فقال عباس بصوت حزين: اطلب لي كأسا أخرى.
وحقق حسين مشيئته بسرور، ورنا إليه بنظر مريب، ثم قال: أنت متكدر، وأنا أعلم بسبب كدرك.
فخفق فؤاد الشاب وقال بعجلة: لا شيء مطلقا، هات ما عندك، إني مصغ إليك.
ولكنه لم يباله وقال بلهجة لم تخل من احتقار: حميدة.
فاشتد وجيب قلبه، وكأنه تجرع كأسا ثالثة، فهاج دمه وسرى إليه الوجد والحزن والغضب، فقال بصوت متهدج: أجل حميدة، هربت، خطفها رجل، عار وشقاء! - لا تحزن كثيرا كالحمقى، وهل طابت حياة من لم تفر عنهم نساؤهم؟!
وتناهى الانفعال بالشاب فقال بغير وعي: ترى ماذا تفعل الآن؟!
فضحك حسين ساخرا وأجابه: تفعل ما عسى أن تفعله أية امرأة فرت مع رجل. - أنت تهزأ بألمي. - ألمك سخيف، خبرني متى علمت بفرارها؟ .. مساء الأمس! .. كان ينبغي أن تكون نسيتها الآن.
وهنا أحدث عوكل - الغلام الشريب بائع الجرائد - حركة لفتت إليه أنظار الجلوس، وكان استوفى شربه ومضى ثملا مترنحا، حتى إذا بلغ عتبة الحانة نظر فيما حوله بعينين زائغتين ورأسه يميل إلى الوراء في عظمة وسلطنة، وصاح بلسان ملتو: أنا عوكل شاطر الشطار وسيد الرجال، أسكر وأنبسط، وها أنا ذاهب إلى عشيقتي، فهل لأحد منكم اعتراض؟ .. أهرام، مصري، البعكوكة.
واختفى الغلام تاركا وراءه عاصفة من الضحك ، أما حسين كرشة فقد عبس غاضبا، ولاح الشر في عينيه، وبصق بصقة طارت إلى الموضع الذي كان به الغلام، وأخذ يسب ويلعن. كانت أقل إثارة من تحد - وهو على سبيل المزاح - كافية لإشعال غضبه وإهاجة روح الاعتداء الكامنة فيه، ولو كان الغلام بمتناول يده للكمه أو ركله أو أخذ بتلابيبه. والتفت إلى عباس - وكان يتجرع كأسه الثانية - وقال بحدة وكأنه نسي ما كانا آخذين فيه من أسباب الحديث: هذه حياة وليست لعبة خشبية، يجب أن نعيش .. ألا تفهم؟
ولم ينتبه عباس إليه، كان يخاطب نفسه قائلا: «لن تعود حميدة، اختفت من حياتي إلى الأبد، وماذا تجدي عودتها؟ ولكن سأبصق على وجهها إذا التقيت بها يوما، هذا أشد من القتل .. أما ذاك الأفندي فالويل له مني، سأدق عنقه.»
Bog aan la aqoon