فشكره أيضا مداريا تأففه؛ لأنه كان يستكره وجهه الصغير المستدير، ولما أن خلا المكان تنهد من صدر ضعيف، وقال بصوت لا يكاد يسمع: «كلاب .. كلهم كلاب .. عضوني بعيونهم الحاسدة!» وراح يطارد أشباحهم في مخيلته لينقي صدره مما استثاره من حنق وغيظ وتأثر، ولم يترك لخلوته طويلا، فجاءه كامل أفندي إبراهيم وكيله ومثل بين يديه، وسرعان ما نسي بمجيئه كل شيء إلا الحساب والمراجعة، وقال له باقتضاب: الدفاتر.
وهم الرجل بالتحرك؛ ولكنه استوقفه فجأة كأنما تذكر أمرا هاما، وقال له بلهجة آمرة: نبه الجميع إلى أني من الآن فصاعدا، لا أحب رائحة تدخين (كان التدخين قد حرم عليه بأمر الطبيب)، وخبر إسماعيل بأنني إذا طلبت إليه ماء أن يهيئ لي قدحا نصفه ماء عادي والنصف الآخر ماء دافئ .. التدخين في الوكالة ممنوع منعا باتا، والدفاتر بسرعة.
وذهب الوكيل لإبلاغ الأوامر الجديدة، متذمرا في باطنه؛ لأنه كان من مدمني التدخين. ثم عاد بعد قليل حاملا الدفاتر، ولم يغب عنه ما ترك المرض في طبع السيد من تغير وتبدل، فركبه الهم، وأيقن أنه مقبل على حساب عسير. وجلس كامل أفندي قبالة السيد، وفتح الدفتر الأول، وبسطه بين يديه، فبدأت المراجعة. كان السيد في عمله محيطا ماهرا لا تفوته فائتة وإن دقت، فأكب على مراجعة الدفاتر دفترا دفترا بهمة لا تكل ولا تمل، غير راحم نفسه المتهالكة، وقد اتصل في أثناء ذلك ببعض عملائه متحققا من مواعيد حضورهم، مطابقا بين أقوالهم وبين المدون في الدفاتر، وكامل أفندي صابر متجهم لا يخطر له الاحتجاج على بال. ولم تكن المراجعة بالشيء الوحيد الذي يتابعه بأفكاره، فكان ينوء صامتا بأمر تحريم التدخين الذين استصبح به على غرة، وهو أمر لم يحرم عليه التدخين في الوكالة فحسب، ولكنه أضاع عليه في الوقت نفسه ما كان يتفضل السيد بتقديمه له من سجائر كوتاريللي الفاخرة. وقد رمق الرجل المكب على الدفاتر بنظرات غريبة، وقال لنفسه متكدرا ساخطا: «رباه .. لشد ما تغير الرجل، هذا شخص غريب لا يعرفه!» وعجب لشاربه الذي احتفظ به رغم هذا التغير بضخامته وفخامته في وجه طمست سماته ومعالمه، وعفى عليها المرض الخطير فكأنه نخلة سامقة في صحراء جرداء .. وأخرجه الحنق والاستياء عن طوره فقال مخاطبا نفسه: «من يدري؟ .. لعله يستأهل ما نزل به، إن الله لا يظلم أحدا.» وانتهى السيد من المراجعة في زهاء ثلاث ساعات، فرد الدفاتر إلى الوكيل، وهو يحدجه بنظرة غريبة؛ نظرة مراجع لم يعثر على ما يريبه، ومع ذلك فلا يخلو من الريب. وجعل يخاطب نفسه قائلا: «سأعاود المراجعة مرة أخرى، لا بل مرات، حتى أكشف عما تبطن هذه الدفاتر، كلهم كلاب .. بيد أنهم أخذوا عن الكلاب نجاستها، وزهدوا في أمانتها!» ثم خاطب الوكيل قائلا: لا تنس ما نبهتك إليه يا كامل أفندي: رائحة التدخين والماء الدافئ.
وجاء بعد ذلك بعض العملاء من الخواجات فهنئوه بالسلامة، ثم خاضوا فيما لديهم من الأعمال، وقد أراد بعضهم أن يؤجل عمله تخفيفا عنه، ولكنه قال باستياء: لو كنت عاجزا عن العمل ما جئت الوكالة.
وما كاد يخلو إلى نفسه حتى استبدت به أفكاره الناقمة الموتورة، فراح يصب غضبه - كديدنه في هذه الأيام الأخيرة - على الناس أجمعين. ولطالما قال عنهم إنهم حسدوه، وإنهم نفسوا عليه الصحة والوكالة والحنطور وصينية الفريك، فلعنهم من أعماق الفؤاد. وكثيرا ما كان يردد هذه الظنون في أثناء مرضه، ولم تنج زوجه نفسها من شر ظنونه، فحدجها يوما بنظرة شزراء، وهي تجلس إلى جانب فراشه وقال لها بصوت يتهدج ضعفا وسخطا: وأنت يا ست لك نصيبك من هذا، فطالما دوختني بقولك: إن أيام الصينية انتهت، وكأنك تنفسين علي صحتي، فالآن كل شيء انتهى، فقري عينا.
وقد تأثرت المرأة لقوله واستعبرت طويلا، ولكنه لم يرق لها، ولم يلن من حدته، واستدرك يقول مغيظا محنقا: حسدوني .. حسدوني، حتى زوجتي وأم أبنائي قد حسدتني.
ولكن إذا كان زمام الحكمة قد أفلت من يديه، فقد كان الموت قبل ذلك تخايل لعينيه غير بعيد. وإن ينس لا ينس تلك الساعة المروعة المزلزلة ساعة الأزمة؛ كان يتهيأ للهجوع حين أحس بنغصة تصدع لها صدره، وشعوره بحاجة ماسة إلى تنفس عميق، ولكن عجز عن الشهيق والزفير، وكان كلما عاود المحاولة حزه الألم وقطعه الوجع، حتى استسلم في قنوط وعذاب مريرين. وجاء الطبيب وتجرع العقاقير، ولكنه لبث أياما يراوح بين يقظة الحياة وغيبوبة الموت. وكان إذا رفع جفنيه المتعبين الثقيلين رأى ببصر زائع زوجته وبناته وأبناءه محدقين به، محمرة أعينهم من البكاء. وهوى إلى تلك الحالة الغريبة التي يفقد الإنسان فيها كل إرادة على جسده وعقله، فيلوح له العالم سحابة دكناء من ذكريات غامضة متقطعة لا تبين ولا تكاد تربط بينها رابطة.
وفي اللحظات القليلة التي استرد فيها شيئا من وعيه يتساءل في رجفة باردة: «هل أموت؟!» أيموت وحوله الأهل جميعا؟! ولكن الإنسان لا يفارق الدنيا عادة إلا منتزعا من أيدي أحبائه، فماذا أفاد الأموات تعلق الأحباء بهم؟! ورغب ساعتئذ أن يدعو الله وأن يتشهد، فخانه ضعفه، وتصاعد الدعاء والشهادة حركة باطنية ابتل بها ريقه الجاف. ولم ينسه إيمانه - على رسوخه - أهوال تلك الساعة، فاستسلم جسمه على رغمه. أما روحه، فتعلقت بأهداب الحياة في فزع وجزع، حتى سحت عيناه دمعا مدرارا ونطقت نظرتهما بالاستصراخ والاستغاثة، ولكن كان في الأجل بقية، فجاز طور الخطر، وبلغ بر النقاهة، ورجع إلى أحضان الحياة رويدا رويدا، ومنى نفسه باسترداد صحته وعافيته وسابق سيرته. ولكن تحذيرات الطبيب ووصاياه اهتصرت أمنيته، وقضت على أمله، ولم تبق له من الحياة إلا على شيء يسير. أجل، أجل، نجا من الموت، ولكنه انقلب شخصا جديدا ذا جسم رقيق وروح مريض، وبكرور الأيام استفحل مرض روحه فصار ضجرا وتمردا وكراهية وعبوسا. وقد عجب لهذه العثرة التي اعترضت سبيل حظه، وتساءل: بأي ذنب آخذه الله سبحانه؟ وكان ذا ضمير من هذه الضمائر الراضية التي تقيم الأعذار لأصحابها وتحسن مسالكهم، وتغضي عن أخطائهم، وكان يحب الحياة حبا جما، فتمتع بماله ومتع به آله، والتزم - فيما يظن - حدود الله، فاطمأن بذلك إلى الحياة اطمئنانا عميقا، حتى انتبه منه على هذه الهزة العنيفة التي ذهبت بصحته، وأوشكت أن تذهب بعقله .. ما ذنبه؟ .. لا ذنب له، ولكنهم الناس غرماؤه هم الذين أوردوه بحسدهم هذا العطب الأبدي! وهكذا أمر من نفسه ما كان حلوا، وارتسم على جبينه عبوس لا يريم. والحق أن ما فقد الرجل من صحته لم يكن سوى شيء يسير بالقياس إلى ما فقد من أعصابه.
وقد تساءل وهو جالس إلى مكتبه في الوكالة: أحقا لم يبق له من الحياة إلا أن يقبع في هذا المكان ويراجع الدفاتر؟! وتراءى له وجه الحياة أشد تجهما من وجهه. وجمد كالتمثال، ومضى وقت لا يدريه وهو غارق في أفكاره، حتى سمع حسا عند مدخل الوكالة، فالتفت نحوه فرأى أم حميدة مقبلة بوجهها المجدور، ولاحت في عينيه نظرة غريبة، فسلم، وأنصت بربع انتباه إلى دعاء المرأة وترحيبها، وقد شغلته الذكريات القديمة عما عداها.
أليس من العجيب أن ينسى حميدة كأنها شيء لم يكن؟! لقد طافت به ذكراها في نقهه مرات، ومرت به دون أن تترك أثرا. لم يأسف عليها بمثل ما طمح إليها، ثم أنسيها بعد ذلك كأنها شيء لم يكن، أو كأنها كانت نقطة في دم الصحة الذي كان يجري في عروقه، فلما أن غاب ونضب تطايرت في الهواء، وغابت من عينيه النظرة الغريبة التي رسمتها الذكريات، وعاد بصره إلى جموده، فشكر للمرأة حضورها لتهنئته ودعاها للجلوس، ووجد مضايقة في حضورها كادت تنقلب كراهية، وتساءل عما دعاها للمجيء حقا، أهو التهنئة الخالصة لوجه الله، أم الاطمئنان على ما سبق منه من رغبة؟ ولكن المرأة لم تكن عند سوء ظنه، لأنها كانت أيست منه منذ أمد بعيد، ومع ذلك قال لها وكأنه يعتذر: أردنا .. وأراد الله!
Bog aan la aqoon