ما لبثت الأسرة أن رأت في عميدها توماس لنكولن ميلا شديدا إلى الرحيل من كنطكي إلى حيث يسهل عليه كسب قوته وقوتها مع اليسير من الجهد، وكان توماس من النفر الذين يضيقون بالجهد والذين يطلبون أكلاف العيش من أيسر سبلها، وما فتئ يذكر لهم اسم ولاية إنديانا مقرونا بالخير والبركة ويزين لزوجه الرحيل إليها.
وذهب فخبرها بنفسه، وعاد يتحدث إلى الأسرة عما رأى؛ فالغابات مليئة بالصيد، والجو جميل، والناس أهل بر ومروءة. وسرعان ما باع توماس لنكولن كوخه والأرض المحيطة به، وأخذ يعد العدة للرحيل.
ولما حزموا متاعهم توجهوا قبل الرحيل إلى بقعة من الأرض قريبة، وهنالك وقفوا جميعا مطرقين، أما الأب فكان يتجلد من أجل امرأته، وأما الأم فقد كانت تتساتل الدموع على وجنتيها، وهي تجهش بين آونة وآونة إجهاشة ينخلع لها قلب الصبي، وترتعد لها أخته فتصرخ فيزيده صراخها ألما وحزنا؛ ففي تلك البقعة دفن الوالدان ابنا ثانيا لهما كان أصغر من «أيب» بعامين، دفناه وقد فارق الحياة ولما يزل في مهده، وما أشد ما ترك ذلك الموقف من أثر في نفس الصبي! وما كان أعظم ألمه كلما ذكر بعد ذلك أنهم تركوا الطفل الدفين في بقعة من الأرض لا يقوم عليها حجر ولا تميزها أية علامة! ومن ذلك اليوم عرف الصبي لأول مرة معنى الحزن وذاق مرارته، وانطوت عليه نفسه التي سوف تنطوي على كثير منه كلما مرت الأيام.
وتوجه المسافرون صوب إنديانا، وقد حملوا متاعهم على جوادين أعدا لذلك، وكان أيب يركب مع أبيه على ظهر أحد الحملين، وتركب أمه وأخته سارا على الآخر، وقضوا في الطريق زهاء أسبوع يشقون في سيرهم الأحراج، ويجتازون بعض مجاري المياه، فإذا جنهم الليل قام عميد الأسرة على حراستهم من دواب الغابة حتى ألقوا رحالهم آخر الأمر في إنديانا بعد أن قطعوا زهاء تسعين ميلا.
الولايات المتحدة
ما هذه الولايات المتحدة التي نتحدث عن غاباتها وأصقاعها البرية؟ وما فصلها في تاريخ هذا الوجود؟
برزت الولايات المتحدة دولة من دول العالم على حين غرة؛ فكان بروزها السياسي شبيها بما يزعمه بعض الجغرافيين عن وجودها المادي؛ إذ يقولون إن أمريكا أو الدنيا الجديدة قد برزت من تحت الماء في حركة من حركات هذا الكوكب الذي نعيش فيه! وما كان بروزها السياسي في الحق إلا حركة من حركات الشعوب في هذا المضطرب الواسع الذي نسميه العالم، حركة لم يكن يظن أحد يوم بدأت أنها بالغة بعد ما بلغته.
سمع الناس في أوروبا قبل أن ترجف الراجفة في فرنسا بسنوات قليلة عن أنباء عجيبة تأتيهم من وراء المحيط؛ سمعوا عن الحرية يرف جناحاها الجميلان، ويتهلل وجهها الأبلج في تلك الربوع الفسيحة التي وجه كولومبس أنظار الدنيا القديمة إليها قبل ذلك بنحو ثلاثة قرون، وسمعوا عن أختها الديمقراطية ترفع علمها، وتشهر سلاح الإيمان واليقين؛ سلاح جان دارك الخالد في وجه الطغيان العبوس المربد؛ وسمعوا عن مراكب من الشاي تقذف حمولتها في البحر وتلتهمها النيران، وسمعوا عن جموع ثائرة تلتقي هنا وهناك هاتفة صاخبة، وعن جنود تحشد خفافا وثقالا، ثم ما لبث الناس في الدنيا القديمة أن علموا أن الحرب دارت رحاها بين إنجلترة وأبناء هاتيك الولايات، وأيقنوا أنها باتت من جانب أبناء الولايات حرب نصر أو فناء. •••
وكانت هذه الولايات قبل حرب الاستقلال مستعمرات جعلت منها العوامل الاقتصادية والاجتماعية قسمين: المستعمرات الشمالية والمستعمرات الجنوبية؛ فكان الاختلاف بين القسمين مرده إلى الفوارق في التربة والمناخ بين الشمال والجنوب ولا دخل هنا للفوارق الجنسية، إذ كان أثرها في هذا التقسيم ضئيلا لا يكاد يكون له وزن؛ لأنها كانت في ذاتها فوارق طفيفة، أو أصبحت بفعل الزمن طفيفة.
وكانت مستعمرة ماري لاند من الوجهة الجغرافية هي الفاصل بين الشمال والجنوب؛ فهي والمستعمرات الواقعة جنوبيها تكون القسم الجنوبي، وما وقع شماليها فهو القسم الشمالي.
Unknown page