قالت كأنما تفكر في خطة جدية: «ربما إن خطط بضعة أشخاص أو مجموعة صغيرة من الأصدقاء، أن ينفوا إلى الجزيرة معا، فقد يستطيعون فعل شيء لتغيير الأوضاع هناك. أو إن عرضنا أن نذهب إلى هناك طواعية، فلماذا سيمنعنا الحاكم، لماذا سيهتم؟ فحتى مجموعة صغيرة من الأشخاص قد تمد يد العون إن ذهبت بدافع المحبة.»
قال ثيو وهو يسمع نبرة استخفاف في صوته: «تريدون رفع صليب المسيح في وجه سكان الجزيرة الهمجيين كما فعل المبشرون في أمريكا الجنوبية، كي تقتلوا بوحشية على الشواطئ، كما حدث معهم؟ ألا تقرءون التاريخ؟ لا يوجد إلا سببان للإقدام على مثل تلك الحماقة. أحدهما هو أنكم تتوقون إلى نيل الشهادة. وهذا ليس بالجديد ما دام دينك يدعو إلى ذلك. طالما اعتبرت ذلك مزيجا من الماسوشية واللذة الحسية لكني أجده يروق لبعض الاتجاهات الفكرية. لكن الجديد في الأمر هو أن ذكرى استشهادكم لن تخلد ولن يلحظه أحد حتى. وخلال بضعة وسبعين عاما، لن يكون له أي قيمة لأنه لن يبقى أحد على وجه الأرض ليمنحه قيمة، ولا حتى ليبني ضريحا صغيرا على جانب الطريق لشهداء أكسفورد الجدد. السبب الثاني أكثر دناءة وسيتفهمه زان جدا. إن نجحتم في مسعاكم، فيا للسلطة العظيمة التي ستحظون بها ! سيعم السلام على جزيرة مان، ويعيش المجرمون العنيفون في سلام، وستزرع المحاصيل وتحصد، ويتلقى المرضى الرعاية، وتقام قداسات الأحد في الكنائس، وسيقبل المنقذون أيدي القديسين الأحياء الذين جعلوا كل ذلك ممكنا. حينها ستعرفون شعور حاكم إنجلترا في كل لحظة في صحوه، الشعور الذي يتلذذ به ولا يستطيع التخلي عنه. شعور أن تحظوا بالسلطة المطلقة داخل مملكتكم الصغيرة. أتفهم أن ذلك مغر، لكنه لن يتحقق.»
وقفا صامتين لبرهة، ثم قال برفق: «انسوا الأمر. لا تهدروا ما تبقى من حياتكم في سبيل قضية مستحيلة لا طائل منها. سوف تتحسن الأوضاع. في خلال خمسة عشر عاما - وهذا ليس بالزمن الطويل - ستكون أعمار 90 بالمائة من سكان إنجلترا قد تعدت الثمانين. ولن تعود لديهم طاقة للشر أكثر من طاقة الخير التي ستكون لديهم. تخيلي كيف ستصبح إنجلترا حينها. ستكون المباني الضخمة خاوية وساكنة، والطرق متروكة دون صيانة، تمتد بين حواجز كستها النباتات البرية، والمتبقون من البشرية سيتجمعون معا في مكان واحد بحثا عن الراحة والأمان، ثم ما تلبث أن تتداعى الخدمات التي تقوم عليها الحضارة، وفي النهاية تنقطع الطاقة والإنارة. حينها ستضاء الشموع التي يكتنزها الناس ثم ما تلبث أن تخبو وتنطفئ. ألا يجعل ذلك ما يحدث في جزيرة مان يبدو ضئيل الأهمية في نظرك؟»
قالت: «إن كنا سنموت فالأفضل لنا أن نموت بشرا وليس شياطين. وداعا، وشكرا لأنك قابلت الحاكم.»
لكنه شعر بضرورة أن يقوم بمحاولة أخيرة. فقال: «لا أستطيع تصور جماعة تفوقكم في عدم جاهزيتها لمواجهة جهاز الدولة. ينقصكم المال والموارد والتأثير والدعم الشعبي. وليس لديكم حتى فلسفة متسقة للثورة. فميريام تفعل ذلك من أجل الانتقام لأخيها. وجاسكوين يفعل ذلك، على ما يبدو؛ لأن الحاكم أهان اسم فرقة حرس الجرينادير. ولوك يفعله بدافع من مثالية مسيحية غير واضحة المعالم، ولأجل أفكار مجردة مثل الرحمة والعدل والحب. ورولف لا يمتلك حتى مبررا أخلاقيا. فدافعه هو الطموح؛ فهو ناقم على الحاكم لتمتعه بالسلطة المطلقة التي يريدها لنفسه. وأنت تفعلين ذلك لأنك متزوجة من رولف. وهو يدفع بك إلى ذلك الخطر المريع لأجل إشباع طموحه. لا يحق له أن يرغمك على ذلك. اتركيه. تحرري منه.»
قالت برفق: «لا أملك إلا أن أكون متزوجة به. لا أستطيع تركه. وأنت مخطئ، فليس ذلك هو السبب. أنا معهم لأن ذلك هو ما يجب علي فعله.» «أجل، لأن رولف يريد منك ذلك.» «كلا، لأن الرب يريد مني ذلك.»
شعر برغبة في أن يرطم رأسه بقاعدة الطوطم من فرط خيبة أمله. «إن كنت تؤمنين بوجوده، فمن المفترض أنك تؤمنين بأنه منحك عقلك وذكاءك، فاستخدميهما. كنت أحسب أنك تملكين من عزة النفس ما يمنعك من أن تجعلي من نفسك أضحوكة.»
لكنها لم تتأثر بمحاولات التملق السطحية تلك. قالت: «لا يتغير العالم على يد الأنانيين بل على يد رجال ونساء لديهم استعداد لأن يجعلوا من أنفسهم أضحوكة. وداعا يا دكتور فارون. وشكرا لك على المحاولة.» استدارت دون أن تلامسه وشاهدها تغادر.
لم تطلب منه ألا يخونهم. لم تكن بحاجة لأن تطلب منه ذلك، لكنه كان سعيدا لأنها لم تنطق بتلك الكلمات. ولم يكن بإمكانه أن يعد بذلك. لم يكن يصدق أن زان سيقبل بتعريضه للتعذيب، لكن بالنسبة له كان مجرد التهديد بالتعذيب كافيا، وأدرك للمرة الأولى أنه ربما يكون قد أساء الحكم على زان لأسباب غاية في السذاجة؛ وهي أنه لا يصدق أن رجلا يملك ذكاء شديدا وحس فكاهة وجاذبية، رجلا يعتبره صديقه، يمكن أن يكون شريرا. ربما كان هو من يحتاج إلى درس في التاريخ وليس جوليان.
الفصل الخامس عشر
Unknown page