فقال بأدبه الزائف: كيف لا؟ .. نحن أصدقاء قدماء .. وقد رأيتك في الأيام الماضية أكثر مما رآك الجيران في أعوام طوال، وفكرت فيك أكثر مما فكر ألصق الناس بك مدى عمره، فكيف لا أعرفك بعد هذا كله؟!
تكلم برقة ولكن بلا تلعثم ولا تهدج .. وازدادت هي تعلقا بكلامه ورغبة في مساجلته، وتولاها شعور بالاستهانة، هو السلاح الوحيد الذي تستطيع أن تشهره في وجه عناد الحياة. بيد أنها لم ترد الخروج على «سنة التصنع والتمثيل»، فقالت بحدة وهي تحرص على ألا يعلو صوتها فيفضح جرسه الخشن: لماذا تتبعني؟
فابتسم الرجل وقال بدهشة: لماذا أتبعك؟! .. لماذا أهمل أعمالي وألزم القهوة تحت نافذتك؟ لماذا أهجر الدنيا جميعا مقيما بزقاق المدق؟ .. ولماذا انتظرت هذا الزمان الطويل؟!
فقطبت وقالت بازدراء: لست أسألك حتى تجيبني بهذه السخافات؛ ولكني أنكر عليك أن تتبعني وتخاطبني.
فقال بلهجة جديدة تنم عن الثقة واللباقة: الأصل أن نتبع الحسناء أينما سارت. هذه هي القاعدة؛ فإذا ما سارت ولم يتبعها أحد فهذا هو الشذوذ الموجب للإنكار حقا، أو بمعنى آخر إذا سرت ولم يتبعك أحد فهذا إيذان بقرب القيامة.
ومرت عند ذاك بعطفة العوارجة حيث يقيم بعض صويحباتها، فتمنت أن يرينها وهذا الأفندي يغازلها! ولاح لها ميدان المسجد غير بعيد فانتهرته قائلة: ابتعد .. هذا حي يعرفني!
وكان يتفحصها بنظر ثاقب، فأيقن أنها تجاذبه الحديث وهي لا تدري، أو وهي تدري، فارتسمت على شفتيه ابتسامة لو رأتها لأعادت إلى رأسها ذكريات وحشية .. وقال لها: لا هذا الحي حيك، ولا هؤلاء الناس أهلك! أنت شيء آخر، إنك ها هنا غريبة.
فأمن قلبها على قوله، وسرت به سرورا لم تشعر بمثله لقول قبله. واستدرك الرجل قائلا كالساخط: كيف تسيرين بملاءتك بين هؤلاء الفتيات! .. أين هن منك؟ أميرة في ملاءة، ورعية ترفل في الثياب الجديدة!
فقالت بحدة: ما لك أنت ولهذا؟ ابتعد.
فقال محتجا: لن أبتعد أبدا.
Bog aan la aqoon