5
العصر!
عاد الزقاق رويدا رويدا إلى عالم الظلال: والتفت حميدة في ملاءتها، ومضت تستمع إلى دقات شبشبها على السلم في طريقها إلى الخارج. وقطعت الزقاق في عناية بمشيتها وهيئتها لأنها تعلم أن أعينا أربعا تتبعها متفحصة ثاقبة، عيني السيد سليم علوان صاحب الوكالة، وعيني عباس الحلو الحلاق. ولم تكن تفاهة ثيابها لتغيب عنها؛ فستان من الدمور وملاءة قديمة باهتة، وشبشب رق نعلاه، بيد أنها تلف الملاءة لفة تشي بحسن قوامها الرشيق، وتصور عجيزتها الملمومة أحسن تصوير، وتبرز ثدييها الكاعبين، وتكشف عن نصف ساقيها المدملجتين، ثم تنحسر في أعلاها عن مفرق شعرها الأسود ووجهها البرنزي الفاتن القسمات، وكانت تتعمد ألا تلوي على شيء فتنحدر من الصنادقية إلى الغورية، ثم إلى السكة الجديدة فالموسكي .. حتى إذا غابت عن الأعين الثاقبة علت شفتيها ابتسامة، وراحت تنهب الطريق الزاخر العامر بعينيها الجميلتين. هي فتاة مقطوعة النسب، معدمة اليد، ولكنها لم تفقد قط روح الثقة والاطمئنان. ربما كان لحسنها الملحوظ الفضل في بث هذه الروح القوية في طواياها، ولكن حسنها لم يكن صاحب الفضل وحده، كانت بطبعها قوية، لا يخذلها الشعور بالقوة لحظة من حياتها. وكانت عيناها الجميلتان تنطقان أحيانا بهذا الشعور نطقا يذهب بجمالها في رأي البعض، ويضاعفه في رأي البعض الآخر. فلم تفتأ أسيرة لإحساس عنيف يتلهف على الغلبة والقهر، يتبدى في حرصها على فتنة الرجال، كما يتبدى في محاولتها التحكم في أمها، ويتعرى في أسوأ مظاهره في ما يشتجر بينها وبين نسوة الزقاق من شغب وسباب وعراك، حتى أبغضنها جميعا، ورمينها بكل سوء. وربما كان من أغرب ما رميت به أنها تبغض الأطفال، وأنها بالتالي متوحشة محرومة من نعمة الأنوثة، وهذا ما جعل امرأة المعلم كرشة القهوجي - أمها بالرضاعة - تتمنى على الله أن تراها أما ترضع الأطفال في كنف زوج جبار يبيتها بالضرب ويصبحها بالضرب! مضت في سبيلها مستمتعة بنزهتها اليومية، مرددة الطرف في معارض المتاجر المتعاقبة. كانت تهوى مشاهدة المعروضات النفيسة من الثياب والآنية، فتثير في نفسها الطموح المتلهفة على القوة والسيطرة أحلاما ساحرة. ولذلك تركزت عبادتها للقوة في حب المال على اعتبار أنه المفتاح السحري للدنيا، المسخر لجميع قواها المذخورة. فجل ما كانت تعرفه عن نفسها أنها تحلم بالمال ؛ المال الذي يأتي بالثياب وبكل ما تشتهيه الأنفس. وعسى أن تتساءل: أيمكن يا ترى أن تبلغ يوما ما تتمنى؟! لم تكن الحقائق لتغيب عنها، ومع ذلك فهي لا تنسى قصة فتاة من بنات الصنادقية، كانت فقيرة في الأصل مثلها، ثم أسعفها الحظ بزوج ثري من المقاولين، فانتشلها من وهدتها، ونقلها من حال إلى حال، فماذا يمنع القصة أن تتكرر، والحظ أن يبتسم مرتين في هذا الحي؟ ليست دون صاحبتها جمالا، والحظ الذي لعب دوره في حياة الأخرى يستطيع أن يعيده مرات ومرات دون عناء أو خسارة. بيد أن هذا الطموح كان يضطرب في دنيا ضيقة تنتهي عند حدود ميدان الملكة فريدة، لا يدري عما وراءها شيئا، ولا عما تحويه هذه الدنيا الواسعة من أناس وحظوظ، ولا كم منهم يلقى خيرا وسعدا، وكم منهم يتردد مثلها حائرا لا يعلم لنفسه مرسى. فعلى كثب من هذه المنطقة رأت صويحباتها من عاملات المشغل قادمات، فهرعت نحوهن وقد تخلصت من جميع أفكارها، وابتسمت أساريرها، وسرعان ما سلمن وأخذن في تافه الأحاديث، وهي تتفحص وجوههن وثيابهن بأعين ناقدة، ذاهبة نفسها حسرات على ما يتمتعن به من حرية وجاه. أولئك فتيات صغيرات من أهل الدراسة، خرجن بحكم ظروفهن الخاصة البائسة وظروف الحرب عامة عن تقاليدهن الموروثة، واشتغلن بالمحال العامة مقتديات باليهوديات. ذهبن إليها مكدودات هزيلات فقيرات، وسرعان ما أدركهن تبدل وتغير في ردح قصير من الزمن؛ شبعن بعد جوع، وكسين بعد عري، وامتلأن بعد هزال، ومضين على أثر اليهوديات في العناية بالمظهر وتكلف الرشاقة، ومنهن من يرطن بكلمات، ولا يتورعن عن تأبط الأذرع والتخبط في الشوارع الغرامية. تعلمن شيئا واقتحمن الحياة. أما هي فقد فوت عليها عمرها وجهلها ما يمرحن فيه من فرص. وها هي تتمسح بهن والحسرة ملء حناياها، غابطة حياتهن المرهفة وثيابهن المزركشة وجيوبهن العامرة. كانت تضاحكهن في صفاء كاذب والحسد يأكل قلبها، ثم لا تتردد عن نهشهن - ولو على سبيل الدعابة الساخرة - لأقل هفوة، فهذه فستانها قصير معدوم الحياء، وهذه ذوقها سقيم، وتلك عيناها تزوغان من التحديق في الرجال، والرابعة كأنها نسيت أيام كان القمل يزحف على رقبتها كالنمل؟ كان هذا اللقاء بلا ريب من بواعث تمردها الدائم، ولكنه كان كذلك أكبر تسلية لها في يومها الطويل المفعم تبرما وعراكا، ولذلك قالت يوما لأمها وهي تتنهد: حياة اليهوديات هي الحياة حقا!
فانزعجت أمها وقالت: إنك من نبع أبالسة، ودمي بريء منك.
فقالت الفتاة إمعانا في إغاظتها: ألا يجوز أن أكون من صلب باشوات ولو عن سبيل الحرام؟!
فهزت المرأة رأسها وقالت ساخرة: رحم الله أباك بائع الدوم بمرجوش!
سارت وسط صويحباتها تياهة بجمالها، مدرعة بلسانها الطويل، يلذها أن الأعين تمر بهن مر الكرام وتستقر عليها دونهن. ولما انتصف الموسكي أو كاد لاحت منها التفاتة إلى الطريق فرأت عباس الحلو يسير متأخرا عنهن قليلا وعيناه تلحظانها بتلك النظرة المألوفة، وتساءلت عما دعاه إلى ترك دكانه في هذه الساعة على غير عادة: هل تبعها عمدا؟ ألم يعد يقنع برسائل النظر؟ كان على فقره متأنقا كأكثرية أهل فنه، فلم يضايقها ظهوره، وقالت لنفسها: إن أية واحدة من صاحباتها لا تطمع في زوج خير منه، وكانت تجد نحوه شعورا غريبا معقدا، فهو من ناحية الشاب الوحيد في الزقاق الذي يصلح لها زوجا، وهي من ناحية أخرى تحلم بزوج على مثال المقاول الغني الذي حظيت به جارتها في الصنادقية، فهي لا تحبه ولا تتمناه، وفي الوقت نفسه لا تقطعه، ولعلها تسرها نطراته المشوقة! وكان من عادتها أن توصل الفتيات حتى نهاية الدراسة ثم تعود بمفردها إلى الزقاق، فسارت بينهن وهي تسترق النظر. فلم تعد تشك في أنه يتبعها عامدا، وأنه ينوي أن يخرج عن صمته أخيرا. ولم تخطئ ظنونها، فما كادت تودع آخر الفتيات وتدور على عقبيها حتى انحدر نحوها من الطوار، في خطوات مضطربة ووجهه ينطق بالانفعال، وقاربها حتى حاذاها، ثم قال بصوت متهدج: مساء الخير يا حميدة.
فالتفتت نحوه كالمنزعجة وكأنها بوغتت بظهوره مباغتة، ثم قطبت وأوسعت خطاها دون أن تنبس بكلمة، فتورد وجهه؛ ولكنه عاد يقول بصوت ينم عن العتاب: مساء الخير يا حميدة.
وخافت إن هي لازمت الصمت مع هذا الخطو الحثيث أن ينتهيا إلى الميدان المأهول قبل أن يقول ما يريد، وكانت راغبة في سماعه، فقالت في لهجة تنطق بالاستياء: يا للعار! جار وتفعل كالغريب!
فقال عباس بلهفة: بل جار حقا، ولا أفعل كالغريب، أحرام على الجار أن يتكلم؟
Bog aan la aqoon