فضربت المرأة كفا بكف وهي تغالب الضحك، ثم قالت بسخرية: من حقك أن تبيعي صينية البسبوسة بصينية الفريك!
فنظرت إليها بتحد وقالت بغيظ: بل رفضت شابا واخترت شيخا.
فضحكت أم حميدة ضحكة مجلجلة وتمتمت: «الدهن في العتاقي»، وتربعت على الكنبة في سرور وقد تناست معارضتها الكاذبة، واستخرجت سيجارة من علبة سجائرها وأشعلتها، وراحت تدخن بلذة لم تشعر بمثلها من زمن بعيد، فنظرت حميدة إليها بغيظ وقالت: تالله لقد فرحت بالعروس الجديد أضعاف سروري؛ ولكنها المكابرة والمعاندة والرغبة في إغاظتي .. سامحك الله.
فحدجتها أمها بنظرة عميقة، وقالت بلهجة ذات معنى: إذا تزوج رجل مثل السيد سليم من فتاة، فهو في الواقع إنما يتزوج من أهلها جميعا، كالنيل إذا فاض أغرق البلاد .. أفهمت؟ .. أم تحسبين أن تزفي إلى قصرك الجديد وأبقى أنا ها هنا تحت رحمة الست سنية عفيفي وأمثالها من المحسنين؟!
قهقهت حميدة وقد بدأت تضفر شعرها، وقالت بكبرياء مصطنع: تحت رحمة الست سنية عفيفي، والست حميدة هانم. - طبعا .. طبعا يا لقيطة الطوار، يابنة المجهول!
فاسترسلت الفتاة في ضحكها وقالت: مجهول .. مجهول .. كم من أب معروف لا يساوي شيئا. •••
وعند ضحى الغد ذهبت أم حميدة إلى الوكالة سعيدة رخية البال، لتقرأ الفاتحة مرة أخرى؛ ولكنها لم تجد السيد سليم بمجلسه المعهود، واستعلمت عنه، فقيل لها: إنه تخلف عن الحضور اليوم، فرجعت إلى البيت غير مرتاحة وقد تولاها الجزع، ولما أن انتصف النهار ذاع نبأ في الزقاق بأن السيد سليم علوان أصيب ليلة أمس بذبحة صدرية، وأنه في فراشه بين الحياة والموت! وقد عم الأسف الزقاق كله. أما بيت أم حميدة فقد سقط عليه النبأ كالصاعقة.
19
واستيقظ الزقاق ذات صباح على صخب وضوضاء، ورأى أهله رجالا يقيمون سرادقا على أرض خراب بالصنادقية فيما يواجه زقاق المدق. وانزعج عم كامل وظنه سرادق ميت، فهتف بصوته الرفيع: «إنا لله وإنا إليه راجعون، يا فتاح يا عليم، يا رب.» ونادى غلاما من عرض الطريق وسأله عن شخص المتوفى، ولكن الغلام قال له ضاحكا: ليس السرادق لميت، ولكنها حفلة انتخابية!
فهز عم كامل رأسه وغمغم: «سعد وعدلي مرة أخرى!» وكان الرجل لا يدري شيئا على الإطلاق عن عالم السياسة، إن هو إلا اسم أو اسمان يحفظهما دون أن يفقه لهما معنى. أجل إنه يعلق في صدر محله صورة كبرى لمصطفى النحاس؛ ولكن كان ذلك لأن عباس الحلو ابتاع يوما صورتين للزعيم ثبت إحداهما في الصالون، وأهدى الأخرى لصاحبه، ولم ير الرجل في تثبيتها بدكانه من بأس، خصوصا وأنه يعلم أن هذه الصورة وأمثالها من تقاليد الدكاكين؟ ففي دكان الطعمية بالصنادقية صورتان لسعد زغلول ومصطفى النحاس، وفي قهوة كرشة صورة للخديوي عباس. وراح الرجل يرمق العمال العاكفين على عملهم بإنكار وقد توقع يوما صاخبا مرهقا. ومضى السرادق يتكون جزءا جزءا، فنصبت الأعمدة، ووصلت بالطنب ومدت عليها الستائر، وفرشت الأرض بالرمل، وصفت المقاعد على جانبي ممر ضيق يفضي إلى مسرح أقيم في الداخل عاليا، وركبت مكبرات الصوت على مفارق الطريق بين الحسين والغورية، وأجمل من هذا كله أن ترك مدخل السرادق بلا حاجز من ستار أو ظلة؛ مما بشر أهل المدق بأنهم سيشاركون في الحفلة من منازلهم. وفي أعلى المسرح علقت صورة كبرى لرئيس الحكومة، وألصقت بها من تحت صورة المرشح فرحات الذي تعرفه أكثرية أهل الحي؛ لأنه كان تاجرا بالنحاسين. ودار فتيان بإعلانات وجعلوا يلصقونها بالجدران وقد سطر عيها بألوان زاهية:
Bog aan la aqoon