ويشتد ضيق الرئيس الجديد وهو لا يستطيع أن يفعل شيئا، وكلما لمح له ما يأمل فيه أن يكون معينا له على أمره سعى إليه ولو بدا أنه غير ذي خطر، ها هو ذا يعلم أن جريلي الصحفي الذي طالما تنكر له من قبل يمر بالمدينة ويقيم بفندق من فنادقها، فلا يستنكف الرئيس أن يذهب إليه بنفسه، وقد رأى منه أنه لم يطلب مقابلته، وقد كان خليقا أن يغضب لقعود هذا الصحفي عن السعي إليه وهو اليوم رئيس الولايات المتحدة، ويمضي الرئيس إلى الفندق فيقابل جريلي ويحاول أن يقنعه بأن يسدي إلى الأمة صنيعا لا ينسى؛ بدعوة أهل الجنوب إلى الرشد وتأييد قضية الرئيس الجديد بقلمه وبما له من صيت ومكانة، ولكن جريلي لا يقتنع. ويخرج الرئيس من عنده وعلامات الأسف على محياه.
وأخذ الرئيس يختار مجلس وزرائه، وقد قرب موعد سفره إلى واشنطون ليحتفل بتلسمه أزمة الحكم، ووقع اختياره أول ما وقع على سيوارد، وقد وقف إلى جانب أبراهام بعد أن رأى من ثباته وعزمه ما لم يتعلق به من قبل وهمه، ورضي سيوارد بادئ الرأي أن يعمل معه في منصب يعادل منصب وزير الشئون الخارجية في الحكومات الحالية، يضاف إلى ذلك أنه كاتم سره ومستشاره وحامل أختامه، وأخذ أبراهام يبحث عن غيره ممن يأنس فيهم الكفاية في مثل هاتيك الشدة.
وكان قد كتب إليه تشيس أحد منافسيه من الجمهوريين عقب فوزه يهنئه ويشير إلى عظم العبء الملقى على عاتقه ويرجو له التوفيق، فاختاره لنكولن أحد وزرائه وقبل هذا بعد أن تدبر في الأمر ثلاثة أشهر.
وقال الرئيس ذات يوم لبعض جلسائه، لو أنه استطاع أن يؤلف مجلس وزرائه من المحامين الذين كانوا يصحبونه في إحدى جولاته القضائية، لأمكن أن يتجنب الحرب، فقال أحد الجالسين: «ولكن أكثرهم كانوا ديمقراطيين.» فأجاب الرئيس: «لأن أعمل مع ديمقراطيين أعرفهم خير لي من العمل مع جمهوريين أنا في جهل من أمرهم.»
وكان يشغل الرئيس في تلك الأيام طالبو المناصب ومتصيدوها ممن يمشون بالزلفى بين يدي كل رئيس جديد، وقد ضاق بهم فندق المدينة، والرئيس يصغي لكل قادم إليه لا يتأفف ولا يضيق به ذرعا مهما ألح ولج في إلحاحه، حتى ليعجب أصدقاؤه من طول صبره وعظيم دماثته، ويظهرون له ألمهم وضجرهم، فيبتسم قائلا إنه لا يستطيع أن يعنف ذا حاجة، وإنه وقد نشأ بين عامة الناس لا يسعه الإفلات منهم أو التكره لهم.
ولكن الرئيس لا يعد أحدا على حساب الصالح العام، ومهما يكن من طول صبره فهو لا يعدو أن يصرف الطالبين بالحسنى، أو يعد من يستحق بإجابة مطلبه متى جاء وقت ذلك، ولا يحب أن يحيل أحدا على مرءوسيه من الموظفين تخلصا منه؛ لأن في هذا التواء لا يتفق مع طبعه.
ويعلن الرئيس أنه لن يبعد عن منصبه أحدا ممن يخالفونه في السياسة، بل إنه ليذهب إلى أبعد من ذلك، فيبدي رغبته في أن يضع في بعض المناصب فريقا ممن كانوا خصوما للحزب الجمهوري إبان المعركة! بل إنه ليود لو جعل من وزرائه رجلين من أهل الجنوب.
ويعجب الناس من أمره هذا كل العجب، فقد جرى العرف أن يختار كل رئيس أعوانه في الحكم من مؤيديه، وأن ينأى بجانبه عن مخالفيه في الرأي وخصومه في السياسة.
وقابل ذات يوم صديقه القديم سبيد، ذلك الرجل الذي آواه عنده يوم أن دخل سبرنجفيلد يريد أن يحترف المحاماة، ومتاعه في جوالق يحمله على ذراعه ولا يجد له مسكنا، والذي توثقت بينه وبين لنكولن عرى الصداقة والمحبة منذ ذلك اليوم، ويسأله الرئيس ضاحكا عن حاله فيفطن سبيد إلى غرضه فيقول له: «أيها الرئيس، يخيل إلي أني أفطن إلى ما تريد أن تقول، إني بخير ولك شكري، فما أظن أني في حاجة إلى أي منصب تريد أن تقدمه إلي.»
وتتندى عينا الرجل العظيم ويبتهج قلبه؛ فها هو ذا سبيد يقدم دليلا جديدا على صدق محبته ونزاهة صداقته.
Unknown page