حقوق النبي الكريم علينا
يا من تقدمون العقول على صريح وصحيح المنقول، أذكركم بقول ابن القيم ﵀: لا يستقل العقل دون هداية بالوحي تأصيلًا ولا تفصيلا كالطرف دون النور ليس بمدرك حتى يراه بكرة وأصيلا نور النبوة مثل نور الشمس لعين البصيرة فاتخذه دليلا فإذا النبوة لم ينلك ضياؤها فالعقل لا يهديك قط سبيلا طرق الهدى محدودة إلا على من أم هذا الوحي والتنزيلا فإذا عدلت عن الطريق تعمدًا فاعلم بأنك ما أردت وصولا يا طالبا درك الهدى بالعقل دو ن النقل لن تلقى لذاك دليلًا فيجب علينا أن نصدق رسول الله وإن لم تستوعب عقولنا ما أخبر به الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، ولنعلم يقينًا أنه ما دام يبلغ عن الله، فكل ما يبلغه عن ربه صدق وحق، وأنه علم اليقين الذي لا مجال للشك فيه على الإطلاق، فمن حق النبي ﷺ أن نصدقه في كل ما أخبر به عن ربه جل وعلا.
ومن أعظم حقوق النبي ﷺ علينا: ألا نقدم أقوالنا ولا أفهامنا على قول وفعل الصادق رسول الله ﷺ.
وأود أن أبين لإخواني أننا لا نريد بذلك أن نقلل من شأن العقل إطلاقًا، بل إن نور الوحي لا يطمس نور العقل أبدًا، بل يباركه ويزكيه ويقويه، بشرط أن يعرف العقل حده، وأن يعرف العقل دوره، وألا يتخطى العقل مجاله، فأنت لا تستطيع أن تقدم فهمك على فهم أستاذك! بل تستحي من ذلك، ولا تجرؤ أن تقدم قولك على قول والدك إن كنت ممن يحترم الوالد، لا يمكن لمرءوس أن يقدم قوله على قول رئيسه؛ فكيف يجرؤ أحدنا أن يقدم قوله على قول درة تاج الجنس البشري كله محمد ﷺ وقد أخبر ربنا ﵎ أنه لا ينطق عن الهوى؟ كيف ندعي حب لله وندعي الحب لسيدنا رسول الله ﷺ، ثم نقدم أقوالنا على قوله، ونقدم أفهامنا على فهمه، ونقدم أفعالنا على فعله؟! هذا لا يجوز، تدبر معي قول الله جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحجرات:١] هذا نداء لأهل الإيمان، وإذا سمعت في القرآن الكريم كله قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا) فأرعها سمعك، فهذا النداء إما خير سيأمرك به وإما شر سينهاك عنه.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الحجرات:١]، ما معنى هذه الآية؟ قال ابن عباس ﵄: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) أي: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة، اعرض قولك وفعلك على القرآن والسنة، هل قولك موافق لقول الله؟ هل قولك موافق لقول الصادق رسول الله؟ هل فعلك موافق لفعل الصادق رسول الله ﷺ؟ إن قدمت قولك على قول الله، وقدمت قولك وفعلك على قول وفعل رسول الله؛ فقد خالفت القرآن والسنة! قال مجاهد -وهو إمام من أئمة التفسير- في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي: لا تفتاتوا على رسول الله ﷺ حتى يقضي الله على لسانه، وقد صرنا في هذا الزمان نرى فيه كل أحد يفتي في دين الله! مع أنه في الوقت ذاته لو قلت له: يا فلان! نريد منك أن تجري جراحة لهذا المريض في القلب، يقول: لا، أنا لست طبيبًا، بل لو كان طبيبًا لقال: أنا طبيب، لكنني لست متخصصًا في جراحة القلب، ولو قيل لآخر: يا فلان! صمم لنا هذا المسجد تصميمًا هندسيًا وإنشائيًا، سيقول لك: لا، أنا لست مهندسًا، هذا ليس من تخصصي، لكنك ترى وتسمع كل أحد يتكلم في دين الله بغير دليل وبغير علم.
إن كنت تحفظ دليلًا من القرآن والسنة بفهم الصحابة والسلف الصالح فبين الحق بدليله، فالإسلام ليس فيه كهنوتية، فكل من يحسن أن يتكلم عن الله وعن رسول الله بفهم السلف الصالح رضوان الله عليهم من أصحاب النبي ومن سار على طريقهم فليبين الحق بالدليل من كتاب الله ومن كلام الصادق رسول الله ﷺ، لكن أن يتقدم كل أحد ليتكلم في دين الله بغير علم وبغير دليل، فهذا لا يليق في دين الله ﵎.
جاء رجل إلى عبد الله بن عمر ﵄ فسأله في مسألة، فقال عبد الله بن عمر: والله إني لا أحسن جواب مسألتك، فقال السائل: أنت ابن عمر وتقول: لا أحسن جواب مسألتك؟! قال: نعم يا أخي! اذهب إلى العلماء فاسألهم، فوالله لا أحسن جواب مسألتك، فانطلق السائل متعجبًا، فلما انصرف السائل قبّل عبد الله بن عمر يد نفسه، ثم قال لنفسه: نِعْم ما قال أبو عبد الرحمن، سئل عما لا يدري فقال: لا أدري.
وقال الإمام القرطبي في كتابه الماتع الجامع لأحكام القرآن الكريم في تفسير قول رب العالمين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ): أي لا تقدموا قولًا على قول الله، ولا قولًا أو فعلًا على قول وفعل رسول الله، فإن من قدم قوله أو فعله على قول وفعل رسول الله، فإنما قدمه على الله؛ لأن الرسول لا يأمر إلا بما أمر به الله ﷿.
أولم يقل ربنا ﵎: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الحشر:٧]؟ أولم يقل ربنا ﵎: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الحاقة:٣٨-٤٣]؟ أولم يقل ربنا جل وعلا في شأنه وحقه ﷺ: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة:٤٤-٤٧]؟ فمن حق سيد النبيين ﷺ علينا ألا نقدم فهمنا وعقلنا وقولنا وفعلنا على فهمه وقوله وفعله، بل إن سوء الفهم عن الله جل وعلا وعن رسول الله ﷺ أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام قديمًا وحديثًا، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: وهل أوقع القدرية والمرجئة والخوارج والمعتزلة والروافض وسائر طوائف أهل البدع فيما وقعوا فيه إلا سوء الفهم عن الله ورسوله ﷺ؟ فنسأل الله ﷿ أن يفهمنا وأن يعلمنا، وأن يردنا إلى سنة نبيه المصطفى ردًا جميلًا، إنه على كل شيء قدير.
6 / 6