42

ولكن انظري يا خيلاء كيف حولها صانعها إلى تحفة حية، بل هي أكثر حياة من كثير من الأحياء.

هكذا هي تمثل أمامنا دليلا على ما يستطيع الإنسان أن يصنع من الحجارة. وهكذا هي تنطق قائلة: «أيها الأشقياء الذين تفسدون الحياة على أنفسكم بالغباوة والحماقة، إنكم تستطيعون أن تصنعوا حياتكم بأيديكم. تستطيعون أن تجعلوا منها وعاء مرمريا بديعا بدلا من تركها قطعة صماء من الحياة.»

وكانت خيلاء تستمع إليه في نشوة، وتعجب أن يكون هذا الذي يتكلم هو سيف الذي رأته في الصباح. بل لكأنها كانت تستمع إلى شخص آخر غير الشاب المرح الذي كان يجلس معها إلى الشيخ أبي عاصم، ويكاد يضيق بما يفيض فيه الشيخ من المعاني. لم يسبق لها أن سمعت منه مثل هذا، لئن كان تبدل فما أسعد هذا التبدل. ومضى سيف يقول: كنت كلما وقفت هنا إلى جنبك يا خيلاء أحس شيئا غامضا لم أكن أفهمه، وإن كنت أحسه. انظري إليه يا خيلاء من بعيد.

وجذبها من يدها خطوة إلى الوراء وضغط على كفها وهو يجذبها، وأغضت خيلاء وعلت ابتسامتها حمرة.

وقال سيف: كأنها قصيدة، كأنها من تلك القصائد التي كان الشيخ يمليها علينا مترنما في إنشادها، وأنا أداري وجهي حتى لا أظهر ضحكي. لم أكن أفهم من قوله شيئا، وكنت أعجب لك كيف كنت تستمعين إليه في استغراق، كأنها قصيدة. ألا ترين ذلك يا خيلاء؟

فقالت خيلاء باسمة: هي كذلك إذا شئت، أو هي كما أسميها أنا فيما بيني وبين نفسي.

فقال سيف مبادرا: ألها عندك اسم؟ لقد حسبت أنني أول من قرأها.

وضحك معتذرا.

فقالت في صوت خافت: أسميها لحظة مسحورة. لحظة من اللحظات التي تمر بالأحياء فتهزهم وتأخذ بمشاعرهم وتنقش على قلوبهم، ثم يثبتها الفنان على قطعة جامدة من الحجر، فإذا هي مثل هذه الصورة التي تسميها قصيدة أو تحفة حية.

فقال سيف في حماسة وإعجاب: صدقت يا خيلاء، وما أبرعها من تسمية. حقا إنها لحظة مسحورة، جعلها الفنان تتحدى الزمان والتغير والفناء، وتبقى خالدة ثابتة وإن تبدل كل ما حولها. ذهب الفنان الرومي الذي صنعها، وذهب هذان الشابان اللذان كانا يقفان يوما في ظلال البستان المزدهر، ودار القمر دورات لا يحصى عددها، ولكن هذه الصورة بقيت خالدة على وعائها. البستان مزدهر أبدا، والطير لا يهبط من سمائه، والشابان يقفان باسمين ويشيران إلى البدر الذي لا يعتريه محاق. السعادة التي تغمرها في مأمن من صروف الدهر. ذهب الجزء الفاني من هؤلاء جميعا وبقيت الصورة تتضمن الجانب الخالد الذي لا يفنى، هما هناك شابان لا يعتريهما كبر ولا ضعف، ولا يداخلهما حزن ولا هم، هو لا يتغير، وهي لا تشك، هما هناك دائما سعيدين، يشيران إلى البدر ويتمتعان بالشباب، بل إن الغصون هناك دائمة النضرة تجري فيها مياه الحياة، وذلك الطير لا يسف ولا تنقطع أغنيته.

Bog aan la aqoon