180

فالأستاذ المازني يكتب عن توارد الخواطر، وفي مقالي الأخير بالرسالة كلمة عن الرياضيات، واتصالها بعالم الروح، وبينا أفكر في هذه الموضوعات إذا بكتاب جديد يصدر من مطبعة «جولانكز» الإنجليزية عنوانه «عظماء الرياضيين» لمؤلفه الأستاذ «بل» الرياضي المشهور في الجامعات الأمريكية، فتصفحته واستقصيت بعض تراجمه، فإذا به لا يقول ما قلته عن الصلة بين التدين والرياضة والموسيقى والحقائق الفرضية، ولكنه يعرض لنا تراجم العظماء الرياضيين، وعجائب آرائهم ونوادر صباهم وطرائف أخبارهم، فلا يسع القارئ إلا أن يخرج منه بتلك النتائج التي أجملناها قبل أربع عشرة سنة، كأنها استقصاء ثم تلخيص لكل ما ورد في ذلك الكتاب.

من ذلك أن الرياضي الكبير سلفستر يقول: «ألا يجوز إذن أن توصف الموسيقى بأنها رياضيات الحس، وأن توصف الرياضيات بأنها موسيقى العقل؟ وأن يقال: إن الموسيقار يحس رياضيا وإن الرياضي يفكر موسيقيا؟ فالموسيقى هي حلم الحياة، والرياضة هي عمل الحياة، وكلتاهما تستوفي نصيبها من الأخرى. يرتقي الذهن البشري إلى أوجه الأعلى ويسطع في مزدوج من العبقرية يجمع بين موزار وديرشليه، أو بين بيتهوفن وجاوس، وهو الازدواج الذي تجلى وميض منه في عبقرية هلمهولتز وأعماله.»

ومن ذلك أن الرياضي السويسري النادر المثال لونا إيلر الذي قيل فيه: إنه يصنع المعادلات كما يتنفس الهواء، كان شديد التدين، وكان يصلي بالأسرة في منزله، وخطر له أن ينتقل من ألعوبة دبروها في البلاط الروسي للفيلسوف «ديدرو» إلى الجد كل الجد في إثبات وجود الله بالمعادلات الرياضية. فلما تمادى ديدرو في تكفير رجال الحاشية الروسية، ومجادلتهم في وجود الله، تعمدت كاترين الكبيرة أن تداعبه وتفحمه من طريق الرياضيات التي كان يجهلها كما يجهل اللغة الصينية، فوكلت به إيلر فواجهه في جد ورصانة، ولفق له معادلة وتحداه أن يجيب إن استطاع الجواب ... فلم يدر الفيلسوف بماذا يجيب، وكانت أضحوكة البلاط إلى حين.

قال الأستاذ «بل» مؤلف الكتاب: «ولم يقنع إيلر بفكاهته الفاخرة، بل حاول بعد ذلك أن يجلو الزنبقة وراح وهو جاد غاية الجد يركب المعادلات والبراهين الرياضية التي تثبت أن الله موجود، وأن الروح مجردة من المادة، وقيل: إن هذه البراهين تسربت إلى فلسفة الفقه والتصوف على أيامه، فكانت على الأرجح نخبة الأزاهير التي تتمثل فيها عبقريته الرياضية بمعزل عن الشئون العملية.»

ومن ذلك أن جاوس الملقب بملك الرياضيين عرف تصحيح الحساب قبل بلوغ الثالثة من عمره، وكان أبوه رئيسا لطائفة من العمال، فلما كان يوم السبت، واستدعاهم لإحصاء ما لهم وما عليهم بمسمع من طفله الصغير غلط في الجملة، فصاح به الطفل: «يا أبتاه! ليس هذا بصحيح، وإنما الصحيح كيت وكيت.» وروجع الحساب فإذا هو على صواب.

ويقول المؤلف: «ومما تشوق ملاحظته - لما هو معهود في الرياضيين من الميل إلى الموسيقى - أن فيراستراس الكبير لم يكن يقبل الأنغام على ضروبها مع اتساع مشاركاته، فلم تكن تعنيه، ولم يزعم هو أنها تعنيه.»

وعندنا أن هذا غريب حقيق بالملاحظة كما قال المؤلف، إلا أن غرابته تهون كثيرا متى ذكرنا أن فيراستراس هو القائل: إن الرياضي لا تستقيم له ملكة الرياضة إلا بقسط من الشاعرية فيه، وأنه كان يعارض إخوته في تعلم الموسيقى؛ لأنهم كانوا يروضونه بها على الرقص وشهود المجتمعات.

وكان «كبلر» يزعم أنه اهتدى إلى نسبة بين حركات الكواكب السيارة، ومواقعها تشابه النسب التي بين الأنغام الموسيقية والمقامات.

وتتعدد الأقوال التي ترجع بتركيب الكون كله إلى النسب الرياضية، ولا سيما بعد ما ظهر في السنوات الأخيرة من تحليل النور ورد المادة كلها إلى الإشعاع، ورد الإشعاع كله إلى مقدورات عديدة يوشك أن تخرج به من عالم المادة إلى عالم الحساب.

فبعد مقال أفلاطون: «إن الله يهندس.» ومقال جاليلي: «إن كتاب الطبيعة العظيم مكتوب بلغة الرياضيات.» ومقال جاكوبي: «إن الله يحسب.» يقول الأستاذ جينس في كتابه «الكون الخفي»، وهو من أقطاب العصر الحديث: «إن مهندس الكون الأعظم قد بدا لنا اليوم محض رياضي ... وإن الكون يلوح لنا رياضيا على منوال مخالف لكل معنى تصوره الفيلسوف «كانت»، أو كان في وسعه أن يتصوره في أيامه، فإن الرياضيات بالإيجاز تهبط إلى الكون من عل ولا تصعد إليه من الأدنى.»

Bog aan la aqoon