فالتشاؤم - كالتفاؤل - إنما يكون مع الحب والاهتمام، أو مع الظن الحسن والأمل المشبوب، تجيء خيبة الأمل حين يكون الأمل معقولا أو شبيها بمعقول. أما إذا غلب اليأس من البداية فلا تشاؤم ولا إخلاف ظنون.
الذي يهجو المرأة يحبها كالذي يثني عليها، والذي يملأه الغيظ منها كالذي يملأه الشوق إليها: كلاهما يعتد بها ويشتغل بأمرها ويحسب الحساب لإقبالها وإعراضها، أما الذي يلهو بها فلا شوق ولا غضب! ولا فرح بلقائها ولا حزن لغيابها، فليس ذلك من العشاق المدلهين ولكنه من طلاب الفراغ العابثين. •••
كذلك الحياة في زماننا قلما تتسع فيها النفس لتفاؤل أو تشاؤم، وقلما ترى فيها إلا مزجيا لفراغ أو لاهيا بحاضر مبتور، لا يرجع إلى ماضيه ولا يترقب عقباه.
كانت الحياة حليلة نحاسبها على الأمانة والخيانة، وكانت في بعض أجيالها عشيقة نحاسبها على العطف والمودة، فأصبحت عندنا بنتا من بنات الهوى لا نحاسبها على شيء ولا نغار عليها من أحد، ولا ننحي عليها بلوم ولا نخصها بثناء.
فنحن كما قلنا: نكرم زماننا هذا ونكبره ونرفع من قدره إذا نحن وصفناه بزمان التشاؤم. ليتنا كنا متشائمين، وليتنا نحفل بالحياة! ما أخالنا نخطئ إذ نقول إن تشاؤم أبي العلاء وتشاؤم زميله في الغرب سعادة بالقياس إلى ما نحن فيه.
كان هذا القائل آخر الخطباء في الجمع العظيم الذي التقى من بلاد المشرق والمغرب لتحية الحكيمين في إحدى العواصم. فكان في هذه التحية تزكية للمذهب المحتفى بصاحبيه، كما كان فيها مناقضة له وتشكيك فيه، لأنها جاءت في إبانها دليلا جديدا على اتساع أفق الحياة واستغراقها لجميع ما يقال فيها من تشاؤم وتفاؤل، كما تهضم البنية القوية ما ينفع وما يضير.
وقد خرج حكيم المعرة وهو يعجب ويسأل تلميذه من فرط العجب: أحق أن التشابه بيني وبين الرجل على هذا المدى من القرب والتجاور، مع ما بيننا من مسافة الزمان ومسافة العنصر ومسافة الفكر واللسان؟
قال التلميذ: بل هو أقرب من ذاك يا مولاي؛ فلا عجب أن يتفق الرجلان في النظرة إلى الدنيا على تباعد الجيرة وتفاوت السيرة، ولكن العجب العاجب أن يتفقا على التفصيلات ويتشابها في الدقائق والعرضيات، وفيما ليس هو من جوهر المذهب ولا من الضروريات التي يقضي بها التوافق في الأصول، والتماثل في العقول.
قال أبو العلاء مستفهما: ومثال ذلك؟
قال التلميذ: مثال ذاك أن الرجل يقول: إن المرء يعيش إلى السادسة والثلاثين من عمره كما يعيش التاجر الذي ينفق من ربحه ونوافله، ثم ينحدر وينقص ولا يزال في نقصه وهبوطه حتى ينفق من رأس ماله إلى يوم إفلاسه ووفاته. وأنت يا مولاي تقول:
Unknown page