ثم آن لوقت المقيل أن ينقضي، وقام الأولاد والبنات إلى عملهم، وقام وراءهم إخوة حامد، وبقي هو وحده من جديد، فمال إلى ظل الشجرة ونام. وبعد ساعة مر قطار العصر فأزعجه من نومه ، فذهب هو الآخر يرى ما يدور في الغيط. ولقد كانت لإبراهيم عليه دالة، لأنه كان معه أيام المكتب، فلم يكن بينهما من القطيعة ما بين حامد ومعظم العمال من أهل البلد وممن يسرحون إلى مزارعهم. لذلك كان إبراهيم يجيب حامدا عما يسأله ببساطة وعلى ثغره ابتسامة دائمة.
ولما رأى الأولاد من حامد ذلك، وأنه ليس متكبرا لدرجة أن لا أحد يستطيع محادثته، حسب بعضهم أن من أسباب التفوق على أقرانه أن يحادثه، لكن حامدا رده إلى عمله بأن لم يجبه بشيء على حديثه. فانبرى شخص آخر ظن نفسه أقدر على قول يستلفت النظر، فخاب ظنه، وسمع من أحد الأفندية ما لا يرضيه.
وتصفح حامد وجوه الموجودين واحدا بعد آخر، فأخذ بعينه جمال زينب، ولم يستطع أن يمنع نفسه عن السؤال عمن هي وهل تحضر غالب الوقت إلى الغيط؟
وانقضى ذلك النهار، وانصرف الكل إلى دورهم. وما لبث حامد حين صار بين أهله أن نسي كل ما كان فيه. وتعاقبت بعد ذلك الأيام، وتعاقب معها العمل، وما كان لأحد من العمال أن يشكو حر الشمس أو لظى القيظ. هم يسيرون دائما بخطى ثابتة وأقدام قوية، لهم اليوم من الصبر والاحتمال ما كان لأجدادهم في العصور الفائتة: ذلك الجلد الذي يبتدئ مع القدم ويسري في الزمان من فلاح فرعون إلى فلاح إسماعيل، وإلى فلاح اليوم، والذي يجود على هاته الطائفة التعيسة بشيء من السعادة في الحياة، ويجعلها أمام تلك اللا نهاية من الفقر تحتمل مضض الأيام، وعلى وجهها الناشف ابتسامة القانع.
أحست به يمد يده يطوق بها خصرها ويجذبها نحوه.
طابت لحامد المزارع حين رأى ما فيها من جمال؛ فالنبات والشجر والغدران والهواء الحر والعاملات القويات، جعلته يتردد عليها كل يوم أصيل النهار. ونسي عزيزة شيئا فشيئا، وصار من سروره الخاص أن يرجع مع العمال جنبا لجنب. ويزيده سرورا ما يجد في ذلك من الحرية والتحلل من القيود الثقيلة الباردة، قيود العادة. كما أن ما ارتكست فيه بنات طبقته من الحجاب يجعل كل شاب في سنه، سن الحياة والحرية، يبغي عند غيرهن ما تدفع إليه الطبيعة من حنين الرجل للمرأة، ومن ألفة الذكر للأنثى، ليجد كل في صاحبه ما يكمل عليه ناقص حياته. والواقع أن نصيب حامد من الميل البريء إلى جهة الفلاحات العاملات خير جدا من نصيب غيره الذين يندفعون لتضحية إحساساتهم وأنفسهم وأموالهم إرضاء لبغي أو جريا وراء الشهوات. وإذا كنا لا نستطيع أن نحكم على هؤلاء الشبان بأنهم أخطأوا، لأن ما عملوا ليس من ذنبهم وإنما هو ذنب مجتمعهم المصري المبقي على عادة الحجاب، فإنا لا نستطيع أن نحسد حامدا إلا أنه بلغ من الشر أقله.
وأخيرا وقد اعتاد العمال واعتادوه جعل معظم حديثه ومسيره ساعة رجوعه طورا مع إبراهيم وأحيانا إلى جانب زينب. وقد أوحت له ببساطتها عن جمال نفسي لا يقل عن جمالها الجسمي. فكان إذا نظر لعيونها النجل قد تحصنت وراء أهدابها البديعة التنسيق رأى كأنها تشف عن عالم مملوء بالحب والرغبة. وإذا بصر بها وهي تسير بخطاها الثابتة نم له ثوبها عن جسمها الخصب، وزاد عنده في هذا الاعتقاد ما كان يجده في يديها من النعومة بالرغم من أنها تعمل بهما.
واستحكمت في نفسه عادة الذهاب إلى المزارع، وأخذت بنفسه زينب حتى لم يكن ليذر يوما الذهاب إلى حيث تكون. وكأنما ذاقت هي الأخرى السرور بمجيئه، فلم تكن لتنقطع يوما عن العمل، بل كانت تفضله على أعمال البناء في البلد بالرغم من أنها محببة لنفوس بنات الفلاحين جميعا. والواقع أن حامدا كان معها غاية في الرقة كما هي عادة كل شاب يتقرب من فتاة يجدها جميلة. وأيا كانت طبقتها فجمالها يشفع لها. ورقة الشاب وتودده يسبيان الفتاة عن نفسها، ويجعلان منها أسيرة له. ما بالك بأثر هذه الرقة عليها إذا لم تكن تعودتها من قبل، ولا عرف أحد سوى حامد أن يقول لها كلمات تنم عن عطف وهوى. لكنها كانت دائما تنظر له كما ينظر الفلاح العامل للسيد المالك؛ أي نظر الاستسلام والضعف، وفي الوقت عينه نظر التخوف والحذر.
وبينما العمال راجعون من مزرعة بعيدة - وقد سارت زينب إلى جانب حامد وجعلت تحدثه حديثها المعتاد، وهو سعيد تائه في لذته بسماعها، وتائه في تلك الساعة بعد غروب الشمس حين الأشياء أشباح لا تكاد تتميز - أحست به يمد يده يطوق بها خصرها ويجذبها نحوه، فتركت نفسها له لحظة حتى إذا أحست بشفتيه تقابلان شفتيها، وشعرت بكل ما في قبلته من الحرارة، انبرمت مرة واحدة مبتعدة عنه، ثم مالت برأسها نحوه، وقالت: - أختي تشوفنا وبعدين تروح تقول لأبويه..!
لكن حامدا أحس بقشعريرة تسري في كل جسمه، كانت أولا قشعريرة الرغبة، ثم انقلبت مرة واحدة قشعريرة العظمة والترفع. ولقد خيل إليه كأن الماضي الطويل المملوء بالعقائد القومية والعادات يتجمع كله ليسقط بحمله على رأسه. وصعدت إلى وجهه حمرة الخجل، وابتعد عن صاحبته بعض الشيء، وراح في خيالات مبهمة، ولم يعد يعلم إن كانت زينب ساكتة أو هي تتكلم.
Bog aan la aqoon