صمت لحظة ثم أضاف قائلا: «لكن ربما كلمة «شهداء» فيها مبالغة. لنقل قبل موعد وصول المنتحرين المرتقبين. وقد تسبب لهم ذلك بانزعاج شديد. نفذ الإرهابي أو الإرهابية ذلك الهجوم في آخر لحظة. لو كان تأخر ثلاثون دقيقة، كان المسنون سيلقون حتفهم بطريقة أكثر بشاعة مما كان مخططا له. وردت مكالمة هاتفية تحذيرية - بصوت ذكر شاب - لكنها جاءت متأخرة جدا فلم يسعنا إلا إبعاد الحشد عن موقع الحدث.»
قلت: «يا له من إزعاج مثير للحنق. لقد حضرت إحدى فعاليات راحة الموت منذ حوالي شهر. كانت المنصة التي أبحرت منها السفينة حسبما أظن قد نصبت بسرعة نوعا ما. لا أفترض أن ذلك الفعل الإجرامي التخريبي قد أخر الفعالية لأكثر من يوم واحد.» «كما ذكرت يا دكتور فارون، هو مجرد إزعاج بسيط، لكن ربما يكون له دلالة. لقد زاد عدد تلك الإزعاجات البسيطة مؤخرا. وثمة أمر آخر أيضا وهو المنشورات. بعضها يركز على معاملة العمال الوافدين. اضطررنا للجوء إلى القوة لترحيل آخر مجموعة من العمال الوافدين التي تضم أولئك الذين بلغوا الستين أو أقعدهم المرض. وأدى ذلك لوقوع مشاهد مؤسفة عند رصيف الميناء. أنا لا أجزم أن ثمة صلة بين تلك الحادثة وبين المنشورات التي توزع، لكن الأمر قد يكون أكثر من مجرد صدفة بحتة. توزيع منشورات ذات محتوى سياسي بين العمال الوافدين أمر غير قانوني، لكننا نعلم أن تلك المنشورات التحريضية توزع داخل المخيمات. كما وزعت منشورات أخرى على المنازل تتذمر من معاملة العمال الوافدين بصفة عامة، ومن الأوضاع على جزيرة مان، واختبارات الحيوانات المنوية الإلزامية والأمور التي من الواضح أن أولئك المتمردين يرونها تمثل خللا في العملية الديموقراطية. في منشور حديث أدرجوا جميع تلك الأمور التي تثير سخطهم في قائمة مطالب. ربما تكون قد رأيته.»
مد يده وتناول حقيبة الأوراق الجلدية السوداء، وضعها في حجره ثم فتحها. كان يلعب دور الزائر العابر الودود، غير الواثق تماما من سبب زيارته، وكنت أتوقع نوعا ما أن يتظاهر بالبحث ضمن أوراقه قبل أن يعثر على الورقة التي ينشدها. لكنه فاجأني عندما أمسك بها على الفور.
مررها لي وقال: «هل رأيت أحد تلك المنشورات من قبل يا سيدي؟»
نظرت إليها سريعا وقلت: «أجل، رأيتها. دفع بإحداها تحت عقب باب منزلي منذ بضعة أسابيع.» لم يكن ثمة داع للإنكار. فبكل تأكيد تعلم شرطة الأمن الوطني أن المنشورات وزعت على المنازل في شارع سانت جون، فلماذا سيكون منزلي استثناء؟ أعدتها إليه بعد أن أعدت قراءتها. «هل تلقى أي أحد آخر من معارفك واحدا منها؟» «على حد علمي لا. لكني أتصور أنها وزعت حتما على نطاق واسع. لم أهتم كثيرا بسؤال أحد عنها.»
تفحصها رولينجز بنظره وكأنما يراها لأول مرة. ثم قال: ««السمكات الخمس». اسم حاذق لكن ليس ذكيا. أفترض أننا نبحث عن جماعة صغيرة من خمسة أشخاص. خمسة أصدقاء، أو خمسة أفراد من عائلة واحدة، أو خمسة زملاء عمل، أو خمسة متآمرين. ربما استوحوا تلك الفكرة من مجلس إنجلترا. ألا تتفق معي يا سيدي أن ذلك عدد مفيد؟ فهو يضمن وجود أغلبية دائما في أي مناقشة.» لم أرد، فتابع قائلا: ««السمكات الخمس». أتصور أن لكل منهم اسم حركي ربما يكون مستمدا من أول حرف من اسمه الأول؛ بحيث يسهل على الكل تذكره. مع أن حرف الألف سيكون صعبا. فأنا لا يحضرني الآن اسم سمكة يبدأ بحرف الألف. ربما لا يبدأ اسم أي منهم بحرف الألف. لديهم البلطي يبدأ بحرف الباء، والتونة بحرف التاء، والثاء ليس صعبا؛ فهناك سمك الثعبان. الجريث سيكون ملائما لحرف الجيم. أما الحاء فقد يمثل صعوبة. لكن ربما أكون مخطئا، فأنا أحسب أنهم لم يكونوا ليختاروا اسم «السمكات الخمس» إن لم يكن بإمكانهم أن يجدوا أسماء سمكات يتماشى مع اسم كل عضو من أعضاء العصابة. ما رأيك في ذلك يا سيدي؟ أقصد عملية الاستدلال المنطقي تلك.»
قلت: «أراها عبقرية. من المشوق رؤية منهجيات تفكير شرطة الأمن الوطني وهي تطبق على أرض الواقع. فهذه فرصة لم تتسن إلا لقلة من المواطنين، على الأقل قلة من المواطنين المتمتعين بحريتهم.»
بدا وكأنه لم يسمع ما قلت. تابع تفحص المنشور بنظره، ثم قال: «هذه سمكة. وهي مرسومة بإتقان. لم يرسمها فنان محترف حسبما أظن، بل رسمها شخص لديه حس تصميم جيد؛ فالسمكة رمز مسيحي. أتساءل إن كان من الممكن أن تكون تلك الجماعة جماعة دينية مسيحية.» ثم رفع بصره إلي وقال: «إذن أنت تعترف أنه كان بحوزتك إحدى تلك المنشورات يا سيدي لكنك لم تتخذ أي إجراء بخصوص ذلك؟ ألم تشعر أن من واجبك الإبلاغ عن الأمر؟» «عاملت المنشور كما أعامل جميع رسائل البريد غير المهمة وغير المرغوب فيها.» حينها شعرت أن الوقت قد حان كي أبادر أنا بالهجوم، فقلت: «عذرا أيها المفتش الأول، لكني لا أفهم ما الذي يثير قلق المجلس بالضبط. لا يخلو أي مجتمع من الناقمين. ومن الواضح أن تلك الجماعة بالتحديد لم تتسبب في أذى كبير عدا تفجير بضع منصات ركوب مؤقتة ضعيفة وتوزيع منشورات تتضمن نقدا غير متمعن للحكومة.» «قد يصف البعض تلك المنشورات بأنها مواد تحريضية يا سيدي.» «سمها ما شئت، لكنك بالكاد تستطيع رفع ذلك الأمر لمرتبة المؤامرة الضخمة. بكل تأكيد لن تحشد شرطة الأمن الوطني فرقها لأن بضعة ناقمين يشعرون بالملل يفضلون تسلية أنفسهم بممارسة لعبة أخطر من الجولف. فما الذي يثير قلق المجلس بالضبط؟ إن كان يوجد جماعة منشقة بالفعل، فستكون أعمار أعضائها صغيرة إلى حد ما، أو على الأقل سيكونون في منتصف عمرهم. لكن الزمن سيدركهم كما سيدركنا جميعا. هل نسيت الأرقام؟ لا ينفك مجلس إنجلترا يذكرنا بها. فقد انخفض تعداد السكان من ثمانية وخمسين مليونا عام 1996 إلى ستة وثلاثين مليونا هذا العام، منهم 20 بالمائة أعمارهم فوق السبعين. جنسنا في طريقه إلى الفناء أيها المفتش الأول. النضج والهرم يطفئ أي حماسة، حتى حماسة المؤامرة المغوية. لا يوجد أي معارضة حقيقية لحاكم إنجلترا. وتلك هي الحال منذ أن تولى السلطة.» «من واجبنا يا سيدي أن نتأكد من ذلك.» «بالطبع ستفعل ما تراه ضروريا. لكني سآخذ ذلك على محمل الجد فقط إن كنت أعتقد أنه جدي بالفعل؛ كأن يكون معارضة منبثقة ربما من داخل المجلس نفسه لسلطة الحاكم.»
كان تلفظي بتلك الكلمات مخاطرة محسوبة وربما حتى خطيرة، لكني رأيت أنها أربكته. وكان ذلك هو مقصدي.
بعد لحظة من الصمت العفوي، الذي لم يكن محسوبا، قال: «إن كان يوجد أي شك في ذلك، فلن يكون الأمر بيدي يا سيدي. سيتعامل معه على مستوى أعلى كليا.»
Unknown page