وعندنا - نحن الوارثين للثقافة العربية - سببان آخران لا يلحظان بهذه القوة في جميع الشعوب: أحدهما أن العربي يعتز بالأنساب وينوط الفخار كله بماضيه؛ لأنه من سلالة القبائل التي تغلب فيها العصبية، وترسخ فيها الأصول.
والثاني أن الماضي أقرب إلى منشأ الدين، فيخيل إلينا أن الأقدم فالأقدم هو الأصلح، فالأصلح والأعلم فالأعلم، وإن لم تدلنا الدلائل على اطراد هذا القياس. •••
تلك الأسباب كلها خليقة أن تضاعف احتراسنا كلما عمدنا إلى الموازنة بين حاضر وغائب وقريب وبعيد، فهي صنجة تؤخذ من كفة الأقدمين، وتضاف إلى كفة المحدثين في ميزان الإنصاف، ومما لا شك فيه أن ملكات النبوغ لا تقل في عصرنا، بل هي أحجى أن تزيد وتنشط، بل هي قد زادت ونشطت فعلا باتساع مجال السعي والمنافسة والتفكير والاستنباط ... ومما لا شك فيه أن الأقدمين لم ينظروا إلى معاصريهم إلا كما ننظر نحن إلى معاصرينا، وأنهم لم يشعروا قط بتلك المهابة التي نضفيها عليهم الآن، ولا بذلك الترجيح الذي نمخضهم إياه. أما أنهم كانوا يرون نوابغهم وأبطالهم كما نراهم الآن فذلك ما نخالف فيه الأستاذ؛ لأنه خلاف المعهود والمروي والمسطور، وهبهم أكبروا معاصريهم لأنهم قلائل، وأصغرنا معاصرينا لأنهم كثيرون لا نادرون كما يقول الأستاذ الفاضل، فإنما يكون ذلك كالذهب الذي يكثر تداوله فيرخص سعره وهو ذهب لا شك فيه، وإنما يكون النبوغ نبوغا ولا يكون شيئا آخر مهما يكن حظ الناس من التعليم؛ لأنه ملكة في الطباع لا يختلف كنهها، وإن اختلفت أنظار الناس إليها، ولا تزال الإنسانية بحاجة إلى الكثير منها والقليل.
وخلاصة القول: أننا نستطيع أن نقول مع الأستاذ الكبير: إن النبوغ في عصرنا كثرة لا ندرة، ولا نستطيع أن نقول معه: إن المسافة بين النابغ وسواد الناس تقترب في العصر الحديث؛ لأن ازدياد التعليم يزيد نصيب المتعلم من المعرفة، ولا يخوله فطرة أخرى ولا ملكة مطبوعة، كتلك التي يخلق بها النابغون الممتازون.
الفصل الأربعون
توارد الخواطر
قبل أربع عشرة سنة كتب صديقنا الأستاذ المازني مقالا عن الخيام ألمع فيه إلى تصوف الخيام، واستغرب أن يدين رجل مثله بخيالات المتصوفة، وشطحاتهم البعيدة عن تحقيق العلم وتقرير الواقع؛ لأنه «كانت له موهبة تنأى به عن التصوف؛ ذلك أنه كان رياضيا بارعا ، ومما يذكر له في هذا الباب تنقيحه التقويم السنوي تنقيحا أظهر فيه من الحذق والأستاذية ما أطلق لسان جيبون المؤرخ الإنجليزي بالثناء عليه، وله كذلك طائفة من الجداول الفلكية ومؤلف في علم الجبر بالعربية. والذهن الرياضي مجاله وعمله ضبط الحدود والحصر، وتعليق النتائج بأسبابها والمعلول بعلته، وهو عمل يتطلب من الدقة والعناية والترتيب والتبويب ما لا يطيقه أو يقوى عليه ذهن المتصوف، ومن العجيب أن فتزجرالد لم يفطن إلى دلالة هذا، ولا خطر له أن يسوق هذه الحجة فيما ساقه لتبرئة الخيام من التصوف.»
ومن رأيي الذي لا أزال أراه أن الملكات الرياضية أقرب الملكات إلى التصوف والفروض البعيدة، والعقائد الخفية، فكتبت يومئذ بصحيفة البلاغ مقالا عن القرائح الرياضية والتدين، ناقشت فيه رأي الأستاذ المازني وبينت فيه أسباب العلاقة بين القريحة الرياضية وبين التدين والإيمان بالغيب، وأهمها أن حقائق الرياضة ذهنية وليست خارجية، فهي أقرب إلى الفروض وأبعد عن مراجعة الواقع الذي يراجعه علماء الحس والتجربة والمشاهدات العملية، فاعتماد الرياضيين على البديهة أكثر من اعتمادهم على الملاحظة، واستعانتهم بالفرض أكثر من استعانتهم بالتجربة، وموقفهم أمام المجهول موقف من يسلم به فرضا، ولا يستبعد فيه أي شيء، وهذا سر تدينهم وإخباتهم وميلهم إلى تصديق المعجزات والخفايا، وما شاكلها مما يلي البديهة الغامضة ولا تكاد تجمعه بظواهر الأشياء صلة. وفي عصرنا هذا لم يشتهر أحد من الرياضيين كما اشتهر أوليفر لودج الإنجليزي وفلامريون الفرنسي وإديسون الأمريكي، وكلهم من أعظم علماء الرياضيات، وكلهم مسترسل في إثبات أسرار الروح، وكشف غوامض الاستهواء.
قلنا: «لهذا تتآخى فروع هذه الحقائق أحيانا، وتتآلف العلوم التي تبحث فيها، وتتقارب الملكات التي تكون في المشتغلين بها، فيكثر من يجمع بين الفلسفة والرياضة، ولا يندر أن ترى من يجمع بينهما وبين الموسيقى معا، فالفارابي مثلا كان رياضيا مبتكرا في الموسيقى، وفيثاغوراس - وهو من أقدم فلاسفة ما وراء الطبيعة عند اليونان - كان يبني فلسفة الكون كله على النسب الموسيقية بين الأعداد، وقد مر بمصر قبل أيام نابغة من أفذاذ الرياضة هو ألبرت أينشتين صاحب فلسفة النسبية، التي دهمت الناس ببدع شتى في تعريف الوقت والفضاء، يكفي أن نذكر منها أن الخط المستقيم ليس من اللازم أن يكون أقرب موصل بين نقطتين، وهو فيلسوف رياضي وموسيقار بارع في العزف على القيثار، وليس يخفى الشبه القريب بين ملامح العظماء من الفلاسفة والرياضيين، وملامح العظماء من نوابغ الموسيقيين، فقد تلتبس عليك صورهم حتى لا تكاد تميز بعضهم من بعض، ولا سيما في نظرات العين وسعة الجبهة وارتفاعها ...» ومن ذلك أن ينبغ العازفون والحاسبون والعدادون في الطفولة الباكرة وفيما دون الخامسة أحيانا، ولا يحصل ذلك في سائر العلوم.
ذكرني ذلك البحث القديم الجديد اتفاق عجيب بين أمور متعددة لا رابطة بينها في هذه الأيام.
Bog aan la aqoon