تلك الليلة كان راقدا ما بين الحلم والحقيقة، عقله شبه غائب، غدة الشيطان منتفخة لم يفرغها، عجز عن الانتصار على طفلة في التاسعة من عمرها، مزقت لحمه بأسنانها، وحبسته داخل الغرفة. في أعماقه إحساس بالهوان والرغبة في الانتقام، ليس لديه إلا زوجه ينتقم منها، أو ابنته مجيدة يضربها دون سبب أو لسبب تافه؛ يريد أن ينفس عنه الغضب، أن ينتقم من كل الرجال الذين ضربوه وكل النساء اللواتي رفضنه، من رئيس الدولة الذي لم يبتسم في وجهه، أو الوزير، أو رئيس التحرير. جسده ينتفض بالغضب، غاضب من نفسه أيضا، دناءة نفسه التي تدفعه إلى البذاءة والسفالة واختلاس المال أو السرقة واغتصاب البنات الصغيرات، والتسلل من فراش الزوجية إلى بيوت العاهرات. النفس أمارة بالسوء يا زكريا، الإنسان مذنب بالفطرة والطبيعة؛ وإلا فما كانت التوبة والغفران؟ الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
يخفف عن نفسه الإثم بكلمات من عند الله، دون جدوى، دون جدوى.
في أعماقه رغبة في أن يضرب نفسه بالحزام الجلدي، أن يوقظ زوجته لتمسك الحزام وتضربه، يصرخ بصوت مسموع وهي راقدة إلى جواره: اضربيني يا بدور، أرجوكي اضربيني لأشتهيكي، إنكئي جروحي؛ لتلتئم روحي وتشفيني!
لم تسمع بدور إلا فحيح صوته المتحشرج وهو نائم. كان غارقا في النوم، يئن بصوت خافت، يذوب الشخير في الأنين، ينقطع الصوت لحظة حين ينقلب من جنب إلى جنب، أو يحرك رأسه فوق الوسادة من اليسار إلى اليمين.
ناولها الحزام الجلدي ذات ليلة، قال لها: اضربيني. وقفت أمامه بدور عاجزة عن النطق، عاجزة عن أن ترفع يدها بالحزام وتضربه. شيء عميق مدفون في أعماقها منذ الطفولة، شيء يشبه الخوف، أو العار أو العيب. لا، لا يمكن أن ترتفع عين المرأة في عين الرجل، لا يمكن أن ترتفع عين الخادم في عين السيد. للسيد أن يضرب الخادم، للرجل أن يضرب المرأة، العكس غير ممكن، غير مباح في الشرع والعرف والقانون وأخلاق العائلات. أمسكت بذور الحزام الجلدي وراحت تضرب الجدار، انهالت فوق الجدار ضربا، كأنما الجدار هو زوجها وأبوها وعمها وجدها والشيطان والله، أرادت أن يتهاوى الجدار ويسقط، أن تسمع أنينه بأذنها، أن تدوسه بقدمها.
لكن الجدار بقي في مكانه لا يسقط. بلغ بها الغضب مداه، أمسكت الحزام الجلدي وراحت تضرب نفسها، تضرب جسدها، ذراعيها وساقيها وفخذيها. من قمة رأسها إلى بطن قدميها راحت نضرب بالحزام الجلدي، حتى تهاوت إلى الأرض تئن كالحيوان الجريح.
في سريرها كانت ابنتها مجيدة تنتفض، من خلال الجدار تسمع الصفعات والضربات، لا تعرف من يضرب من؛ أبوها يضرب أمها، أم العكس؟ منذ الطفولة تسمعهما يتشاجران، السنة وراء السنة، أربعا وعشرين سنة، لم يكف أبوها وأمها عن الصراع في الليل، وفي الصباح يعود كل شيء كما كان؛ يشربان الشاي، يقرآن الصحف، يتبادلان الابتسامات، أو نظرات الحب والعتاب، قد تفلت من أحدهما كلمة أو حركة أو نظرة جانبية تنم عن الكره والعداء.
ترمق صورته داخل البرواز فوق عموده اليومي: الكاتب الكبير اسمه بالبونط العريض، زكريا الخرتيتي. يرمق صورتها على غلاف مجلة النقد الأدبي: الناقدة الكبيرة أستاذة الجامعة. أخبارهما منشورة في باب المجتمع الراقي، تتابع الصحافة حركتهما مثل نجوم الفن والأدب والسياسة، وزعماء الأحزاب والهيئات العليا والجمعيات، تمط بدور شفتيها، عيناها تمران فوق الأسماء، تعرفهم عن قرب أو عن بعد. يمط زكريا الخرتيتي شفتيه أيضا، شفته العليا أكثر امتلاء من السفلى، صغير الحجم، رأسه صغير مثلث الشكل، يمسك بأطراف أصابعه ذقنه المثلث المدبب، يدلكه قليلا وهو يقرأ عموده من أوله حتى آخره، من العنوان: «أمانة العهد» إلى الكلمة الأخيرة والتوقيع. يعيد قراءته وهو يدلك ذقنه، أو الشعر فوق صدره من تحت المنامة الحريرية، قد تمتد يده إلى الشعر فوق العانة من الشق المفتوح في سرواله، أو تمتد إصبعه ليلعب في أذنه أو أنفه. حركة مقززة في نظر زوجته، تنم عن أصل وضيع، لم يكن من عائلة ذات مكانة رفيعة في الثقافة، أنعم الملك على جده بلقب الباشا في غفلة من الزمن، في العهد البائد الفاسد، كان الملك يمنح القوادين الألقاب، يقودونه إلى الغواني في البارات وبيوت الهوى، أو الحلاقين الذين حلقوا ذقن أبيه أو جده السلطان، يمنح الواحد منهم لقب الباشا أو البيه، وإقطاعية كبيرة من الأرض، أو منصبا في الحكومة أو البرلمان. تظهر صورته في الصحف مع رجالات الدولة، يفتتح المشاريع الخيرية لوجه الله، حتى قامت الثورة فانسحب كرسي العرش من تحت المؤخرة الملكية السمينة الممتلئة باللحم، جلست في الكراسي مؤخرات جمهورية تنشد الامتلاء بعد الخواء، تتطلع إلى الامتلاك والملكية الفردية، تحت اسم التطهير أو الطهارة أو الأمانة أو العفة والاشتراكية.
كان الخرتيتي الأب يحلم في النوم: أصبح كاتبا كبيرا مثل طه حسين، كتبه منشورة في كل مكان، في المكتبات والجامعات والبيوت، بما فيها ذلك الكتاب عن الأدب الجاهلي، أو الشعر الجاهلي أو العصر الجاهلي، أو شيء من هذا القبيل. لم يقرأ الخرتيتي الأب الكتاب، سمع عنه من أحاديث الرجال عند الحلاق، عيونهم يكسوها بريق الإعجاب حين يذكرون اسم طه حسين. - راجل عظيم يا أخي طه حسين! - أشجع راجل في البلد! - اتهموه بالكفر يا أخي! - ناس جهلاء جبناء. - كتابه رائع والله يا أخي. - تفتكر إنه كافر بصحيح؟ - لا يمكن! طه حسين مؤمن مية المية، دا الراجل إتعلم في الأزهر الشريف. - شيخ الأزهر أكبر كافر في البلد يا أستاذ! - لا يمكن! - كل جمعة يخطب في الجامع، اللهم احفظ جلالة الملك ذخرا للبلاد، ده أكبر منافق أكبر أفاك في البلد! - الإفك والنفاق أشد من الكفر يا أخي. - أي والله يا أستاذ.
كان زكريا الخرتيتي طفلا في المدرسة الابتدائية، سمع من زملائه في الفصل أن والده الخرتيتي نشر كتابا يشبه كتاب طه حسين، صورته ظهرت في الصحف مع غلاف الكتاب، بعنوان: طه حسين رائد الفكر في مصر.
Bog aan la aqoon