كان وشنطون الرئيس الأول للولايات المتحدة، وقد بدأت رياسته كما أسلفنا سنة 1789. وقد أعان وشنطون في تدعيم قواعد الاتحاد وزيران: هما هاملتون؛ وقد جعله على خزانة الاتحاد، وجفرسون؛ وقد جعله لشئون الدولة. ومن اتجاهي الرجلين في السياسة وفق ميولهما نبتت الأحزاب في الولايات المتحدة.
حارب هاملتون في حروب الثورة وجاهد جهادا محمودا، ولكنه لم يكن متحمسا للمثل التي صورتها أذهان الناس، وكان قليل الثقة بالجمهور ونزعاته؛ ولهذا كان يبدي فتورا إزاء الديمقراطية، وكان يطلق على الجمهور اسم «الوحش العظيم»، وينكر على العامة صلاحيتهم لوزن الأمور، واتجهت ميوله إلى إنشاء طبقة أرستقراطية، في يدها أزمة المال والحكم، وهدفها تقوية الاتحاد وتثبيت نفوذ الحكومة المركزية.
وكان جفرسون يعمل على نقيض ذلك؛ كان يؤمن بالديمقراطية وسلطة الشعب إيمانا شديدا، ولذلك نراه يرقب سياسة هاملتون وشيعته في حذر وضيق، فلما رأى أنه أوشك أن ينجح جاهر بمخالفته إياه ومضى كل منهما يعمل على شاكلته.
ووقع أول خلاف بينهما ذو بال حين عمل هاملتون على إنشاء مصرف الولايات المتحدة، وكانت حجة هاملتون في إنشائه اجتذاب ذوي المصالح المالية نحو حكومة الاتحاد؛ ومن ثم تكون السلطة المركزية للولايات مهيمنة على الشئون الاقتصادية للجميع، وفي هذا تقوية للاتحاد.
ورأى جفرسون أن الاتحاديين - كما سمي حزب هاملتون - إنما يريدون أن يملئوا الكونجرس بأناس يرعون مصالحهم الاقتصادية قبل كل شيء، فهم موالون للحكومة لارتباطهم بها من أجل أغراضهم، وفي ذلك إفساد للحكم الديمقراطي ليس كمثله إفساد .
وكانت أغلبية الكونجرس في جانب هاملتون، فاحتكم جفرسون إلى الدستور، وكتب كل منهما يؤيد حجته، ولما عرض المشروع على وشنطون لتوقيعه تردد بين الرأيين، ثم وقعه على أن يترك الفصل في حكم الدستور للمحكمة العليا، وجاء قرار تلك المحكمة مؤيدا مشروعية إنشاء المصرف، وتم النجاح للاتحاديين.
وتداعى أشياع جفرسون وسموا أنفسهم الجمهوريين، ثم غيروا اسم حزبهم بعد حين فصاروا يعرفون باسم الجمهوريين الديمقراطيين، ثم اختصر الاسم فأصبح يقال لهم الديمقراطيون.
وثمة نجاح آخر كان من نصيب الاتحاديين؛ فقد فاز مرشحهم لمنصب نائب الرئيس على مرشح الديمقراطيين في الانتخابات الثانية لهذا المنصب، أما الرئيس وشنطون فقد نزل على الرغبة العامة، فرشح نفسه للمرة الثانية وفاز برضاء الحزبين جميعا.
واتجهت أنظار العالمين القديم والجديد إلى ما كان يحدث في فرنسا. ووجد أنصار هاملتون البراهين على ما ينجم من خطر من تطرف الديمقراطية، في حكم الإرهاب بفرنسا، ووصفوه بأنه الفوضى التي يخشونها، وحملوا على الفرنسيين، وهم إنما يحملون بذلك على الديمقراطيين في وطنهم، ووقف يدافع الديمقراطيون عن الديمقراطية، ويمتدحون الفرنسيين، وينددون بالاستبداد، ويعزون هذا الذي سماه الاتحاديون الفوضى إلى ما ذاقه الفرنسيون أحقابا على يد الطغاة المستبدين، واستعرت الحرب الكلامية بين الحزبين، وعلى الأخص حين دخلت إنجلترة التحالف الدولي الأول ضد فرنسا، فقد حبذ فعلها الاتحاديون وأنكره الديمقراطيون أشد الإنكار.
على أن الحزبين قد آزرا الحكومة في حيادها الذي التزمته، وإن رأى جفرسون أنه وإن لم يدع إلى التدخل لمؤازرة فرنسا، فإنه لا يجد ثمة ما يفرض على الأمريكان إخفاء شعورهم نحو الفرنسيين، وإنهم بإخفائهم شعورهم ليظهرون بمظهر ناكري الجميل، فضلا عن تنكرهم لمبادئ ثورتهم التي بذلوا من أجلها ما بذلوا من الأنفس والأموال.
Unknown page