كانت تحدق بهم أخطار أخرى أيضا، وسيطر عليهم أكبر مخاوفهم. فلم يكن ثمة سبيل لمعرفة متى غادرهم رولف فعليا. إن كان قد وصل إلى زان، فقد يكون البحث عنهم قد بدأ، وسيكونون قد بدءوا في نصب حواجز الطرق في مواضعها، وأخرجوا الطائرات المروحية من مستودعاتها وملئوها بالوقود في انتظار بزوغ الفجر. كانت الطرق الجانبية الضيقة الملتوية التي تحدها أسوار من الشجيرات غير المشذبة التي يطوحها الهواء، والأسوار المهدمة المبنية بالحجارة دون ملاط هي، ربما على نحو غير عقلاني، أملهم الوحيد في الأمان. كجميع المخلوقات المطاردة، كانت غريزة ثيو تدفعه لأن يسلك طرقا ملتوية ومتعرجة، وأن يتوارى عن الأنظار ويستتر بالظلام. لكن كان للجادات الريفية أيضا مخاطرها. فقد اضطر أربع مرات لأن يضغط دواسة المكابح بغتة بحدة ويتراجع بالسيارة قبل مقطع من الطريق تشقق فيه الأسفلت فصار غير صالح للسير عليه. في إحدى المرات، بعد الساعة الثانية بقليل، كادت تلك المناورة أن تؤدي إلى عواقب كارثية. فقد انزلقت العجلتان الخلفيتان إلى حفرة، واستغرق إخراجها نصف ساعة قبل أن تنجح جهوده هو وميريام في إعادة السيارة السيتزن إلى الطريق مرة أخرى.
تذمر من عدم وجود خرائط، لكن بمرور الوقت بدأت قاعدة السحب تنقشع لتظهر وراءها بوضوح مجموعات النجوم فرأى لطخة الضوء التي تمثل مجرة درب التبانة وبدأ يستدل على الاتجاهات بكوكبة الدب الأكبر والنجم القطبي. لكن تلك المعرفة القديمة كانت لا تعدو كونها حسابات غير دقيقة لطريقه، فكان طوال الوقت معرضا لخطر أن يضل الطريق. من وقت لآخر، كانت تطل من الظلام لافتة استرشادية بوضوح كمشنقة من القرن الثامن عشر، فكان يترجل ويسير بحرص نحوها على الطريق المتكسر، وهو يتوقع أن يسمع قعقعة السلاسل ويرى جسدا ذا رقبة ممدودة يتلوى ببطء، بينما يحاول بدائرة الضوء الضيقة للكشاف، التي كانت تبدو كعين باحثة، تبين أسماء القرى غير المعروفة المدونة عليها. كانت الليلة قد اشتدت برودة، ولاحت بادرة برد الشتاء القارس؛ فقد لفح الهواء، الذي لم يعد معبقا برائحة العشب ودفء الشمس، أنفه برائحة حادة تشبه رائحة مطهر باهتة، وكأنما اقتربوا من البحر. في كل مرة كان يطفئ فيها المحرك، كان يعم صمت مطبق. بينما كان يقف تحت لافته إرشادية تحمل أسماء تبدو وكأنها كتبت بلغة أجنبية، شعر بالتيه والغربة، وكأن تلك الحقول المظلمة المنعزلة والتراب تحت قدميه، وهذا الهواء الغريب عديم الرائحة، لم يعودوا موطنه الطبيعي، وكأنه لم يعد لجنسه المعرض للانقراض موطن ولا مكان آمن تحت تلك السماء اللامبالية.
بعد أن بدأت الرحلة بقليل، تباطأت أعراض المخاض لدى جوليان أو توقفت. قلل هذا من توتره؛ فالتأخير لم يعد كارثيا وصار بإمكانه أن يمنح الأولوية للأمان على حساب السرعة. لكنه كان يعرف أن التأخير كان يثير جزع المرأتين. وخمن أن أملهما الآن في الهروب، لأسابيع، أو حتى لأيام، من الوقوع في قبضه زان كان، كأمله، ضئيلا. إن كان المخاض مجرد إنذار كاذب، أو إن طالت مدته، فقد يقعون في قبضته قبل حتى أن يولد الطفل. من آن لآخر، كانت ميريام تميل للأمام لتطلب منه بهدوء أن يتوقف على جانب الطريق كي تنزل هي وجوليان لتتمشيا. وكان يخرج هو أيضا من السيارة ويتكئ عليها ليراقب ظليهما الداكنين وهما يتمشيان جيئة وذهابا على حافة الطريق، وكان يسمع صوتيهما الهامسين، ويدرك أنهما بعيدتان عنه بأكثر من مجرد بضع ياردات من طريق ريفي، وأنهما تتشاركان قلقا عظيما لا تشركانه به. لم تهتما كثيرا بالطريق؛ أو بالحوادث العرضية التي كانت تقابلهم أثناء الرحلة. فكل ذلك، حسبما استشف من صمتهما، كان شأنه هو.
لكن بحلول الصباح الباكر، أخبرته ميريام بأن انقباضات جوليان قد بدأت من جديد، وأنها قوية. لم تستطع إخفاء نبرة الانتصار في صوتها. وقبل مطلع الفجر، أدرك بالضبط أين هم. فآخر لافتة كانت تشير باتجاه تشيبينج نورتون. وقد حان الوقت لترك الجادات المتعرجة والمخاطرة بقطع البضعة الأميال الأخيرة على الطريق الرئيسي.
على الأقل صار سطح الطريق أفضل. ولم يعد ثمة داع لأن يقود وهو يخشى دوما من أن يثقب الإطار مرة أخرى. لم تمر بهم أي سيارة أخرى، وبعد أن قطع أول ميلين، استرخت يداه المتوترتان على مقود السيارة. كان يقود بسرعة لكن بحذر، متلهفا للوصول إلى الغابة دون أي تأخير. كان مؤشر الوقود قد بدأ يهبط لمقياس حرج، ولم يكن أمامه أي سبيل آمن للتزود بالوقود. أدهشه قصر المسافة التي قطعوها منذ أن بدءوا رحلتهم من سواينبروك. فقد خيل إليه أنهم يقطعون الطريق منذ أسابيع؛ كمسافرين متعبين مشئومين بلا زاد. كان يعرف أن ليس بيده ما يفعله لتجنب الوقوع في الأسر خلال تلك الرحلة التي من المؤكد أنها ستكون الأخيرة. إن صادفوا أحد حواجز الطريق التابعة لشرطة الأمن الوطني فلن يكون لديهم أي أمل في التملص منهم بالمماطلة أو المجادلة؛ فشرطة الأمن الوطني ليست مثل عصابة ذوي الوجوه المطلية. لم يكن أمامه سوى الاستمرار في القيادة والتمسك بالأمل.
من آن لآخر، كان يخيل له أنه سمع صوت لهاث جوليان وصوت ميريام تتمتم بعبارات طمأنة بصوت منخفض، لكنهما لم تتكلما إلا قليلا. بعد حوالي ربع ساعة، سمع ميريام تتحرك في الخلف ثم سمع صوت وقع شوكة منتظم على شيء خزفي. ناولته كوبا. «لقد احتفظت بالطعام حتى تلك اللحظة. جوليان تحتاج إلى كامل قواها أثناء الولادة. لقد خفقت البيضات مع الحليب وأضفت إليهم السكر. تلك حصتك، ولي مثلها. والباقي لجوليان.»
كان الكوب ممتلئا حتى ربعه فقط وعادة كان سيشمئز من ذلك المزيج المخفوق الحلو. لكنه الآن كان يتجرعه بنهم، ويرغب في المزيد، وعلى الفور أحس بمفعوله المقوي. أعاد إليها الكوب فأعطته قطعة بسكويت مدهونة بالزبد وفوقها شريحة من الجبن الصلب. في حياته لم يستشعر حلاوة طعم الجبن كما استشعرها الآن.
قالت ميريام: «اثنان لكل منا، وأربعة لجوليان.»
احتجت جوليان. «يجب أن نتقاسمها بالتساوي.» لكن شهقة ألم قطعت كلمتها الأخيرة.
سأل ثيو: «ألن تحتفظي بشيء منه.» «من ثلاثة أرباع علبة بسكويت ونصف رطل من الجبن؟ نحن بحاجة إلى قوانا الآن.» زاد البسكويت الجاف والجبن من ظمئهم فأنهوا الوجبة بشرب الماء من الإناء الصغير.
Unknown page