وخلاصة القول إذن أن دعائم الحكم في بيمونته هي الأشراف والإكليروس والجيش، وهؤلاء مهمتهم تأمين ولاء الشعب بعقيدة دينية وملوكية مشتركة، ولجعل بيمونته محترمة في نظر جاراتها الطامعات، وحسبنا لنبين قوة هذه الدعائم أن نصف العاصمة تورينو كان ثكنات والنصف الآخر أديرة.
هذا ولا يفوتنا أن نشير إلى أنه كانت في المملكة نقابات مؤلفة من الأساتذة والصناع تبث في الأوساط الصناعية روح التنظيم الصارم، أما الفرق بين الطبقات فكان شاسعا، وقد أدى الحكم الإفرنسي الذي استمر من سنة 1798 إلى سنة 1814 إلى رقي عظيم.
ولم يسع الملك فيكتور عمانوئيل حين عودته وأخوه من بعده إلا أن يمنحا بعض الامتيازات على كره منهما، بسبب قوة تغلغل الآراء الحديثة، ويبدو - مما تقدم - أن مملكة بيمونته كانت متأخرة اجتماعيا بالقياس إلى ممالك أوروبا الغربية، وكان القضاء في بيمونته مزيجا من الحقوق الرومانية وحقوق الكنيسة ومن إدارات ملكية وعرف محلي وقرارات للمحاكم غير مدونة، وكانت إيالة جنوة تأخذ بالقوتين الإفرنسية المدنية والتجارية، بينما كان لإيالة «آوستة» تشريع خاص، وكان لبعض المدن الصغيرة أيضا عرفها وامتيازاتها الخاصة بها.
أما التعليم في المملكة فكان متأخرا، وقد أمر الملك شارل فليكس سنة 1822 بفتح مدارس للأولاد في كل مديرية، إلا أن الجديدة منها لم تفتح قبل سنة 1846، أما المديريات الفقيرة فقد حرمت منها، وكان معظم العمال والقرويين أميين ولم يشمل التعليم الابتدائي البنات إلا في سنة 1846 وذلك في بعض المدارس، وكانت الحكومة تقوم بنفقاتها، وكان التعليم فيها ناقصا، وكانت المواضيع التي تدرس فيها قاصرة على اللغة اللاتينية واليونانية وبعض العلوم الطبيعية، أما التاريخ - واللغات الحديثة فلم تكن تدرس فيها.
ويكاد الرهبان يكونون وحدهم المعلمين والأساتذة، وكان همهم أن يلقنوا التلاميذ الطاعة العمياء، ولكن الأذكياء من التلاميذ كانوا يجنحون إلى العصيان أو يندفعون إلى اليأس، وقد أراد الوزير «برسبيرو بالبو» أن يدرب معلمين علمانيين في دور المعلمين، إلا أن مشروعه هذا لم يطبق بسبب قوة الرجعية، ولم يستطع خلفه أن ينفذ هذا المشروع إلا بعد ثلاث وثلاثين سنة.
وكانت جامعتا تورينو وجنوة في حالة سيئة؛ إذ استولى عليهما اليسوعيون بعد سنة 1821، حتى إنه لم يكن يقبل فيهما التلاميذ ما لم يبرزوا شهادة تؤيد اعترافهم وإيمانهم، وكان الجواسيس يراقبون الأساتذة والتلاميذ، حتى إذا ظهرت من الأساتذة أقل بادرة تنم عن استقلالهم بالرأي؛ طردوا من عملهم وحرموا من الوظائف والمهن الحرة.
وكانت الزراعة مهنة أهل بيمونته الوحيدة باستثناء أهل جنوة، ويؤلف أصحاب الأراضي خمسي الأهالي، ويسكن أكثر القرويين في وديان الألبة والأبنين، وكان الكثيرون من القرويين الملاكين في بلاد الزيتون في الريفيرا يعيشون تارة في هناء وأخرى في شقاء عظيم، وكان معظم مقاطعات السهول ملك الأشراف، وهؤلاء كانوا لا يعيشون فيها وإنما يؤجرونها للملتزمين.
وكان الخوف من ازدياد الضرائب يحول دون الإقدام على تحسين الزراعة وتكثير إنتاجها، وقد كان المزارع إذا تأخر عن دفع الضريبة تؤخذ منه مزرعته فيبقى مشردا بلا أرض، وقد استفحل هذا البلاء حتى اضطرت الحكومة إلى رعاية المزارعين، وطلبت إلى المحاكم أن تنظر في تأجيل ديونهم أو دفعها على أقساط مناسبة.
وأهل بيمونته - على العموم - شعب رزين صبور ضيق التفكير، ولكنه يتحلى بقوة كبيرة من الثبات والإرادة، أما الحكومة فعلى الرغم من تأخرها فإنها كانت نشيطة ووطنية معا، وتحبها الرعية بسبب وطنيتها. وكان الناس يحسون في ذات نفوسهم أن مملكتهم سوف تهيمن على إيطالية، ويكاد سكان المملكة يتجاوزون نصف سكان نابولي وصقلية معا، ولكن كانوا أضأل ثروة وأقل ذكاء من سكان لمباردية، وظل امتزاجها بأهل جنوة ناقصا.
وكان خمسا رعيتها يمتون إلى عرق ما وراء الألبة ويتكلمون لغة تختلف عن لغة أهل البلاد، ولكن أخلاق الشعب القوية قد عوضته عن قلة عدده وثروته، مع أن البيت المالك من آل صافويه كان قد رعاه وعلمه الطاعة والانقياد له، إلا أنه طبعه بشمائل الرجولة والحرية الأمران النادر وجودهما في إيطالية، وكان القرويون ذوي قدرة على الكفاح واحتمال للمشقة دون أن ينوءوا بما يحتملون، ويمتازون بإخلاصهم واستعدادهم للتضحية؛ فلذلك كانت سياسة الحكومة التقليدية توجيه الشعب إلى التطلع للشرف والطموح إلى التقدم، وكانت كلمة «ميلانو» شعار الملوك، وكان «دي ميستر» رسول المدرسة الحديثة التي تستهدف أن يكون لإيطالية تاج واحد، وقد رجا من فيكتور عمانوئيل «أن ينسى عرش بيمونته وأن يفكر في عرش إيطالية.»
Bog aan la aqoon