62

الفصل العاشر

قال الراوي:

كان نسيم الجنوب يشيع الراكبين مترفقا وهما يسيران بين الربى الخضراء الممتدة إلى الأفق كأنها أمواج في بحر هادئ، وكان سيف يسير صامتا يناجي الصورة التي ودعته عند باب حجرتها في الصباح وتقول له في صوت خافت: لقاء قريبا!

والتفت نحو المدينة المتباعدة تتضاءل بين نقم وعيبان، وثبت بصره عند قصر غمدان الباسق، يسمو بقبته المرمرية التي تلمع تحت شمس الصباح كأنها منارة في رأس علم. لقد عرف طبقاته السبع ركنا ركنا، وحجرة حجرة، وها هو ذا ينظر إليه متحرك الشجن بعد أن كان يحسب أنه لن يحس نحوه حنينا. فهل يقف أحد وراء شرفة من شرفاته المرمرية يرسل بصره في آثاره خافق القلب، كما كان قلبه يخفق وهو يلتفت إليه؟ وخطرت له خاطرة من الندم لأنه أسرع بالخروج قبل أن يفضي إلى خيلاء ببقية الحديث الذي كان يجيش في صدره. فهلا تمسك بيديها وهي تسلهما من يديه في رفق؟ وهلا تجرأ فضمها إلى صدره حينا ليهدئ من عنف خفقانه؟ وهلا أطال ضم بنانها إلى شفتيه ليطفئ من حرهما قبل أن يغادر موقفه منها؟ فقد ذهب في الصباح ليودعها قبل أن يسير إلى وادي ضهر، وليقول لها إنه سيغيب بضعة أيام في صحبة شيخه، ثم يعود إليها ليخرجا معا من غمدان آخر الدهر. ولم تكن خيلاء أهدأ نفسا ولا أهدى سبيلا، بل كانت عيناها مبللتين ووجهها يشبه الزهرة الذابلة. أأمضت ليلتها ساهدة كما كان يقضي لياليه ساهدا؟ ألم تكن مثله سعيدة قانعة به من الحياة كلها؟ وتنبه على صوت الشيخ يقول له: أما ملأت عينيك من غمدان؟

فأجاب في تأثر: بل أملأ منه قلبي. وأجدني أتشبث به وأنا أبعد عنه، وأحن إليه وأنا أضيق به.

فقال الشيخ: هكذا نحن يا سيف، نضيق بالحياة حتى نملها، فندفعها بإحدى يدينا ونتمسك بها بالأخرى.

فقال سيف: ما كنت أحسب منذ ساعة أنني أعبأ بغمدان ولا بصنعاء كلها، ولا أنني أجد مثل هذه اللوعة التي أجدها وأنا ألتفت من بعيد إلى الوراء. ومع هذا فإني أحس كأن في الجو غناء مشجيا، ليس كله طرب ولا كله سعادة، بل مزيج من الطرب والكآبة.

فقال الشيخ باسما: هو الشباب يا سيف. سوف تلتفت إلى أيامك هذه بعد حين كما تتلفت في هذه الساعة نحو غمدان. سوف تحن إلى شبابك وأشجانه، وتراها من بعيد زاهية زاهرة، سوف تأسى على أحزانه كأنما هي أمنية، وتود لو تعود إليها كرة أخرى.

قال سيف: فأنت تحن إلى ما قاسيت فيه؟

فقال الشيخ: هي أحلام الشيوخ دائما.

Bog aan la aqoon