لذلك كنت ترى الكثيرين منهم يقضون أيام مسامحاتهم السنوية في الغيطان، وكثيرا ما يبيتون هناك ليالي الحصاد مسرورين بهواء الليل وغناء العاملات، أو إلى جانب «تابوت» يزن من غير انقطاع. لكن حامدا أكبرهم لم يكن بهذه الطباع. بل كان شديد الميل إلى البقاء بالبلد، وفي دار الضيافة مع الناس. والسبب في ذلك راجع إلى تربيته الأولى حين كان والده متفرغا له، جاعلا إياه شغله، متخذا منه ألعوبة يقلب فيها كما يشاء. يسر بها أحيانا فيغدق عليها من رضاه ومن نفسه، ويلاطف ذلك الطفل الذي يحبه من كل قلبه، والذي يحس به جزءا من نفسه. ويغضب أخرى فيضربه من غير رحمة لولا أن تتدخل جدته وتؤنب ابنها على عمله.
حين بلغ حامد الخامسة من عمره كان طفلا كثير الدلال، كثير البكاء، موضع الإعزاز من جميع من في الدار. وبالرغم من هذه السن كنت كثيرا ما تراه محمولا على أكتاف النساء أو على أعناق الرجال، وكانت أحب الساعات لنفسه الساعات التي يقضيها لعبا مع ابنة عمه عزيزة حين كانت تجيء إلى القرية مع أمها. ومع أنه أكبر منها بسنتين في العمر فقد كان ظاهر التودد في معاملته إياها؛ لذلك لم تبطئ جماعة المحيطات بهما من النسوان أن يجعلن كلا منهما عروس صاحبه.
ذهب به أبوه بعد ذلك للكتاب ثم المدرسة. ومرت السنون وهو دائما موضع الحب من أهله الذين سروا بنجابته ونجاحه. وبقي دائما على عادته من المكث بين جدران البلد في حين كان أعمامه وإخوته يجوبون المزارع. وإذا صادف أن خرج مرة مع أبيه لم يكن يدري أين هو ولا ما يملكون. •••
في ضحى يوم من تلك الأيام المحرقة حين كانت زينب تشتغل مع مثيلاتها بنقاوة القطن خرج حامد مع إخوته إلى المزارع. فلما وصلوا إلى العمال كان حضوره موضع غرابة عند أكثرهم من الذين لم يروه من قبل. أما إخوته فتدفعهم سنهم الصغيرة للنشاط وتوحي إليهم بحب السلطة؛ ولذلك كنت لا تراهم يأنفون أن يشاركوا هؤلاء الذين يكدون لقوتهم سويعات من الزمان، ثم يرجعون وقد سال جبينهم عرقا يحتمون في ظل بعض الأشجار أو يجلسون مستندين إلى جذوعها، ولا يكاد يجف عرقهم حتى يرجع الواحد منهم، وقبل أن يصل إلى العمال يناديهم بأنهم كسالى وأنهم لا يشتغلون. فإذا كان عندهم أحس بشيء في نفسه يمنعه من الإقدام على العمل من جديد، وكأنه يخاف أن يتعب مرة أخرى فلا يقوم بعمله مصداقا لقوله وندائه.
أما حامد فقد بقي يتصفح الوجوه ويلقي من حين لآخر سؤالا يستفهم به من إبراهيم رئيس العمل عما عنده. فلما مضت ساعة على ذلك لم يحتمل البقاء تحت حر الشمس، فالتجأ إلى ظلال الأشجار وبقي مع أخ له يتحدثان.
ثم قام أخوه وبقي وحده، فبعث بنظره إلى ما حوله وإلى هؤلاء العمال على مقربة منه غارقين في النور والنار منكبين على العمل. فإذا رفع أحدهم رأسه ناداه إبراهيم أو أحد من «الأفندية» إخوة حامد وأعمامه. وفي لحظة تاهوا عن باله، وانفرد هو يناجي نفسه، ويذكر الأمس القريب حين سافرت عزيزة من القرية بعد أن قضت فيها أياما. وبعد أن جلسا مرارا يتحدثان ومعها أخوها وعمة حامد وكلهم فرح مسرور. ذكر ذلك الأمس وكأنها لم تزل باقية في نفسه كلمة النساء اللاتي جعلن منهما عروسين من أيام طفولتهما، فنما معه الإحساس بأنه سيملك يوما هاته الفتاة، فيجب أن يحبها. وفي هذا الوسط المصري وبمثل تلك التربية التي نشأ حامد في أحضانها لا يتسنى للشاب أن يصل إلى صورة من حقيقة الحياة، بل هو يعيش في خيال غير محدود، يخلق لنفسه منه السعادة والألم، ويصور على ما يشاء الحاضر والمستقبل، ويستند كثير من الشبان على هذا الخيال في أعمالهم، ويصبغون الأشياء الخارجية بلونه الذي يكذب غالبا في الواقع. وبالرغم من أن الحس يكذب تصورهم فإن سلطان خيالهم عليهم قوي لدرجة يتغلب معها على حواسهم، ويجعلهم لا يعتقدون ما يرون، أو يفسد حكمهم وتقديرهم لما هو أمامهم. فإذا كانت عزيزة شديدة النحول فذلك لدقة في قوامها، وإذا كانت شاحبة اللون فهي أشبه بالقمر الشاحب، ومهما تكن قليلة الجمال فإنها أمام حامد في جمال الزهرة، وإذا كانت نفسها خلوا من المعرفة فتلك طهارة ملاك الحب.. وبهذا الخيال الذي يهيمون وراءه يعتقدون أنهم خلقوا لأنفسهم سعادة المستقبل الذي هو على ما صوروا العالم الجميل المملوء بالمسرات والأفراح، والذي يجلس الواحد منهم فيه مع صاحبته التي يحبها حبا حلالا، لأنها زوجه، فينظران معا لنجوم الليل، ويستمعان صامتين لأصواته.
فإذا جاءتهم الحياة الجد، واضطرهم العمل للنزول عن معظم أوهامهم، دخل اليأس نفوسهم مكان الآمال القديمة الطويلة العريضة.
أما عزيزة فقد علمها أبواها القراءة والكتابة إلى أن بلغت العاشرة من عمرها، حينذاك بعثوا بها إلى معلمة تعلمها الخياطة والتطريز، وبقيت معها سنتين. ثم انقطعت عن ذلك كله، ولبست «حبرتها»، وانقطعت بذلك عن مقابلة الأكثرين من معارفها. وابتدأت حوالي الرابعة عشرة تقرأ روايات كانت تقع تحت يدها. ومع ما كانت تعاني في ذلك من الصعوبة فإن قصص الحب حلو ومحبب لنفس كل شاب وفتاة. وليتها كانت تقرأ شيئا حسنا من أقاصيص الحب، فإن ذلك مع الأسف معدوم. فوق هذا فكل كلام غير اعترافات المحب لحبيبته وغير خلواتهما، وكل ما خرج عن مجرد القصص البسيطة، لم يكن يسترعي نظرها إن لم يضايقها. ولقد كانت ضعيفة الجسم من أيام طفولتها. وليست الحياة الساكنة التي تعيش بداعية قوة أو صحة. لذلك بقي هذا الضعف عندها. وما كادت تختبئ في الدار حتى ابتدأ لونها يزداد ذبولا وجسمها نحولا. ولا يمر عام حتى تحس بحاجة شديدة لتجديد الهواء واستعادة صحتها التي تذهب مدة الشتاء فريسة رطوبة بيتهم الواسع الذي يعيشون فيه، والذي كان من أسوأ الأشياء أثرا عليها بما يزيدها ضعفا على ضعف.
لكن الطبيعة العادلة تعلم أن ذلك ليس ذنبها ولا ذنب مثيلاتها. فإذا أصبحت هي من المخدرات بعثت إلى نفس واحد من أقاربها وبني عمها الذين كانوا يلاطفونها أيام صغرها خيالا محبوبا منها، وجعلته دائم الذكر لها.
بعث حامد بأحلامه وخيالاته، وصور لنفسه عزيزة على ما يشاء. وبقي كذلك حتى آذن الظهر أن يزول وجاء وقت المقيل، ولم يبق للعمال إلا أن «يطلعوا بالوش» الذي معهم. فلما انتهوا منه جاءوا جميعا تحت الأشجار، وفرد كل منهم منديله. وفي الوقت عينه وصل من البلد غداء حامد وإخوته تحمله خادمتهم فجلسوا جميعا وتناولوه في لحظة.
Bog aan la aqoon