قحط في القصة، نشاط في الشعر، كثرة في كتب الكشوف على أنواعها، عناية بدراسة النفسيات التي تشمل طبائع الأحياء من الإنسان إلى الحشرة إلى ما دون ذلك.
قحط في القصة
فانصراف القراء الأوربيين والأمريكيين عن القصة ظاهرة محسوسة مقدرة بالأرقام، وعليها شاهدان من كلام النقاد ومن إحصاءات الناشرين، وكلاهما يدل على انحدار سريع في الكم والكيف، كما يقولون في لغة المناطقة، أو انحدار سريع في عدد القصص التي ظهرت وعدد النسخ التي وزعت منها، وقيمة هذه القصص من الوجهة الأدبية والوجهة الفنية على السواء.
وكاتب هذه السطور أول من يتفاءل بهذه الظاهرة؛ لأنني أحس من مبدأ الأمر أن أساس الإقبال على القصة كسل في النفس وتقديم للتسلية على الذوق والفهم والشعور الصادق، وأن جمهور القصة الشائعة هم طوائف الجهلاء وأشباه الجهلاء، ومن يتخذون القصة بديلا من علبة السجائر أو تكملة لها عند الضجر من التدخين.
وفي القصة نوع رفيع - بل رفيع جدا في بعض الأحيان - يكتبه عباقرة الفن وأقطاب البلاغة، ولكنه يضيع بين القصص التي يطلبها الجهلاء وأشباه الجهلاء، ويحسب قراؤه بالمئات حيث يحسب قراء المهازل والخزعبلات بمئات الألوف.
وقد راجت قصة من القصص؛ لأن امرأة متزوجة كتبتها لتذكر فيها علاقاتها وغواياتها ومقدمات تلك العلاقات والغوايات، على علم من زوجها قبل النشر، وبعد النشر بطبيعة الحال!
ومثل هذه القصة لو تحولت إلى مناظر من الصور الشمسية الخليعة، لصادفت من الرواج ما صادفته القصة المكتوبة وزيادة.
وإنه لغافل أو مخطئ من يقول إن القصة بدعة حديثة بين الفنون الإنسانية؛ فإنها أقدم ما عرفه الأطفال في المهود والعجائز حول مواقد الشتاء، ولكن الأقدمين كانوا على شيء من الوقار فتركوها في مكانها بين ألاعيب الأطفال وثرثرة العجائز، ومضت ألوف السنين ولم يبق من تلك القصص أثر، ولم ينقص منها شيء يحس بنقصه؛ لأنها تخترع من جديد على نحو واحد في كل جيل، ثم تعاد وتعاد على النسق القديم.
ومنذ مائة سنة قيل ما قيل عن بدعة القصة في عالم الفنون، فظهر منها ما ظهر واختفى ما اختفى ، ولم يبق من الظاهر المأثور إلا الذي يقرؤه طلابه لغير القصة التي فيه: يقرءونه للصور الشخصية أو للدراسات النفسية أو للقدرة على خلق المواقف والتعبيرات.
ثم ندر هذا النوع من القصص الرفيع ولا يزال يندر في الأعوام الأخيرة، فعسى أن تكون هذه الندرة مؤذنة بزوال سلطان الجهلاء والغوغاء على الفن والأدب والثقافة.
Bog aan la aqoon