسي حتى أموت بين يديك!
ولن يخلو معسكر ابن زياد من مئات كالحر بن يزيد يؤمنون إيمانه، ويودون لو يلحقون به إلى معسكر الحسين، ويزعجهم أن يتحول أمامهم إلى ذلك المعسكر وهم ناظرون إليه؛ لأنه يبكتهم ويكشف مغالطتهم بينهم وبين أنفسهم، ويحضهم على الاقتداء به والتدبر في أسباب ندمه، لا لأنه ينتقص عددهم أو ينذر بالهزيمة في ميدان القتال؛ فكلهم ولا ريب يشعر بشعوره، ويعتقد في فضل الحسين على يزيد مثل اعتقاده، وبعيد على العقل أن يصدق في هؤلاء الشراذم أنهم قد أطاعوا يزيد؛ لأنه صاحب بيعة حاصلة، وأنهم قد «تأدبوا بأدب الدولة» أدبا يغلب شعور الجماعة وإيمان المرء بحق الشريعة وحرمة البيت النبوي، ويهون عليه قتل سبط النبي في هذا السبيل، وكيف وإن منهم لمن بايع الحسين على البعد، ودعاه إليه ليقود «الجند المجند» إلى قتال يزيد؟ فكلامهم في البيعة الحاصلة لغط يلوكونه بألسنتهم، ولا يستر ما في طويتهم ، وليس أثقل على أمثال هؤلاء من عبء المغالطة كلما تلجلج في مكانه وحركته القدوة التي يريدونها ولا يقوون عليها، كتلك القدوة الماثلة بصاحبهم الحر بن يزيد.
لا جرم كان أعظم الجيشين قلقا وأشدهما حيرة وأعجلهما إلى طلب الخلاص من هذا المأزق الثقيل هو أكبر الفئتين وأقوى العسكرين.
شجاعة جند الحسين
كان هناك عسكران أحدهما صغير، ويلح عليه العطش والضيق، ولكنه كان مطمئنا إلى حقه يلقى الموت في سبيله، ويزيده العطش والضيق طمأنينة إلى هذا المصير.
والعسكر الآخر أكبر العسكرين، ولكنه كان «يخون» نفسه في ضمير كل فرد من أفراده، وتملكه الحيرة بين ندم وخوف وتبكيت ومغالطة واضطراب، يحز في الأعصاب، ويقذف بالمرء إلى الخلاص كيفما كان الخلاص.
وطال القلق على دخيلة عمر بن سعد فأطلقه سهما في الفضاء كأنه كان متشبثا بصدره فاستراح منه بانطلاقه.
فزحف إلى مقربة من معسكر الحسين، وتناول سهما فرماه عن قوسه إلى المعسكر، وهو يصيح: اشهدوا لي عند الأمير أنني أول من رمى الحسين.
ثم تتابعت السهام فبطلت حجة السلم، وذهب كل تأويل في نية القوم، وقام الحسين وهو ينظر إلى السهام وينظر إلى أصحابه، فقال: قوموا يا كرام، فهذه رسل القوم إليكم.
وبذلك بدأ القتال.
وقد تأهب الحسين لهذه المنازلة المنتظرة، وإن كان على انتظاره إياها قد تريث حتى يبدءوه بالعدوان من جانبهم، وحتى يجب عليه الدفاع وجوبا لا خلاف فيه.
فاختار له رابية يحتمي بها من ورائه، ووسع وهدتها حتى أصبحت خندقا لا يسهل عبوره، فأوقد فيه النار ليمنع عليهم الالتفاف به من خلفه، وهم في كثرتهم التي ترجح عدة صحبه ستين ضعفا قادرون على مهاجمته من جميع نواحيه.
وكان معه اثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلا، وهم نيف وأربعة آلاف، يكثر فيهم الفرسان وراكبو الإبل، ويحملون صنوفا مختلفة من السلاح.
ومع هذا التفاوت البعيد في عدد الفريقين، كان المعسكر القليل كفؤا للعسكر الكثير لو جرى القتال على سنة المبارزة التي كانت دعوة مجابة في ذلك العصر، إذا اختارها أحد الفريقين.
فإن آل علي جميعا كانوا من أشهر العرب - بل من أشهر العرب والعجم - بالقوة البدنية والصبر على الجراح والاضطلاع بعناء الحرب ساعات بعد ساعات، ومنهم من كان يلوي الحديد فلا يقيمه غيره، ومنهم محمد ابن الحنفية الذي صرع جبابرة القوة البدنية بين العرب والعجم في زمانه، ومن أشهر هؤلاء الجبابرة رجل كان في أرض الروم يفخر به أهلها، فأرسله ملكهم إلى معاوية يعجز به العرب عن مصارعته واتقاء بأسه. فجلس محمد ابن الحنفية وطلب من ذلك الجبار الرومي أن يقيمه، فكان كأنما يحرك جبلا لصلابة أعضائه وشدة أسره. فلما أقر الرجل بعجزه رفعه محمد فوق رأسه ثم جلد به الأرض مرات.
والحسين - رضي الله عنه - قد كان هو ومن معه من شباب آل علي ممن ورث هذه القوة البدنية كما ورثوا ثبات الجأش وحمية الفؤاد، وكانوا كفؤا لمبارزة الأنداد واحدا بعد واحد حتى يفرغ جيش عبيد الله من فرسانه القادرين على المبارزة، ولا يبقى منهم غير الهمل يتبددون في منازلة الشجعان، كما تتبدد السائمة المذعورة بالعراء.
وكان مع الحسين نخبة من فرسان العرب كلهم له شهرة بالشجاعة والبأس وسداد الرمي بالسهم ومضاء الضرب بالسيف، ولن تكون صحبة الحسين غير ذلك بداهة وتقديرا لا يتوقفان على الشهرة الذائعة والوصف المتواتر؛ لأن مزاملة الحسين في مثل تلك الرحلة هي وحدها آية على الشجاعة على ملاقاة الموت وكرم النحيزة في ملاقاة الفتنة والإغراء، فإذا جرى القتال كله مبارزة بين أمثال هؤلاء ومن يبرزون لهم من جيش عبيد الله، فهم كفء للمنازلة، وليس أملهم في الغلب بضعيف.
وقد بدأ القتال بهجوم الخيل من قبل جيش ابن زياد، فأشرع أصحاب الحسين لها رماحهم، وجثوا على الركب ينتظرونها، فلم تقم الخيل للرماح، وأوشكت أن تجفل مولية بفرسانها.
فعدل الفريقان إلى المبارزة، فلم يتعرض لها أحد من جيش ابن زياد إلا فشل أو نكص على عقبيه، فخشى رءوس الجيش عقبى هذه المبارزة التي لا أمل لهم في الغلبة بها، وصاح عمر بن الحجاج برفاقه: أتدرون من تقاتلون؟ تقاتلون فرسان المصر وقوما مستميتين. لا يبرز إليهم منكم أحد فإنهم قليل، لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم.
فاستصوب عمر بن سعد مقاله، ونهى الناس عن المبارزة.
فلما برز عابس بن أبي شبيب الشاكري بعد ذلك وتحداهم للمبارزة، تحاموه لشجاعته ووقفوا بعيدا منه. فقال لهم عمر: ارموه بالحجارة.
فرموه من كل جانب فاستمات وألقى بدرعه ومغفره، وحمل على من يليه، فهزمهم، وثبت لجموعهم حتى مات.
وعجزت خيل القوم مع كثرتها عن مقاومة خيل الحسين، وهي تنكشف كل ساعة عن فارس قتيل، فبعث عروة بن قيس مقدم الفرسان في جيش ابن زياد يقول لعمر بن سعد: «ألا ترى ما تلقى خيلي هذا اليوم من هذه العدة اليسيرة؟ ابعث إليهم الرجال والرماة.» فبعث إليه بخمسمائة من الرماة وعلى رأسهم الحصين بن نمير، فرشقوا أصحاب الحسين بالنبل حتى عقروا الخيل وجرحوا الفرسان والرجال.
وكان أبو الشعثاء يزيد بن زياد الكندي ممن عدل إلى جيش الحسين، وهو من أشهر رماة زمانه. فلما تكاثر عليهم رمي النبال والسهام، جثا بين يدي الحسين وأرسل مائة سهم لم يكد يخيب منها خمسة أسهم، وقاتل حتى مات.
وكان الذين عدلوا إلى عسكر الحسين أشد أنصاره عزمة في القتال وهجمة على الموت، ومنهم الحر بن يزيد الذي تقدم ذكره. فجاهد ما استطاع ليقنع أصحابه الأولين بالكف عن حرب الحسين أو بالعدول إلى صفه، وقام على فرسه يخطب أهل الكوفة ويزجرهم، فسكتوا هنيهة ثم رشقوه بالنبل فعقروا فرسه وجرحوه، فما زال يطلب الموت ويتحرى من صفوفهم أكثفها جمعا وأقتلها نبلا حتى سقط مثخنا بالجراح وهو ينادي الحسين: «السلام عليكم يا أبا عبد الله.»
ولم يكن من أصحاب الحسين إلا من يطلب الموت، ويتحرى مواقعه وأهدافه، فكان نافع بن هلال البجلي يكتب اسمه على أفواق نبله ويرسلها فيقتل بها ويجرح، وقلما يخطئ مرماه. فأحاطوا به وضربوه على ذراعيه حتى كسرتا، ثم أسروه والدم يسيل من وجهه ويديه، فحسبوه يلين للوعيد ويجزع من التمثيل به، فأسمعهم ما يكرهون، وراح يستزيد غيظهم ويقول لهم: «لقد قتلت منكم اثني عشر رجلا سوى من جرحت، ولو بقيت لي عضد وساعد لزدت.»
مصرع الحسين
واستهدف الحسين - رضي الله عنه - لأقواس القوم وسيوفهم، فجعل أنصاره يحمونه بأنفسهم، ولا يقاتلون إلا بين يديه. وكلما سقط منهم صريع، أسرع إلى مكانه من يخلفه؛ ليلقى حتفه على أثره.
فضاقت الفئة الكثيرة بالفئة القليلة، وسول لهم الضيق بما يعانون من ثباتها أن يقوضوا الأخبية التي أوى إليها النساء والأطفال؛ ليحيطوا بالعسكر القليل من جميع جهاته. ثم أخذوا في إحراقها، وأصحاب الحسين يصدونهم ويدافعونهم، فرأى رضي الله عنه أن اشتغال أصحابه بمنعهم يصرفهم عن الاشتغال بقتالهم، فقال لهم: دعوهم يحرقونها؛ فإنهم إذا أحرقوها لا يستطيعون أن يجوزوا إليكم منها.
وظل على حضور ذهنه وثبات جأشه في تلك المحنة المتراكبة التي تعصف بالصبر وتطيش بالألباب، وهو جهد عظيم لا تحتويه طاقة اللحم والدم، ولا ينهض به إلا أولو العزم من أندر من يلد آدم وحواء. فإنه - رضي الله عنه - كان يقاسي جهد العطش والجوع والسهر ونزف الجراح ومتابعة القتال، ويلقي باله إلى حركات القوم ومكائدهم، ويدبر لرهطه ما يحبطون به تلك الحركات ويتقون به تلك المكائد، ثم هو يحمل بلاءه وبلاءهم، ويتكاثر عليه وقر الأسى لحظة بعد لحظة كلما فجع بشهيد من شهدائهم. ولا يزال كلما أصيب عزيز من أولئك الأعزاء حمله إلى جانب إخوانه وفيهم رمق ينازعهم وينازعونه، وينسون في حشرجة الصدور ما هم فيه؛ فيطلبون الماء، ويحز طلبهم في قلبه كلما أعياه الجواب، ويرجع إلى ذخيرة بأسه فيستمد من هذه الآلام الكاوية عزما يناهض به الموت ويعرض به عن الحياة، ويقول في أثر كل صريع: «لا خير في العيش من بعدك.» ويهدف صدره لكل ما يلقاه.
وإنه لفي هذا كله، وبعضه يهد الكواهل ويقصم الأصلاب، إذا بالرماح والسيوف تنوشه من كل جانب، وإذا بالقتل يتعدى الرجال المقاتلين إلى الأطفال والصبيان من عترته وآل بيته، وسقط كل من معه واحدا بعد واحد فلم يبق حوله غير ثلاثة يناضلون دونه ويتلقون الضرب عنه، وهو يسبقهم ويأذن لمن شاء منهم أن ينجو بنفسه وقد دنت الخاتمة ووضح المصير.
وكان غلام من آل الحسين - هو عبد الله بن الحسن أخيه - ينظر من الأخبية، فرأى رجلا يضرب عمه بالسيف ليصيبه حين أخطأ زميله، فهرول الغلام إلى عمه، وصاح في براءة بالرجل: يا ابن الخبيثة! أتقتل عمي؟
فتعمده الرجل بالسيف يريد قتله، فتلقى الغلام ضربته بيده فانقطعت وتعلقت بجلدها، فاعتنقه عمه، وجعل يواسيه وهو مشغول بدفاع من يليه.
ثم سقط الثلاثة الذين بقوا معه، فانفرد وحده بقتال تلك الزحوف المطبقة عليه، وكان يحمل على الذين عن يمينه فيتفرقون، ويشد على الخيل راجلا ويشق الصفوف وحيدا، ويهابه القريبون فيبتعدون، ويهم المتقدمون بالإجهاز عليه ثم ينكصون؛ لأنهم تحرجوا من قتله، وأحب كل منهم أن يكفيه غيره مغبة وزره، فغضب شمر بن ذي الجوشن وأمر الرماة أن يرشقوه بالنبل من بعيد، وصاح بمن حوله: ويحكم! ماذا تنتظرون بالرجل؟ اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم.
فاندفعوا إليه تحت عيني شمر مخافة من وشايته وعقابه، وضربه زرعة بن شريك التميمي على يده اليسرى فقطعها، وضربه غيره على عاتقه فخر على وجهه، ثم جعل يقوم ويكبو وهم يطعنونه بالرماح ويضربونه بالسيف حتى سكن حراكه، ووجدت به بعد موته - رضوان الله عليه - ثلاث وثلاثون طعنة وأربع وثلاثون ضربة غير إصابة النبل والسهام، وأحصاها بعضهم في ثيابه فإذا هي مائة وعشرون.
ونزل خولي بن يزيد الأصبحي ليحتز رأسه، فملكته رعدة في يديه وجسده، فنحاه شمر وهو يقول له: فت الله في عضدك!
واحتز الرأس وأبى إلا أن يسلمه إليه في رعدته؛ سخرية به وتماديا في الشر، وتحديا به لمن عسى أن ينعاه عليه! وقضى الله على هذا الخبيث الوضر أن يصف نفسه بفعله وصفا لا يطرقه الشك والاتهام، فكان ضغنه هذا كله ضغنا لا معنى له ولا باعث إليه إلا أنه من أولئك الذين يخزيهم اللؤم فيسليهم بعض السلوى أن يؤلموا به الكرام، ويجلعوه تحديا مكشوفا كأنه معرض للزهو والفخار، وهم يعلمون أنه لا يفخر به ولا يزهى! ولكنهم يبلغون به مأربهم إذا آلموا به من يحس فيهم الضعة والعار.
وبقيت ذروة من الحمية يرتفع إليها مرتفع.
وبقيت وهدة من الخسة ينحدر إليها منحدرون كثيرون.
فلم يكن في عسكر الحسين كله إلا رمق واحد من الحياة باق في رجل طعين مثخن بالجراح، تركوه ولم يجهزوا عليه لظنهم أنه قد مات.
ذلك الرجل الكريم هو سويد بن أبي المطاع أصدق الأنصار وأنبل الأبطال.
فأبى الله لهذا الرمق الضعيف أن يفارق الدنيا بغير مكرمة يتم بها مكرمات يومه، وتشتمل عليها النفوس الكثيرات فإذا هي حسبها من شرف مجد وثناء. •••
تنادى القوم بمصرع الحسين فبلغت صيحتهم مسمعه الذي أثقله النزع وأوشك أن يجهل ما يسمع. فلم يخطر له أن يسكن لينجو وقد ذهب الأمل وحم الختام، ولم يخطر له أنه ضعيف منزوف يعجل به القوم قبل أن ينال من القوم أهون منال، ولم يحسب حساب شيء في تلك اللحظة العصيبة إلا أن يجاهد في القوم بما استطاع، بالغا ما بلغ من ضعف هذا المستطاع.
فالتمس سيفه فإذا هم قد سلبوه، ونظر إلى شيء يجاهد به فلم تقع يده إلا على مدية صغيرة لا غناء بها مع السيوف والرماح، ولكنه قنع بها وغالب الوهن والموت، ثم وثب على قدميه من بين الموتى وثبة المستيئس الذي لا يفر من شيء ولا يبالي من يصيب وما يصاب. فتولاهم الذعر وشلت أيديهم التي كانت خليقة أن تمتد إليه، وانطلق هو يثخن فيهم قتلا وجرحا حتى أفاقوا له من ذعرهم ومن شغلهم بضجتهم وغيمتهم. فلم يقووا عليه حتى تعاون على قتله رجلان، فكان هذا حقا هو الكرم والمجد في عسكر الحسين إلى الرمق الأخير.
خسة ووحشية
وكان حقا لا مجازا ما توخيناه حين قلنا إنهما طرفان متناقضان، وإنها حرب بين أشرف ما في الإنسان وأوضع ما في الإنسان.
فبينما كان الرجل في عسكر الحسين ينهض من بين الموتى ولا يضن بالرمق الأخير في سبيل إيمانه، إذا بالآخرين يقترفون أسوأ المآثم في رأيهم - قبل رأي غيرهم - من أجل غنيمة هينة لا تسمن ولا تغني من جوع. فلو كان كل ما في عسكر الحسين ذهبا ودرا لما أغنى عنهم شيئا وهم قرابة أربعة آلاف، ولكنهم ما استيقنوا بالعاقبة - قبل أن يسلم الحسين نفسه الأخير - حتى كان همهم إلى الأسلاب يطلبونها حيث وجدوها، فأهرعوا إلى النساء من بيت رسول الله ينازعونهن الحلي والثياب التي على أجسادهن، لا يزعهم عن حرمات رسول الله وازع من دين أو مروءة، وانقلبوا إلى جثة الحسين يتخطفون ما عليها من كساء تخللته الطعون حتى أوشكوا أن يتركوها على الأرض عارية، لولا سراويل لبسها - رحمه الله - ممزقة، وتعمد تمزيقها ليتركوها على جسده ولا يسلبوها. ثم ندبوا عشرة من الفرسان يوطئون جثته الخيل كما أمرهم ابن زياد، فوطئوها مقبلين ومدبرين حتى رضوا صدره وظهره.
وقد يساق الغنم هنا معذرة للإثم بالغا ما بلغ هذا من العظم، وبالغا ما بلغ ذاك من التفاهة. لكنهم في الحقيقة قد ولعوا بالشر للشر من غير ما طمع في مغنم كبير أو صغير. فحرموا الري على الطفل الظامئ العليل، وأرسلوا إلى أحشائه السهام بديلا من الماء، وقتلوا من لا غرض في قتله، وروعوا من لا مكرمة في ترويعه، فربما خرج الطفل من الأخبية ناظرا وجلا لا يفقه ما يجري حوله، فينقض عليه الفارس الرامح فوق فرسه، ويطعنه الطعنة القاضية بمرأى من الأم والأخت والعمة والقريبة، ولم تكن في الذي حدث من هذا القبيل مبالغة يزعمونها كما زعم أجراء الذمم بعد ذلك عن حوادث كربلاء وجرائر كربلاء. فقد قتل فعلا في كربلاء كل كبير وصغير من سلالة علي رضي الله عنه، ولم ينج من ذكورهم غير الصبي علي زين العابدين، وفي ذلك يقول سراقة الباهلي:
عين جودى بعبرة وعويل
واندبي ما ندبت آل الرسول
سبعة منهم لصلب علي
قد أبيدوا وسبعة لعقيل
وما نجا علي زين العابدين إلا بأعجوبة من أعاجيب المقادير؛ لأنه كان مريضا على حجور النساء يتوقعون له الموت هامة اليوم أو غد، فلما هم شمر بن ذي الجوشن بقتله، نهاه عمر بن سعد عنه إما حياء من قرابة الرحم أمام النساء - وقد كان له نسب يجتمع به في عبد مناف - وإما توقعا لموته من السقم المضني الذي كان يعانيه؛ فنجا بهذه الأعجوبة في لحظة عابرة، وحفظ به نسل الحسين من بعده، ولولا ذلك لباد.
ثم قطعوا الرءوس ورفعوها أمامهم على الحراب، وتركوا الجثث ملقاة على الأرض لا يدفنونها ولا يصلون عليها كما صلوا على جثث قتلاهم، ومروا بالنساء حواسر من طريقها فولولن باكيات، وصاحت زينب رضي الله عنها: يا محمداه! هذا الحسين بالعراء، وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة تسفى عليها الصبا.
فوجم القوم مبهوتين، وغلبت دموعهم قلوبهم؛ فبكى العدو كما بكى الصديق! •••
لم تنقض في ذلك اليوم خمسون سنة على انتقال النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
من هذه الدنيا إلى حظيرة الخلود، محمد الذي بر بدينهم ودنياهم فلم ينقل من الدنيا حتى نقلهم من الظلمة إلى النور، ومن حياة التيه في الصحراء إلى حياة عامرة يسودون بها أمم العالمين. ثم هذه خمسون سنة لم تنقض بعد، وإذا هم في موكب جهير يجوب الصحراء إلى مدينة بعد مدينة: سباياه بنات محمد حواسر على المطايا وأعلامه رءوس أبنائه على الحراب، وهم داخلون به دخول الظافرين!
وبقيت الجثث حيث نبذوها بالعراء «تسفي عليها الصبا».
فخرج لها مع الليل جماعة من بني أسد كانوا ينزلون بتلك الأنحاء، فلما أمنوا العيون بعد يوم أو يومين سروا مع القمراء إلى حيث طلعت بهم على منظر لا يطلع القمر على مثله - شرفا ولا وحشة - في الآباد بعد الآباد.
وكان يوم المقتل في العاشر من المحرم، فكان القمر في تلك الليلة على وشك التمام، فحفروا القبور على ضوئه، وصلوا على الجثث ودفنوها، ثم غادروها هناك في ذمة التاريخ. فهي اليوم مزار يطيف به المسلمون متفقين ومختلفين، ومن حقه أن يطيف به كل إنسان؛ لأنه عنوان قائم لأقدس ما يشرف به هذا الحي الآدمي بين سائر الأحياء.
فما أظلت قبة السماء مكانا لشهيد قط هو أشرف من تلك القباب بما حوته من معنى الشهادة وذكرى الشهداء.
الفصل الثامن
جريرة كربلاء
موطن الرأس
اتفقت الأقوال في مدفن جسد الحسين عليه السلام، وتعددت أيما تعدد في موطن الرأس الشريف.
فمنها: أن الرأس قد أعيد بعد فترة إلى كربلاء فدفن مع الجسد فيها.
ومنها: أنه أرسل إلى عمرو بن سعيد بن العاص والي يزيد على المدينة، فدفنه بالبقيع عند قبر أمه فاطمة الزهراء.
ومنها: أنه وجد بخزانة ليزيد بن معاوية بعد موته، فدفن بدمشق عند باب الفراديس.
ومنها: أنه كان قد طيف به في البلاد حتى وصل إلى عسقلان، فدفنه أميرها هناك، وبقي بها حتى استولى عليها الإفرنج في الحروب الصليبية؛ فبذل لهم الصالح طلائع وزير الفاطميين بمصر ثلاثين ألف درهم على أن ينقله إلى القاهرة حيث دفن بمشهده المشهور. قال الشعراني في طبقات الأولياء: «إن الوزير صالح طلائع بن رزيك خرج هو وعسكره حفاة إلى الصالحية، فتلقى الرأس الشريف، ووضعه في كيس من الحرير الأخضر على كرسي من الأبنوس، وفرش تحته المسك والعنبر والطيب، ودفن في المشهد الحسيني قريبا من خان الخليلي في القبر المعرف.»
وقال السائح الهروي في الإشارات إلى أماكن الزيارات: «وبها - أي عسقلان - مشهد الحسين - رضي الله عنه - كان رأسه بها، فلما أخذتها الإفرنج نقله المسلمون إلى مدينة القاهرة سنة تسع وأربعين وخمسمائة.»
وفي رحلة ابن بطوطة أنه سافر إلى عسقلان «وبه المشهد الشهير حيث كان رأس الحسين بن علي عليه السلام، قبل أن ينقل إلى القاهرة».
وذكر سبط بن الجوزي فيما ذكر من الأقوال المتعددة أن الرأس بمسجد الرقة على الفرات، وأنه لما جيء به بين يدي يزيد بن معاوية قال: «لأبعثنه إلى آل أبي معيط عن رأس عثمان.» وكانوا بالرقة، فدفنوه في بعض دورهم، ثم دخلت تلك الدار بالمسجد الجامع، وهو إلى جانب سوره هناك.
فالأماكن التي ذكرت بهذا الصدد ستة في ست مدن، هي: المدينة، وكربلاء، والرقة، ودمشق، وعسقلان، والقاهرة. وهي تدخل في بلاد الحجاز والعراق والشام وبيت المقدس والديار المصرية، وتكاد تشتمل على مداخل العالم الإسلامي كله من وراء تلك الأقطار، فإن لم تكن هي الأماكن التي دفن فيها رأس الحسين فهي الأماكن التي تحيا بها ذكراه لا مراء.
وللتاريخ اختلافات كثيرة، نسميها بالاختلافات اللفظية أو العرضية؛ لأن نتيجتها الجوهرية سواء بين جميع الأقوال، ومنها الاختلاف على مدفن رأس الحسين عليه السلام. فأيا كان الموضع الذي دفن به ذلك الرأس الشريف، فهو في كل موضع أهل للتعظيم والتشريف. وإنما أصبح الحسين - بكرامة الشهادة وكرامة البطولة وكرامة الأسرة النبوية - معنى يحضره الرجل في صدره وهو قريب أو بعيد من قبره. وإن هذا المعنى لفي القاهرة، وفي عسقلان، وفي دمشق، وفي الرقة، وفي كربلاء، وفي المدينة، وفي غير تلك الأماكن سواء.
وقاحة ابن زياد
ويقل الاختلاف أو يسهل التجاوز عنه كذلك فيما حدث بين فاجعة كربلاء ولقاء يزيد.
فالمتواتر الموافق لسير الأمور أنهم حملوا الرءوس والنساء إلى الكوفة، فأمر ابن زياد أن يطاف بها في أحياء الكوفة ثم ترسل إلى يزيد.
وكانت فعلة يدارونها بالتوقح فيها على سنة المأخوذ الذي لا يملك مداراة ما فعل. فبات خولي بن يزيد ليلته بالرأس في بيته، وهو يمني نفسه بغنى الدهر كما قال. فأقسمت امرأة له حضرمية: «لا يجمع رأسها ورأسه بيت وفيه رأس ابن رسول الله.»
ثم غدا إلى قصر ابن زياد، وكان عنده يزيد بن أرقم من أصحاب رسول الله، فرآه ينكث ثنايا الرأس حين وضع أمامه في إجانة، فصاح به مغضبا: ارفع قضيبك عن هاتين الثنيتين؛ فوالذي لا إله غيره، لقد رأيت شفتي رسول الله على هاتين الشفتين يقبلهما، وبكى.
فهزئ به ابن زياد، وقال له: لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك، لضربت عنقك!
فخرج يزيد، وهو ينادي في الناس غير حافل بشيء: أنتم معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة وآثرتم ابن مرجانة، فهو يقتل شراركم ويستعبد خياركم.
وأدخلت السيدة زينب بنت علي رضي الله عنها، وعليها أرذل ثيابها ومعها عيال الحسين وإماؤها، فجلست ناحية لا تتكلم ولا تنظر إلى ما أمامها. فسأل ابن زياد : من هذه التي انحازت ناحية ومعها نساؤها؟
فلم تجبه، فأعاد سؤاله ثلاثا وهي لا تجيبه، ثم أجابت عنها إحدى الإماء: هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
فاجترأ ابن زياد قائلا: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأبطل أحدوثتكم.
وقد كانت زينب - رضي الله عنها - حقا جديرة بنسبها الشريف في تلك الرحلة الفاجعة التي تهد عزائم الرجال، كانت كأشجع وأرفع ما تكون حفيدة محمد وبنت علي وأخت الحسين. وكتب لها أن تحفظ بشجاعتها وتضحيتها بقية العقب الحسيني من الذكور، ولولاها لانقرض من يوم كربلاء.
فلم تمهل ابن زياد أن ثارت به قائلة: الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه وطهرنا من الرجس تطهيرا، إنما يفضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله.
فقال ابن زياد: قد شفى الله نفسي من طاغيتك والعصاة.
فغلبها الحزن والغيظ من هذا التشفي الذي لا ناصر لها منه، وقالت: لقت قتلت كهلي، وأبدت أهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن يشفك هذا فقد اشتفيت.
فتهاتف ابن زياد ساخرا وقال: هذه سجاعة، لعمري لقد كان أبوها سجاعا شاعرا.
فقالت زينب: إن لي عن السجاعة لشغلا. ما للمرأة والسجاعة؟
علي زين العابدين
ثم نظر ابن زياد إلى غلام عليل هزيل مع السيدة زينب فسأله: من أنت؟
قال: علي بن الحسين.
قال: أولم يقتل الله علي بن الحسين؟
قال: كان لي أخ يسمى عليا قتله الناس.
فأعاد ابن زياد قوله: الله قتله.
فقال علي: الله يتوفى الأنفس حين موتها، وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله.
فأخذت زيادا عزة الإثم وانتهره قائلا: وبك جرأة لجوابي!
وصاح الخبيث الأثيم بجنده: اذهبوا به فاضربوا عنقه.
فجاشت بعمة الغلام قوة لا يردها سلطان، ولا يرهبها سلاح؛ لأنها قوة من هان لديه الموت وهانت عليه الحياة، فاعتنقت الغلام اعتناق من اعتزم ألا يفارقه إلا وهو جثة هامدة، وأقسمت لئن قتلته لتقتلني معه. فارتد ابن زياد مشدوها، وهو يقول متعجبا: يا للرحم! إني لأظنها ودت أني قتلتها معه.
ثم قال: «دعوه لما به.» كأنه حسب أن العلة قاضية عليه.
وعلي هذا هو زين العابدين جد كل منتسب إلى الحسين عليهما السلام، وكان كما قال ابن سعد في الطبقات: «ثقة كثير الحديث عاليا رفيعا ورعا.» وكما قال يحيى بن سعيد: «أفضل هاشمي رأيته في المدينة.»
ولولا استماتة عمته كما ترى، لقد كادت تذهب بهذه البقية الباقية كلمة على شفتي ابن زياد!
الرأس عند يزيد
ولما قضى الخبيث نهمة كيده من الطواف برأس الحسين في الكوفة وأرباضها، أنفذه ورءوس أصحابه إلى دمشق مرفوعة على الرماح، ثم أرسل النساء والصبيان على الأقتاب، وفي الركب علي زين العابدين مغلول إلى عنقه يقوده شمر بن ذي الجوشن ومحضر بن ثعلبة؛ فتلاحق الركبان في الطريق ودخلا الشام معا إلى يزيد.
وتكرر منظر القصر بالكوفة في قصر دمشق عند يزيد، ولا نستغرب أن يتكرر بعضه حتى يظن أنه قد وقع في التاريخ خلط بين المنظرين؛ لأن المناسبة في هذا المقام تستوحي ضربا واحدا من التعقيب وضربا واحدا من الحوار.
فارتاع من بمجلس يزيد من نبأ المقتلة في كربلاء حين بلغتهم، وقال يحيى بن الحكم وهو من الأمويين:
لهام بجنب الطف أدنى قرابة
من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل
سمية أمسى نسلها عدد الحصى
وبنت رسول الله ليست بذي نسل
فأسكته يزيد، وقال وهو يشير إلى الرأس وينكث ثناياه بقضيب في يده: أتدرون من أين أتي هذا؟ إنه قال: «أبي علي خير من أبيه وأمي فاطمة خير من أمه، وجدي رسول الله خير من جده وأنا خير منه وأحق بهذا الأمر.» فأما أبوه فقد تحاج أبي وأبوه إلى الله وعلم الناس أيهما حكم له، وأما أمه فلعمري فاطمة بنت رسول الله خير من أمي، وأما جده فلعمري ما أحد يؤمن بالله واليوم الآخر يرى لرسول الله فينا عدلا ولا ندا، ولكنه أتي من قبل فقهه ولم يقرأ:
قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء [آل عمران: 26].
وهو كلام ينسب مثله إلى معاوية في رده على حجج علي في الخلافة، ولعل يزيد قد استعاره من كلام أبيه وزاد عليه.
ونظر بعض أهل الشام إلى السيدة فاطمة بنت الحسين - وكانت جارية وضيئة - فقال ليزيد: «هب لي هذه.» فأرعدت وأخذت بثياب عمتها، فكان لعمتها في الذود عنها موقف كموقفها بقصر الكوفة؛ ذيادا عن أخيها زين العابدين، وصاحت بالرجل: كذبت ولؤمت، ما ذلك لك ولا له.
فتغيظ يزيد وقال: «كذبت، إن ذلك لي، ولو شئت لفعلت.»
قالت: «كلا والله، ما جعل الله لك ذلك، إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا.»
فاشتد غيظ يزيد وصاح بها: «إياي تستقبلين بهذا؟! إنما خرج من الدين أبوك وأخوك.»
قالت: «بدين الله ودين أبي وأخي وجدي اهتديت أنت وأبوك وجدك.»
فلم يجد جوابا غير أن يقول: «بل كذبت يا عدوة الله.»
فقالت: «أنت أمير تشتم ظالما، وتقهر بسلطانك.»
فأطرق وسكت.
وأدخل علي بن الحسين مغلولا، فأمر يزيد بفك غله، وقال له: إيه يا ابن الحسين، أبوك قطع رحمي وجهل حقي ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما رأيت.
قال علي:
ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور [الحديد: 22، 23]، فتلا يزيد الآية:
وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم [الشورى: 30] ثم زوى وجهه وترك خطابه.
وكان لقاء نساء يزيد خيرا من لقائه؛ فواسين السيدة زينب والسيدة فاطمة ومن معهما، وجعلن يسألنهن عما سلبنه بكربلاء فيرددن إليهن مثله وزيادة عليه.
وأحب يزيد أن يستدرك بعض ما فاته، فلجأ إلى النعمان بن بشير واليه الذي عزله من الكوفة لرفقه بدعاة الحسين، وأمره أن يسير آل الحسين إلى المدينة، ويجهزهم بما يصلحهم. وقيل: إنه ودع زين العابدين، وقال له: «لعن الله ابن مرجانة، أما والله لو أني صاحب أبيك ما سألني خصلة أبدا إلا أعطيته إياها، ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن الله قضى ما رأيت يا بني! كاتبني من المدينة، وأنه إلي كل حاجة تكون لك.»
تبعة يزيد
والناس في تقدير التبعة التي تصيب يزيد من عمل ولاته مشارب وأهواء، يرجع كل منهم إلى مصدر من مصادر الرواية فيبني عليه حكمه.
فمنهم من يرى أنه بريء من التبعة كل البراءة، ومنهم من يرى أنه أقر فعلة ابن زياد ثم ندم عليها، ومنهم من يقول: إنه قد أمر بكل ما اقترفه ابن زياد، وتوقع حدوثه، ولم يمنعه وهو مستطيع أن يمنعه لو شاء.
والثابت الذي لا جدال فيه، أن يزيد لم يعاقب أحدا من ولاته كبر أو صغر على شيء مما اقترفوه في فاجعة كربلاء، وأن سياسته في دولته بعد ذلك كانت هي سياسة أولئك الولاة على وتيرة واحدة مما حدث في كربلاء، فاستباحة المدينة - دار النبي
صلى الله عليه وسلم - وتحكيم مسلم بن عقبة في رجالها ونسائها، ليست بعمل رجل ينكر سياسة كربلاء بفكره وقلبه، أو سياسة رجل تجري هذه الحوادث على نقيض تدبيره وشعوره، وما زال يزيد وأخلافه يأمرون الناس بلعن علي والحسين وآلهما على المنابر في أرجاء الدولة الإسلامية، ويستفتون من يفتيهم بإهدار دمهم وصواب عقابهم بما أصابهم، ومن تجب لعنته على المنابر بعد موته بسنين، فقتله جائز أو واجب في رأي لاعنيه.
ومن أفرط في سوء الظن، رجح عنده أن عبيد الله كان على إذن مستور بكل ما صنع، ويملي لهم في هذا الظن أن استئصال ذرية الحسين من الذكور خطة تهم يزيد لوراثة الملك في بيته وعقبه، ويفيده أن يقدم عليها مستترا من وراء ولاته ثم ينصل منها ويلقي بتبعتها عليهم، ولو لم يكن ذلك لكان عجيبا أن توكل حياة الحسين وأبنائه وآله إلى والي الكوفة بغير توجيه من سيده ومولاه؛ فقد كان الزمن الذي انقضى منذ خروج الحسين من مكة إلى نزوله بالطف على الفرات كافيا لبلوغ الخبر إلى يزيد، ورجوع الرسل بالتوجيه الضروري في هذا الموقف لوالي الكوفة وغيره من الولاة، فإن لم يكن الأمر تدبيرا متفقا عليه فهو المساءة التي تلي ذلك التدبير في السوء والشناعة، وهي مساءة التهاون الذي لا تستقيم على مثله شئون دولة. وقد روى ابن شريح اليشكري أن عبيد الله صارحه بعد موت يزيد فقال: «أما قتلي الحسين فإنه أشار إلي يزيد بقتله أو قتلي فاخترت قتله.» وهو كلام متهم لا تقوم به حجة على غائب قضى نحبه.
ويبدو لنا أن الظن بتهاون يزيد هنا أقرب إلى الظن بإيعازه وتدبيره؛ لأنه جرى عليه طوال حكمه، وألقى حبل ولاته على غاربهم وهو لاه بصيده وعبثه، وأنه ربما ارتاح في سريرته بادئ الأمر إلى فعلة ابن زياد وأعوانه، ولكنه ما عتم إن رأى بوادر العواقب توشك أن تطبق عليه بالوبال من كل جانب، حتى تيقظ من غفلته بعد فوات الوقت فعمد إلى المحاسنة والاستدراك جهد ما استطاع، ولم يكن في يقظته على هذا معتصما بالحكمة والسداد.
ولقد رأى البوادر منه غير بعيد، ولما تنقض ساعات على ذيوع الخبر في بيته قبل عاصمة ملكه، فنعى ابن الحكم فعلة ابن زياد، وناح نساؤه مشفقات من هول ما سمعن ورأين، وبكى ابنه الورع الصالح معاوية فكان يقول إذا سئل: «نبكي على بني أمية لا على الماضين من بني هاشم.»
ومهما تكن غفلة يزيد، فما أحد قط يلمح تلك البوادر، ثم يجهل أنها ضربة هوجاء لن تذهب بغير جريرة، ولن تهون جريرتها في الحاضر القريب ولا في الآتي البعيد.
والواقع أنها قد استتبعت بعدها جرائر شتى لا جريرة واحدة، وما تنقضي جرائرها إلى اليوم.
فلم تنقض سنتان حتى كانت المدينة في ثورة حنق جارف يقتلع السدود ويخترق الحدود؛ لأنهم حملوا إليها خبر الحسين محمل التشهير والشماتة. وضحك واليهم عمرو بن سعيد حين سمع أصوات البكاء والصراخ من بيوت آل النبي، فكان يتمثل قول عمرو بن معديكرب:
عجت نساء بني زياد عجة
كعجيج نسوتنا غداة الأرتب
وكانت بنت عقيل بن أبي طالب تخرج في نسائها حاسرة وتنشد:
ماذا تقولون إن قال النبي لكم:
ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم
بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي
منهم أسارى ومنهم ضرجوا بدم
ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم
أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي
فكان الأمويون يجيبون بمثل تلك الشماتة، يقولون كما قال عمرو بن سعد: «ناعية كناعية عثمان.»
ولا موضع للشماتة هنا بالحسين؛ لأنه قد أصيب على باب عثمان وهو يذود عنه، ويجتهد في سقيه وسقي آل بيته، ولكنا شماتة هوجاء لا تعقل ما تصنع ولا ما تقول.
ثورة المدينة
وللقدر المتاح لجت بالولاة الأمويين رغبتهم في تلفيق «المظاهرات الحجازية» فلم يرعوا ما بأهل المدينة من الحزن اللاعج والأسى الدفين. وجعلوا همهم كله أن يكرهوا القوم على نسيان خطب الحسين واصطناع الولاء المغتصب ليزيد. فحملوا إلى دمشق وفدا من أشراف المدينة لم يلبثوا أن عادوا إليها منكرين لحكم يزيد مجمعين على خلع بيعته، وراحوا يقولون لأهل المدينة: «إنا قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويضرب بالطنابير، ويعزف عنده القيان، ويلعب بالكلاب، ويسمر عنده الخراب.»
وقال رئيسهم عبد الله بن حنظلة الأنصاري، وهو ثقة عند القوم لصلاحه وزهده: «لو لم أجد إلا بني هؤلاء - وكان له ثمانية بنين - لجاهدت بهم. وقد أعطاني وما قبلت عطاءه إلا لأتقوى به.»
والتهبت نار الثورة بالألم المكظوم والدعوة الموصولة، فأخرج المدنيون والي يزيد وجميع من بالمدينة من الأمويين ومواليهم وأعلنوا خلعهم للبيعة.
وصدق ابن حنظلة النية، فكان يقدم بنيه واحدا بعد واحد حتى قتلوا جميعا، وقتل بعدهم أنفة من حياة يسام فيها الطاعة ليزيد وولاته.
وبدا في ثورة المدينة أن يزيد لم يستفد كثيرا ولا قليلا من عبرة كربلاء؛ لأنه سلط على أهلها رجلا لا يقل في لؤمه وغله وسوء دخلته، وولعه بالشر والتعذيب، وعبثه بالتقتيل والتمثيل، عن عبيد الله بن زياد، وهو مسلم بن عقبة المري. فأمره أن يسوم الثائرين البيعة بشرطه، وأن يستبيح مدينتهم ثلاثة أيام إن لم يبادروا إلى طاعته، وكان شرطه الذي سامهم إياه بعد اقتحام المدينة وانقضاء الأيام الثلاثة التي انتظر فيها طاعتهم «أنهم يبايعون أمير المؤمنين على أنهم خول له يحكم في دمائهم وأموالهم ما شاء».
وإذا كان شيء أثقل على النفوس من هذا الشرط، وأقبح في الظلم من استباحة الأرواح والأعراض في جوار قبر النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ فذاك هو ولاية هذا النكال بيد مجرم مفطور على الغل والضغينة مثل مسلم بن عقبة، كأنه يلقي على الناس وزر مرض النفس ومرض الجسد ومرض الدم الذي أبلاه، ولم يبل ما في طويته من رجس ومكيدة. «فاستعرض أهل المدينة بالسيف جزرا كما يجزر القصاب الغنم، حتى ساخت الأقدام في الدم وقتل أبناء المهاجرين والأنصار».
وأوقع كما قال ابن كثير: «من المفاسد العظيمة في المدينة النبوية ما لا يحد ولا يوصف» ولم يكفه أن يسفك الدماء ويهتك الأعراض حتى يلتذ بإثارة الآمال والمخاوف في نفوس صرعاه قبل عرضهم على السيف، فلما جاءوه بمعقل بن سنان صاحب رسول الله هش له وتلقاه بما يطمعه، ثم سأله: «أعطشت يا معقل؟ حوصوا له شربة من سويق اللوز الذي زودنا به أمير المؤمنين.» فلما شربها قال له: «أما والله لا تبولها من مثانتك أبدا.» وأمر بضرب عنقه.
ويروي ابن قتيبة أن عدد من قتل من الأنصار والمهاجرين والوجوه ألف وسبعمائة، وسائرهم من الناس عشرة آلاف سوى النساء والصبيان.
وحادث واحد من حوادث التمثيل والاستباحة يدل على سائر الحوادث من أمثاله، دخل رجل من جند مسلم بن عقبة على امرأة نفساء من نساء الأنصار ومعها صبي لها. فقال: «هل من مال؟»
قالت: «لا، والله ما تركوا لنا شيئا.»
قال: «والله لتخرجن إلي شيئا أو لأقتلنك وصبيك هذا.»
فقالت له: «ويحك! إنه ولد ابن أبي كبشة الأنصاري صاحب رسول الله.» فأخذ برجل الصبي والثدي في فمه، فجذبه من حجرها فضرب به الحائط فانتثر دماغه على الأرض.
وهو مثل من أمثال قد تكررت بعدد تلك البيوت التي قتل فيها أولئك الألوف من النسوة والأطفال والآباء والأمهات.
وقد مات هذا السفاح وهو في طريقه إلى مكة يهم بأن يعيد بها ما بدأ بالمدينة، فدفن في الطريق، وتعقبه بعض الموتورين من أهل المدينة فنشبوا قبره وأحرقوه.
جريرة العدل
ولم تنقض سنوات أربع على يوم كربلاء حتى كان يزيد قد قضى نحبه، ونجمت بالكوفة جريرة العدل التي حاقت بكل من مد يدا إلى الحسين وذويه.
فسلط الله على قاتلي الحسين كفؤا لهم في النقمة والنكال يفل حديدهم بحديده ويكيل لهم بالكيل الذي يعرفونه، وهو المختار بن أبي عبيد الثقفي داعية التوابين من طلاب ثأر الحسين. فأهاب بأهل الكوفة أن يكفروا عن تقصيرهم في نصرته، وأن يتعاهدوا على الأخذ بثأره فلا يبقين من قاتليه أحد ينعم بالحياة، وهو دفين مذال القبر في العراء.
فلم ينج عبيد الله بن زياد، ولا عمر بن سعد، ولا شمر بن ذي الجوشن، ولا الحصين بن نمير، ولا خولي بن يزيد، ولا أحد ممن أحصيت عليهم ضربة أو كلمة أو مدوا أيديهم بالسلب والمهانة إلى الموتى أو الأحياء.
وبالغ في النقمة فقتل وأحرق ومزق وهدم وتعقب الهاربين، وجوزي كل قاتل أو ضارب أو ناهب بكفاء عمله، فقتل عبيد الله وأحرق، وقتل شمر بن ذي الجوشن وألقيت أشلاؤه للكلاب، ومات مئات من رؤسائهم بهذه المثلات وألوف من جندهم وأتباعهم مغرقين في النهر أو مطاردين إلى حيث لا وزر لهم ولا شفاعة. فكان بلاؤهم بالمختار عدلا لا رحمة فيه، وما نحسب قسوة بالآثمين سلمت من اللوم أو بلغت من العذر ما بلغته قسوة المختار.
ولحقت الجريرة الثالثة بأعقاب الجريرة الثانية في مدى سنوات معدودات.
فصمد الحجاز في ثورته أو في تنكره لبني أمية إلى أيام عبد الملك بن مروان، وكان أحرج الفريقين من سيق إلى أحرج العملين. وأحرج العملين ذاك الذي دفع إليه - أو اندفع إليه - الحجاج عامل عبد الملك، فنصب المنجنيق على جبال مكة، ورمى الكعبة بالحجارة والنيران، فهدمها وعفى على ما تركه منها جنود يزيد بن معاوية؛ فقد كان قائده الذي خلف مسلم بن عقبة وذهب لحصار مكة أول من نصب لها المنجنيق، وتصدى لها بالهدم والإحراق.
وما زالت الجرائر تتلاحق حتى تقوض من وطأتها ملك بني أمية، وخرج لهم السفاح الأكبر وأعوانه في دولة بني عباس، فعموا بنقمتهم الأحياء والموتى، وهدموا الدور، ونبشوا القبور، وذكر المنكوبون بالرحمة فتكات المختار بن أبي عبيد، وتجاوز الثأر كل مدى خطر على بال هاشم وأمية يوم مصرع الحسين.
لقد كانت ضربة كربلاء، وضبة المدينة، وضربة البيت الحرام، أقوى ضربات أمية؛ لتمكين سلطانهم، وتثبيت بنيانهم، وتغليب ملكهم على المنكرين والمنازعين؛ فلم ينتصر عليهم المنكرون والمنازعون بشيء كما انتصروا عليهم بضربات أيديهم، ولم يذهبوا بها ضاربين حقبة حتى ذهبوا بها مضروبين إلى آخر الزمان.
وتلك جريرة يوم واحد هو يوم كربلاء، فإذا بالدولة العريضة تذهب في عمر رجل واحد مديد الأيام، وإذا بالغالب في يوم كربلاء أخسر من المغلوب إذا وضعت الأعمال المنزوعة في الكفتين.
الفصل التاسع
نهاية المطاف
من الظافر؟
غبن أن يفوت الإنسان جزاؤه الحق على عمله وخلقه.
وأثقل منه في الغبن أن ينقلب الأمر فيجزى المحسن بالإساءة، ويجزى المسيء بالإحسان.
وقد تواضع الناس منذ كانوا على معنى للتاريخ والأخلاق، ووجهة للشريعة والدين.
والجزاء الحق هو الوجهة الواحدة التي تلتقي فيها كل هذه المقاصد الرفيعة، فإذا بطل الجزاء الحق ففي بطلانه الإخلال كل الإخلال بمعنى التاريخ والأخلاق، ولباب الشرائع والأديان. وفيه حكم على الحياة بالعبث وعلى العقل الإنساني بالتشويه والخسار.
والجزاء الحق غرض مقصود لذاته يحرص عليه العقل الإنساني كرامة لنفسه ويقينا من صحته وحسن أدائه، كالنظر الصحيح نحسبه هو غرضا للبصر يرتاح إلى تحقيقه ويحزن لفواته وإن لم يكن وراء ذلك ثواب أو عقاب؛ لأن النظر الصحيح سلامة محبوبة والإخلال به داء كريه.
ولا يستهدف هذا القسطاس المستقيم لمحنة من محنه التي تزري بكرامة العقل الإنساني، كاستهدافه لها وهو في مصطدم التضحية والمنافع، أو في الصراع بين الشهداء وأصحاب الطمع والحيلة.
ففي هذا المصطدم يبدو للنظرة الأولى أن الرجل قد أضاع كل شيء وانهزم، وهو في الحقيقة غانم ظافر.
ويبدو لنا أنه قد ربح كل شيء وانتصر، وهو في الحقيقة خاسر مهزوم.
ومن هنا يدخل التاريخ ألزم مداخله وأبينها عن قيمة البحث فيه؛ لأنه المدخل الذي يفضي إلى الجزاء الحق والنتيجة الحقة، وينتهي بكل عامل أفلح أو أخفق في ظاهر الأمر إلى نهاية مطافه وغاية مسعاه في الأمد الطويل.
وقد ظفر التاريخ في الصراع بين الحسين بن علي ويزيد بن معاوية بميزان من أصدق الموازين التي تتاح لتمحيص الجزاء الحق في أعمال الشهداء وأصحاب الطمع والحيلة، فقلما تتاح في أخبار الأمم شرقا وغربا عبرة كهذه العبرة بوضوح معالمها وأشواطها، وفي تقابل النصر والهزيمة فيها بين الطوالع والخواتم على اختلاف معارض النصر والهزيمة.
فيزيد في يوم كربلاء هو صاحب المؤزر الذي لا يشوبه خذلان.
وحسين في ذلك اليوم هو المخذول الذي لم يطمح خاذله من وراء الظفر به إلى مزيد.
ثم تنقلب الآية أيما انقلاب.
ويقوم الميزان، فلا يختلف عارفان بين كفة الرجحان وكفة الخسران.
وهذا الذي قصدنا إلى تبيينه وجلائه بتسطير هذه الفصول. •••
وما من عبرة أولى من هذه بالتبيين والجلاء لدارس التاريخ ودارس الحياة وطالب المعنى البعيد في أطوار هذا الوجود.
ولسنا نقول إن الصراع بين الحسين ويزيد مثل جامع لكل أوان الصراع بين الشهادة والمنفعة، أو بين الإيمان والمآرب الأرضية؛ فإن لهذا الصراع لألوانا تتعدد ولا تتكرر على هذا المثال، وإن له لعناصر لم تجتمع كلها في طرفي الخصومة بين الرجلين، وأشواطا لم تتخذ الطريق الذي اتخذته هذه الخصومة في البداية أو النهاية.
ولكننا نكتفي بحقيقة واحدة توجب الاعتبار بهذه الخصومة وحدها وتفردها بارزة ماثلة للتأمل والتعقيب، وهي أن مسألة الحسين ويزيد قد كانت صراعا بين خلقين خالدين، وقد كانت جولة من جولات هذين الخلقين اللذين تجاولا أحقابا غابرات ولا يزالان يتجاولان فيما يلي من الأحقاب، وقد أسفرا عن نتيجة فاصلة ينفرد لها مكان معروف بين سائر الجولات، وليست جولة أخرى منهن بأحق منها بالتعليق والتصديق.
ووجهتنا من هذه العبرة أن يعطى كل خلق من أخلاق العاملين حقه بمعيار لا غبن فيه.
فإذا سعى أحد بالحيلة فخدع الناس وبلغ مأربه فليكن ذلك مغنمه وكفى، ولا ينفعه ذلك في استلاب السمعة المحبوبة والعطف الخالص والثناء الرفيع.
وإذا خسر أحد حياته في سبيل إيمانه فلتكن تلك خسارته وكفى، ولا ينكب فوق ذلك بخسارة في السمعة والعطف والثناء.
فلو جاز هذا لكان العطف الإنساني أزيف ما عرفناه في هذا الدنيا من الزيوف؛ لأن خديعة واحدة تشتريه وتستبقيه، وما من زيف في العروض الأخرى إلا وهو ينطلي يوما وينكشف بقية الأيام. •••
وإذا كان احتيال الإنسان لنفسه معطيه كل ما تهبه الدنيا من غنم النفع والمحبة والثناء، فقد ربح المحتالون وخسر نوع الإنسان.
وإذا كانت خسارة المرء في سبيل إيمانه تجمع عليه كل خسارة، فالأحمق الفاشل من يطلب الخير للناس ويغفل عن نفسه في طلابه.
فكفى الواصل ما وصل إليه.
وكثير عليه أن يطمع عند الخلف والسلف فيما ادخرته الإنسانية من الثناء والعطف لمن يكرمونها بفضيلة الشهادة والتضحية، ويخسرون.
وهذا الفيصل العادل أعدل ما يكون فيما بين الحسين ويزيد.
فإذا قيل إن معاوية قد عمل وقد أفلح بالحيلة والدهاء، فيزيد لم يعمل ولم يفلح بحيلة ولا دهاء، ولكنه ورث المنافع التي يشتري بها الأيدي والسيوف، فجال بها جولة رابحة في كفاح الضمائر والقلوب.
فينبغي ألا يربح بهذه الوسيلة، فأما وقد ربح؛ فينبغي أن يقف به الربح عند ذاك، وينبغي للعذر الكاذب والثناء المأجور ألا يحسبا على الناس بحساب العذر الصادق والثناء الجميل.
وقد تزلف إلى يزيد من يتزلفون إلى أصحاب المال والسلطان، ثم أخذوا أجورهم، فينبغي أن يقوم ذلك الثناء بقيمة تلك الأجور، وأن يكون ما قبضوه من أجر غاية ما استحقوه، إن كانوا مستحقيه.
أما أن يضاف ثناء الخلود إلى صفقة أولئك المأجورين، فقد أصبح ثناء الخلود إذن صفقة بغير ثمن، أو هو علاوة مضمونة على صفقة كل مأجور.
إن صاحب الثناء المبذول لا يسأل عن شيء غير العطاء المبذول، ولكن التاريخ خليق أن يسأل عن أعمال وأقوال قبل أن يبذل ما لديه من ثناء.
وليس في تاريخ يزيد عمل واحد صحيح أو مدعى، ولا كلمة واحدة صحيحة أو مدعاة، تقيمه بحيث أراده المأجورون من العذر الممهد والمدح المعقول، أو تخوله مكان الترجيح في الموازنة بينه وبين الحسين.
كل أخطائه ثابته عليه ومنها - بل كلها - خطؤه في حق نفسه ودولته ورعاياه، وليس له فضل واحد ثابت، ولا كلمة واحدة مأثورة تنقض ما وصفه به ناقدوه وعائبوه.
فقد كانت له ندحة عن قتل الحسين، وكان يخدم نفسه ودولته لو أنه استبقاه حيث يتقيه ويرعاه.
وكانت له ندحة عن ضرب الكعبة، واستباحة المدينة، وتسليط أمثال مسلم بن عقبة وعبيد الله بن زياد على خلائق الله.
وكانت له ندحة عن السمعة التي لصقت به ولم تلصق به افتراء ولا ادعاء كما يزعم صنائعه ومأجوروه؛ لأن واصفيه بتلك السمعة لم يلصقوا مثلها بأبيه.
ومن كان حقه في النعمة التي نعم بها مغتصبا ينتزعه عنوة، لا يكن حقه في الفضل والكرامة جزافا لا حسيب عليه. •••
وتسديد العطف الإنساني هنا فرض من أقدس الفروض على الناظرين في سير الغابرين؛ لأن العطف الإنساني هو كله ما يملك التاريخ من جزاء، وهو الثورة الوحيدة التي يحتفظ بها الخلود.
وإننا لندع الخطأ في سياسة النفعيين، وننظر إليهم كأنهم مصيبون في السياسة بصراء بمواقع التدبير.
فعلى هذه الصفة - لو تمت لهم - لا يحق لخادم زمانه أن ينازع الشهداء في ذخيرة العطف الخالد، وهم خدام العقائد التي تتخطى حياة الأجيال كما تتخطى حياة الأفراد.
فإن حرمان الشهداء حقهم في عطف الأسلاف والأخلاف خطأ في الشعور، وخطأ كذلك في التفكير.
والناس خاسرون إذا بطل عطفهم على الشهداء، وليس قصارى أمرهم أنهم قساة أو جاحدون؛ لأن الشهادة فضيلة تروح وتأتي وتكثر حينا وتندر في غير ذلك من الأحيان. أما حب المنفعة فإن سميته فضيلة من الفضائل التي لن تفارق الأحياء أجمعين، من ناطقة وعجماء. •••
على أن الطبائع الآدمية قد أشربت حب الشهداء والعطف عليهم وتقديس ذكرهم بغير تلقين ولا نصيحة، وإنما تنحرف عن سواء هذه السنة لعوارض طارئة أو باقية تمنعها أن تستقيم معها. وأكثر ما تأتي هذه العوارض من تضليل المنفعة والهوى القريب، أو من نكسة في الطبع تغريه بالضغن على كل خلق سوي وسجية سمحة محببة إلى الناس عامة، أو من الإفراط في حب الدعة حتى يجفل المرء من الشهادة استهوالا لتكاليفها واستعظاما للقدوة بها، فيتهم الشهداء بالهوج، ويتعقب أعمالهم بالنقد؛ لكيلا يتهم نفسه بالجبن والضعة، ويستحق المذمة واللوم في رأي ضميره. وإن لم يتهمهم بالهوج ولم يتعقبهم بالنقد، وقف من فضائلهم موقف ازورار وفتور، وجنح إلى معذرة الآخرين والتفاهم بينه وبين من لا يستشهدون، ثم يعارضون الشهداء فيما يطمحون إليه.
ومعظم المؤرخين الذين يعارضون الشهداء ودعاتهم لغير منفعة أو نكسة هم من أصحاب الدعة المفرطة وأنصار السلامة الناجية، ويغلب على هذه الخلة أن تسلبهم ملكة التأريخ الصحيح؛ لأنها تعرضهم للخطأ في الحكم والتفكير، كما تعرضهم للخطأ في العطف والشعور.
ومن المعقبين على تاريخ هذه الفترة عندنا - في العربية - مؤرخ يتخذ منه المثل لكل من العذر والعطف حين يصل الأمر إلى الاستشهاد كراهة للظلم ودرءا للمنكرات، وهو الأستاذ محمد الخضري صاحب تاريخ الأمم الإسلامية رحمه الله.
ففي تعقيبه على ثورة المدينة التي قدمنا الإشارة إليها يقول: «إن الإنسان ليعجب من هذا التهور الغريب والمظهر الذي ظهر به أهل المدينة في قيامهم وحدهم بخلع خليفة في إمكانه أن يجرد عليهم من الجيوش ما لا يمكنهم أن يقفوا في وجهه. ولا ندري ما الذي كانوا يريدونه بعد خلع يزيد؟ أيكونون مستقلين عن بقية الأمصار الإسلامية، لهم خليفة منهم يلي أمرهم أم حمل بقية الأمة على الدخول في أمرهم؟ وكيف يكون هذا وهم منقطعون عن بقية الأمصار ولم يكن معهم في هذا الأمر أحد من الجنود الإسلامية؟ إنهم فتقوا فتقا وارتكبوا جرما فعليهم جزء عظيم من تبعة انتهاك حرمة المدينة، وكان اللازم على يزيد وأمير الجيش ألا يسرف في معاملتهم بهذه المعاملة؛ فإنه كان من الممكن أن يأخذهم بالحصار.» •••
ويخيل إليك وأنت تقرأ كلام الأستاذ عن هذه الفترة كلها أن لديه أعذارا ليزيد وليس لديه عذر لأهل المدينة؛ لأنه يفهم كيف يغضب المرء لما في حوزته، ولا يفهم كيف تضيق به كراهة الظلم وغيرة العقيدة عن الاحتمال.
وشعوره هذا يحول بينه وبين الحكم الصحيح على حوادث التاريخ؛ لأنه يحول بينه وبين انتظار هذه الحوادث حيث تنتظر لا محالة، واستبعادها حيث هي بعيدة عن التقدير.
فلم يحدث قط في مواجهة الظلم وانتزاع الدول المكروهة أن شعر الناس كما أرادهم الأستاذ أن يشعروا، أو فكروا في الأمر كما أرادهم أن يفكروا.
ومستحيل حدوث هذا أشد الاستحالة، وليس قصاراه أنه لم يحدث من قبل في حركات التاريخ.
فهذه الحركات التي تواجه الدول المكروهة لا تنتظر - ولا يمكن أن تنتظر - حتى تربى قوتها وعدتها على ما في أيدي الدولة التي تكرهها من قوة وعدة، ولكنها حركة أو دعوة تبدأ بفرد واحد يجترئ على ما يهابه الآخرون، ثم يلحق به ثان وثالث ورابع ما شاء له الإقناع وضيق الذرع بالأمور، ثم ما ينالهم من نقمة فيشيع الغضب وينكشف الظلم عمن كان في غفلة عنه، ثم يشتد الحرج بالظالم فيدفعه الحرج إلى التخبط على غير هدى، ويخرج من تخبط غليظ أحمق إلى تخبط أغلظ منه وأحمق؛ فلا هم يقفون في امتعاضهم وتذمرهم ولا هو يقف في بطشه وجبروته، حتى يغلو به البطش والجبروت، فيكون فيه وهنه والقضاء عليه.
وعلى هذا النحو يعرف المؤرخ الذي يعالج النفوس الآدمية ما هو من طبعها، وما هو خليق أن ينتظر منها، فلا يعالجها حق العلاج على أنها مسألة جمع وطرح في دفتر الحساب بين هذا الفريق وذاك الفريق.
وعلى هذا النحو تكون حركة الحسين قد سلكت طريقها الذي لا بد لها أن تسلكه، وما كان لها قط من مسلك سواه. •••
وصل الأمر في عهد يزيد إلى حد لا يعالج بغير الاستشهاد وما نحا منحاه.
وهذا هو الاستشهاد ومنحاه، وهو - بالبداهة التي لا تحتاج إلى مقابلة طويلة - منحى غير منحى الحساب والجمع والطرح في دفاتر التجار.
ومع هذا يدع المؤرخ طريق الشهادة تمضي إلى نهاية مطافها، ثم يتناول دفتر التجار كما يشاء ؛ فإنه لواجد في نهاية المطاف أن دفتر التجار لن يكتب الربح آخرا إلا في صفحة الشهداء.
فالدعاة المستشهدون يخسرون حياتهم وحياة ذويهم، ولكنهم يرسلون دعوتهم من بعدهم ناجحة متفاقمة فتظفر في نهاية مطافها بكل شيء حتى المظاهر العرضية والمنافع الأرضية.
وأصحاب المظاهر العرضية والمنافع الأرضية يكسبون في أول الشوط ثم ينهزمون في وجه الدعوة المستشهدة حتى يخسروا حياتهم أو حياة ذويهم، وتوزن حظوظهم بكل ميزان فإذا هم بكل ميزان خاسرون.
وهكذا أخفق الحسين ونجح يزيد.
ولكن يزيد ذهب إلى سبيله، وعوقب أنصاره في الحياة والحطام السمعة بعده بشهور، ثم تقوضت دولته ودولة خلفائه في عمر رجل واحد لم يجاوز الستين.
وانهزم الحسين في كربلاء وأصيب هو وذووه من بعده، ولكنه ترك الدعوة التي قام بها ملك العباسيين والفاطميين، وتعلل بها أناس من الأيوبيين والعثمانيين، واستظل بها الملوك والأمراء بين العرب والفرس والهنود، ومثل للناس في حلة من النور تخشع لها الأبصار.
وباء بالفخر الذي لا فخر مثله في تواريخ بني الإنسان غير مستثنى منهم عربي ولا أعجمي ولا قديم ولا حديث.
أبو الشهداء
فليس في العالم أسرة أنجبت من الشهداء من أنجبتهم أسرة الحسين عدة وقدرة وذكرة، وحسبه أنه وحده في تاريخ هذه الدنيا الشهيد ابن الشهيد أبو الشهداء في مئات السنين.
وأيسر شيء على الضعفاء الهازلين أن يذكروا هنا طلب الملك ليغمزوا به شهادة الحسين وذويه.
فهؤلاء واهمون ضالون مغرقون في الوهم والضلال.
لأن طلب الملك لا يمنع الشهادة، وقد يطلب الرجل الملك شهيدا قديسا، ويطلبه وهو مجرم بريء من القداسة.
وإنما هو طلب وطلب، وإنما هي غاية وغاية، وإنما المعول في هذا الأمر على الطلب لا على المطلوب.
فمن طلب الملك بكل ثمن، وتوسل له بكل وسيلة، وسوى فيه بين الغصب والحق، وبين الخداع والصدق، وبين مصلحة الرعية ومفسدتها؛ ففي سبيل الدنيا يعمل لا في سبيل الشهادة.
ومن طلب الملك وأباه بالثمن المعيب، وطلب الملك حقا ولم يطلبه لأنه شهوة وكفى، وطلب الملك وهو يعلم أنه سيموت دونه لا محالة، وطلب الملك وهو يعتز بنصر الإيمان ولا يعتز بنصر الجند والسلاح، وطلب الملك دفعا للمظلمة وجلبا للمصلحة كما وضحت له بنور إيمانه وتقواه، فليس ذلك بالعامل الذي يخدم نفسه بعمله، ولكنه الشهيد الذي يلبي داعي المروءة والأريحية، ويطيع وحي الإيمان والعقيدة، ويضرب للناس مثلا يتجاوز حياة الفرد الواحد وحياة الأجيال الكثيرة.
ومن ثم يقيم الآية بعد الآية على حقيقة الحقائق في أمثال هذا الصراع بين الخلقين أو بين المزاجين والتاريخين.
وهي أن الشهادة خصم ضعيف مغلوب في اليوم والأسبوع والعام.
ولكنها أقوى الخصوم الغالبين في الجيل والأجيال ومدى الأيام.
وهي حقيقة تؤيدها كل نتيجة نظرت إليها بعين الأرض أو بعين السماء على أن تنظر إليها في نهاية المطاف.
ونهاية المطاف هي التي يدخلها «نوع الإنسان» في حسابه ويوشج عليها وشائج عطفه وإعجابه، لأنه لا يعمل لوجبات ثلاث في اليوم، ولا ينظر إلى عمر واحد بين مهد ولحد، ولكنه يعمل للدوام وينظر إلى الخلود.
الفصل العاشر
في عالم الجمال
عاشق الجمال
إذا لحقت السيرة بعالم المثال الذي يتطلع إليه خيال الشعراء، وتتغنى به قرائح أهل الفن، فقد تنزهت عن ربقة الجسد، وأصبحت صورة من الصور المثلى في عالم الجمال.
ومن آيات الجمال أنه يتحدى المنفعة، ويؤثر البطولة على السلامة.
فإذا تعلقت القريحة بالجمال، فلا جرم تزن الأمور بغير ميزان الحساب والصفقات، فتعرض عن النعمة وهي بين يديها، وتقبل على الألم وهي ناظرة إليه، وتلزمها سجية العشق الآخذ بالأعنة، فتنقاد له ولا تنقاد لنصيحة ناصح أو عذل عاذل؛ لأن المشغوف بالجمال ينشده، ولا يبالي ما يلقاه في سبيله.
وقد تمثلت سجية عاشق الجمال في كل شعر نظمه شعراء الحسين وذويه تعظيما لهم وثناء عليهم؛ فلم يتوجهوا إليهم ممدوحين، وإنما اتجهوا إليهم صورا مثلى يهيمون بها كما يهيم المحب بصورة حبيبه، ويستعذبون من أجلها ما يصيبهم من ملام وإيلام.
وفي معنى كهذا المعنى يقول الكميت شاعر أهل البيت:
طربت وما شوقا إلى البيض أطرب
ولا لعبا مني، وذو الشيب يلعب
ولم يلهني دار ولا رسم منزل
ولم يتطربني بنان مخضب
ولا أنا ممن يزجر الطير همه
أصاح غراب أم تعرض ثعلب
ولا السانحات البارحات عشية
أمر سليم القرن أم مر أعضب
1
ولكن إلى أهل الفضائل والنهى
وخير بني حواء، والخير يطلب
إلى النفر البيض الذين بحبهم
إلى الله فيما نالني أتقرب
بني هاشم، رهط النبي، فإنني
بهم ولهم أرضى مرارا وأغضب
خفضت لهم مني جناحي مودة
إلى كنف عطفاه أهل ومرحب
يشيرون بالأيدي إلي وقولهم
ألا خاب هذا، والمشيرون أخيب
فطائفة قد كفرتني بحبكم
وطائفة قالوا: مسيء ومذنب
فما ساءني تكفير هاتيك منهم
ولا عيب هاتيك التي هي أعيب
يعيبونني من خبهم وضلالهم
على حبكم، بل يسخرون وأعجب
وقالوا: ترابي
2
هواه ورأيه
بذلك أدعى فيهم وألقب
على ذاك إجرياي فيكم ضريبتي
ولو جمعوا طرا علي وأجلبوا
وأحمل أحقاد الأقارب فيكم
وينصب لي في الأبعدين فأنصب
وقد مر بنا حديث زين العابدين - رضي الله عنه - وهو غلام عليل أوشك أن يتخطفه الموت بكلمة من عبيد الله بن زياد؛ لأنه استكبر «أن تكون به جرأة على جوابه».
فهذا الغلام العليل قد عاش حتى انعقد له ملك القلوب حيث انعقد ملك الأجسام لهشام بن عبد الملك سيد ابن زياد وآله.
وذهب هشام بين جنده وحشمه يحج البيت ويترضى الناس، فلم يخلص إلى الحجر الأسود؛ لتزاحم الحجيج عليه. وإنه لجالس على كرسيه ينتظر انفضاض الناس إذا بزين العابدين يقبل إلى الحجر الأسود في وقاره وهيبته، فيتنحى له الحجيج ويحفون به وهو يستلم الحجر مطمئنا غير معجل، ثم يعود من حيث أتى والناس مشيعوه بالتجلة والدعاء.
وتهول رجلا من حاشية هشام هذه المهابة التي لم يرها لمولاه فيسأل: «من هذا الذي هابه الناس هذه الهيبة؟!»
ويخشى هشام أن يطلع جنده على مكانة رجل لم يتطاول إلى مثل مكانته بسلطانه وعتاده فيقول: «لا أعرفه.» ويقتضب الجواب.
وهذا الذي تصدى له شاعر آخر قد غامر بحياته ونواله؛ ليقول بالقصيد المحفوظ ما ثقل على لسان هشام أن يقوله في كلمتين عابرتين.
وذلك هو الفرزدق حيث قال:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم
هذا التقي النقي الطاهر العلم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله
بجده أنبياء الله قد ختموا
وليس قولك من هذا بضائره
العرب تعرف من أنكرت والعجم
إذا رأته قريش قال قائلها:
إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
من معشر حبهم دين، وبغضهم
كفر، وقربهم منجى ومعتصم •••
وتصدى عبيد الله بن كثير لأمير مكة - خالد بن عبيد الله - فلعنه، وهو قادر على قتله؛ لأنه يلعن عليا وحسينا في خطبه، وأنشد:
لعن الله من يسب عليا
وحسينا من سوقة وإمام
أيسب المطهرون جدودا
والكرام الآباء والأعمام
يأمن الطير والحمام ولا يا
من آل الرسول عند المقام
طبت بيتا وطاب أهلك أهلا
أهل بيت النبي والإسلام
رحمة الله والسلام عليه
كلما قام قائم بسلام •••
وتنقضي السنون، وتتسامع العربية بشاعر فحل لم يسلم من لسانه أحد، ولم ينزه أحدا من المجزلين له أو المقترين عليه من استحقاق الهجاء، فكان ينشد الأبيات المقذعة، ويسأل عن صاحبها فيقول: «لم يستحقها أحد بعينه بعد، ولسوف يستحقها كثيرون.»
هذا الشاعر العجيب هو دعبل الخزاعي الذي يهز أوتار النفوس بأمثال هذه الأبيات في آل البيت:
مدارس آيات خلت من تلاوة
ومنزل وحي مقفر العرصات!
لآل رسول الله بالخيف من منى
وبالركن والتعريف والحجرات
ديار علي والحسين وجعفر
وحمزة والسجاد ذي الثفنات
3
ديار عفاها كل جون مبادر
ولم تعف للأيام والسنوات
إلى أن يقول:
ملامك في أهل النبي فإنهم
أحباي ما عاشوا وأهل ثقاتي
فيا رب زدني من يقيني بصيرة
وزد حبهم يا رب في حسناتي
أحب قصي الرحم من أجل حبهم
وأهجر فيهم أسرتي وبناتي
لقد حفت الأيام حولي بشرها
وإني لأرجو الأمن بعد وفاتي
ألم تر أني من ثلاثين حجة
أروح وأغدو دائم الحسرات
أرى فيئهم في غيرهم متقسما
وأيديهم من فيئهم صفرات
فآل رسول الله نحف جسومهم
وآل زياد حفل القصرات
4
بنات زياد في القصور مصونة
وآل رسول الله في الفلوات!
إذا وتروا مدوا إلى أهل وترهم
أكفا عن الأوتار منقبضات!
ووهب علي بن موسى الرضا للشاعر جائزة من دراهمه المضروبة باسمه وخلع عليه من ثيابه، فبذل له أهل «قم» ثلاثين ألف درهم ليبيعهم الخلعة فضن بها. ثم ترصدوا له في الطريق ليأخذوها منه عنوة تبركا وذكرى؛ فسمح بالمال ولم يسمح بالخلعة، واسترضوه فلم يرض إلا أن يعطوه كما من أكمامها؛ ليدفن معه في كفنه، وتقسموا الخلعة بينهم فخورين بها غير مبالين ما بذلوه في ثمنها.
وانقضت فترة لم تطل، وتسامعت العربية بشاعر آخر أفحل من دعبل، وأقدر منه على التصرف بالهجاء والمديح.
ذلك هو العباس علي بن الرومي الذي نسي ممدوحيه من آل طاهر وبني العباس؛ ليذكر حق حفيد الحسين يحيى بن عمر الشهيد. ولو كلفه ذكره القتل والحرمان.
وفي بعض ما ساقه من النذر لأمراء زمانه مهلكة له قلما يفلت منها قائل بحياته، وذلك حيث يقول من قصيدته الجيمية:
غررتم لئن صدقتم أن حالة
تدوم لكم، والدهر لونان، أخرج
لعل لهم في منطوى الغيب ثائرا
سيسمو لكم والصبح في الليل مولج
بمجر تضيق الأرض من زفراته
له زجل ينفى الوحوش وهزمج
5
يود الذي لاقوه أن سلاحه
هنالك خلخال عليه ودملج
فيدرك ثأر الله أنصار دينه
ولله أوس آخرون وخزرج
ويقضي إمام الحق فيكم قضاءه
مبينا، وما كل الحوامل تخدج
وكل أولئك شاعر ينسى التقوى في مواطن شتى من عمله وقوله، ولا ينساها في حق الشهداء من آل الحسين وصحبه؛ لأنه يحس الجمال إحساس الشعراء ويهتز «للصورة المثلى» اهتزاز الأريحية التي يحلم بها رواد الخيال. فهم هنا بمربأة من قيود العيش، ووساوس الحاجة، وأعباء النوازع الأرضية، يستوحون سليقة القول فيما ينبغي أن يقال؛ فيجري على لسانهم كأنهم مسوقون إليه.
بل كل أولئك شاعر لا يسخو بالمدح وهو موصول بالعطاء الجزيل، ثم هو يسخو به للشهداء وآلهم على غير أمل في نوال، وعلى خوف شديد من الحرمان والوبال. •••
وشاعر آخر لم يكن يهجو من الناس هذا أو ذاك، ولكنه كان سيئ الظن بالناس أجمعين، وكان يقول ما بدا له في الدنيا والدين، ولكنه يجامل مع المجاملين فلا يقصر عن شأوهم في السابقين أو اللاحقين.
ذلك هو أبو العلاء المعري حيث قال في الفجر والشفق:
وعلى الدهر من دماء الشهيدي
ن علي ونجله شاهدان
فهما في أواخر الليل فجرا
ن وفي أولياته شفقان
ثبتا في قميصه ليجيء ال
حشر مستعديا إلى الرحمن
وإن وحي الشعر من سرائر النفوس لأصدق حكما من لسان التاريخ إذا اختلف الحكمان.
ولكنهما قد توافيا معا على مقال واحد، فجلوا لنا من سيرة الحسين - رضي الله عنه - صورة الجمال في عالم المثال، وكذلك يعيش ما عاش في أخلاد الناس.
Unknown page