جامع في العنان لا يسمع الزج
ر ولا يرعوي إلى الرواض
فلأي قوة في الكون يرضخ من أبى الرضوخ لأستاذ التجربة؟ ولأي إرشاد ينصت من لم يصغ إلى وحي العواقب؟ وأي درس يحفظ من أهمل درس الأسباب والنتائج؟ ولأي صوت يأذن من أغلق سمعه دون صوت الطبيعة؟ وبأي مصباح يسترشد من أغمض طرفه عن سراج الحق؟ وبأي شيء في هذا الوجود يصدق ويؤمن من خادع نفسه وغالط ذهنه في الواقع المحسوس والحقائق الملموسة؟
وأي إنكار للحاصل والواقع أشد من إنكاركم لتلك الحقيقة الكبرى التي أصبح يبصرها الضرير، ويسمع وقع آثارها الأصم، ويكاد يتحرك لها رفات الأموات في قبورها، تلك الحقيقة التي بتنا نتقلب في مضاجع راحتها وبين أعطاف نعمائها، ونجني باكورة ثمارها يانعة جنية؛ من تحكم في أمورنا، وتصرف في إدارة شئوننا، وقبض على أزمة السلطة في حكومة بلادنا، وتأسيس برلمان كأرقى برلمانات العالم دستورية وأحسنها نظاما، ووزارة مسئولة أمام ذلك البرلمان قد قام رئيسها الجليل ثروت باشا يبرهن للناس على حسن نيتها، ويقدم لهم أمثلة صادقة من مبدأ مسئوليتها بما قد جعل يلقيه على الملأ مرة بعد أخرى من خطبه الرائعة المملوءة بروح الديموقراطية، مما لم تعهده البلاد قبل اليوم من أي وزارة قامت بين ربوعها أو رئيس تقلد زمام الحكم فيها، ثم بتنفيذ نصوص هذه الخطب بالأعمال الجليلة والنتائج العملية.
أي إنكار للواقع الملموس أشد من إنكاركم إلغاء الحماية بعدما أعلنت ذلك بريطانيا، وصادق عليه برلمانها، وكساه الصورة الشرعية والصيغة الرسمية، وبعدما أمنت عليه دول العالم، وهللت له وصاحت، وتواردت به التهاني تطير بأجنحة البريد وتهفو على ساريات البرق - بل كادت تشترك في إعلانه الطبيعة ذاتها، فتتهامس بنجواه الرياح، ويفضي ببشراه المساء للصباح - فتقولون بعد كل هذا إنه ما حدث حادث ولا تغيرت حال، وإنه:
تخرص وأحاديث ملفقة
ليست بنبع إذ عدت ولا غرب
تقولون إن هي إلا أسماء سميتموها، ورنين ألفاظ زينتموها كلام في كلام، وأضغاث أحلام، ورماد يذر في الأجفان، وتخدير أعصاب وأبدان. فبحقكم هل كنتم قائلين ذلك لو سيق إليكم هذا الربح العظيم على أيدي آخرين؟ أم أنتم لا تعترفون بالفضل ومقداره إلا إذا انحدر إليكم من طريق مخصوص محبب إليكم، ولا تتحدثون بالنعمة إلا إذا جاءتكم في غلاف معين مبصومة بماركة معينة لفابريقة معينة؛ لا تعرفون غيرها، ولا تعترفون بسواها، ولا تؤمنون إلا بها، ولا تأخذون إلا مصنوعاتها. ثم المقاطعة التامة والويل والعفاء على البضاعة بعينها إذا صدرت عن فابريقة أخرى تحمل ماركة أخرى؟ فأنتم إنما تعنون بالواسطة لا بالنتيجة، وكل ما يهمكم هو الزي لا الكائن الحي المشتمل به، والوعاء لا المتاع المنطوي تحته، ومن كان هذا شأنه - متعلقا بالأعراض دون الجواهر، منصرفا عن مادة الحقائق إلى هباء المظاهر - كان يعيش في عالم من الخيالات والأحلام، وينقلب في جو من الأكاذيب والأوهام، وإن تشأ فقل عنه - ولا حرج - إنه لا يحيى ولا يعيش، ولا يكون ولم يكن.
ليت شعري، ماذا نقول للذين يستقبلون نعمة الله بالسخط والنقمة ويتلقون فضله العظيم بالاستياء والأسف؟ ليت شعري، ماذا نقول للذين يلقون وجوه اليمن الضاحكة بوجوه مربدة عابسة، وينفرون من عرائس النعم المزفوفة عليهم بأعطاف شامسة؟ أفلا نقول إن الطبائع البشرية قد انعكست فيهم فدواعي السرور تشجوهم، وبشائر الصفو تشجيهم، وانبساط الأمل يورثهم انقباض اليأس، وأسباب الطمأنينة تثير فيهم هواجس الوسواس. فأي فائدة ترجى من أمثال هؤلاء لصالح العالم عامة ولمنفعة أوطانهم خاصة؟ أي فائدة ترجى منكم يا من هذا دأبهم وديدنهم سوى أنكم تعملون على إماتة الأمل ونقض العزائم ونكث الهمم؟ تكدرون الصفو، وتعكرون الصحو، وتجعدون السلس، وتخشنون الأملس، وتوعرون السهل، وتعقدون المنحل، وتثيرون على رونق الأماني المشرقة غبار الضجر والتبرم، وتعقدون دون كواكب الرجاء غيوم التطير والتشاؤم، لا تنفكون تقيمون مناحة جدية على مصائب وهمية، ثم تجعلون تشاؤمكم هذا دليلا قاطعا على صدق وطنيتكم، وتسمون إنكاركم للواقع المحسوس، وإقامتكم العقبات في سبيل تقدم البلاد إلى غايتها المنشودة عنوانا على فرط إخلاصكم، وشدة تفانيكم في خدمة القضية.
فخبروني بربكم أهو الإخلاص والتفاني الباعث الحقيقي الذي يدفعكم إلى إتيان ما تأتون من المعارضة في الواضح المستنير والمكابرة في إنكار ما يراه الأكمه والبصير؟ وهل حقا تعتقدون في صميم أفئدتكم أنكم أنتم وحدكم المخلصون، وأن فريق التيمن والاستبشار هم المنافقون؟ وهل حقا في صدوركم وحدها يتأجج لهيب الوطنية، وعلى قلوبكم دون غيرها يتنزل وحي الوطنية؟ وهل الوطنية لم تضرب في غير ضمائركم قبابها، ولم تتخذ في سوى جوانحكم منسكها ومحرابها، ولم تقم خلافكم مداره يدافعون عن قضيتها، ولم تجند غيركم عسكرا يذودون عن جوزتها؟ وهل هي لم تتعشق سواكم ولم يهم قلبها إلا بكم؟ وهل كان من عداكم خونة غدرة وفجرة كفرة؟
Unknown page