التفتت إليه داهشة! وسرعان ما غابت من عينيها النظرة الفاترة، وحل محلها نظرة صارمة قاسية قادحة، ونهضت جالسة في الفراش، ثم انزلقت إلى الأرض بسرعة فائقة فانتصبت حياله كالحية الهائجة، وثارت بها غريزتها العنيفة فرفعت يدها وهوت بها على خده بقوة وقسوة، وتجاوبت أركان الحجرة رنينها. ولبث ثواني جامدا، ثم تمدد جانب من فمه الأيسر في ابتسامة هازئة .. وبسرعة تفوق الفكر رفع كفه ولطمها على خدها الأيمن بقوة متناهية، ثم رفع يسراه - قبل أن تفيق من اللطمة الأولى - وصك بها خدها الأيسر بشدة بالغة! اصفر وجهها، وسرت ارتعاشة في شفتيها، وانتفض جسمها انتفاضة حيوانية، فارتمت على صدره، وأنشبت أناملها المتقبضة في عنقه .. وتلقى الرجل هذه الهجمة بسكينة، ولم يحاول مدافعتها، بل أحاطها بذراعيه وشد عليها حتى كاد يهرسها، مضت أصابعها تلين، ثم ارتدت عن عنقه، وتحسست منكبيه وعلقت بهما، ورفعت إليه وجها قانيا وثغرا مرتعشا مشوقا.
27
نشر الظلام رواقه على الزقاق وأطبق على جنباته سكون عميق، حتى قهوة كرشة أغلقت أبوابها وتفرق سمارها. وفي هذا الهزيع من الليل مرق من باب الفرن شبح زيطة، صانع العاهات، ينطلق إلى تجواله الليلي. قطع الرجل أرض الزقاق إلى الصنادقية، وعرج إلى اليسار متجها صوب الحسين، فكاد يصطدم بشبح قادم في منتصف الطريق، وما لبث أن تنور وجهه على ضوء النجوم الشاحب فهتف به: الدكتور البوشي! .. من أين أنت قادم؟
فأجابه الدكتور بعجلة ولهفة: كنت ماضيا إليك. - أعندك طلاب عاهات؟
فقال الدكتور بصوت كالهمس: عندي ما هو أهم، لقد توفي عم عبد الحميد الطالبي!
فأضاءت عينا زيطة في العتمة وسأله باهتمام: متى توفي؟ .. وهل دفن؟ - دفن مساء اليوم. - أعرفت مقبرته؟ - فيما بين باب النصر وطريق الجبل.
وتأبط زيطة ذراعه وسار به في الطريق الذي كان آخذا فيه وهو يسأله مستوثقا: ألا يمكن أن تضل الطريق في الظلام؟ - كلا .. كنت في أثناء سير الجنازة منتبها يقظا فحفظت علامات الطريق، وفضلا عن هذا فهو طريق معروف لكلينا، وطالما قطعناه معا في الظلام الدامس! - وأدواتك؟ - في مكان حريز أمام الجامع. - وهل المقبرة مكشوفة أم مسقوفة؟ - عند المدخل حجرة مسقوفة، ولكن القبر في فناء مكشوف.
فسأله بلهجة لم تخل من تهكم: أكنت تعرف المرحوم؟ - معرفة بسيطة؛ كان بائع دقيق في المبيضة. - أطقم كامل أم بضع أسنان فقط؟ - طقم كامل . - ألا تخشى أن يكون أهله قد انتزعوا الطقم من فمه قبل دفنه؟ - كلا، إن أهل البلد أهل تقوى، وهيهات أن يفعلوا ذلك!
فقال زيطة وهو يهز رأسه أسفا: مضى زمن والناس يودعون القبر حلي موتاهم.
فتنهد الدكتور قائلا: أين منا ذاك الزمن؟!
Bog aan la aqoon