ويظهر أن الإمبراطور كان قد أفهم كافور قبل فيلافرنكة بأنه يساعده على أخذ الروماني، ولعله اشترط عليه بأن يمارس البابا حق سيادته عليها، وبعد مرور بضعة أيام على هذا الحديث وصل دازجيلو إلى بولونيه متزودا بصلاحيات جعلت محدودة؛ وذلك عملا برغبات الإمبراطور، بيد أنه ضرب بالتعليمات التي أصدرت إليه عرض الحائط وقبض على زمام الحكومة بالفعل، وكان كافور قد تخلى في ذلك الوقت عن خطته بشأن أوميريه، فأخذ يشجع أهل المارك على الثورة بهمة .
يتضح لنا مما مضى أن الرغبة في الوحدة قبل فيلافرنكة قد اشتدت في جميع أنحاء إيطالية، وكان اكتشاف المؤامرة التي دبرت في قصر الدوق الكبير ووجود ابنه في الجيش النمسوي في معركة صولفرينو قد أزالا اعتبار آل لورين في نظر أشد المخلصين لهم، كما أن حادثة بيروزه حملت أهل الروماني على التسلح لمقاومة متطوعة البابا مهما كلفهم الأمر.
وأخذت الرغبة في تأسيس مملكة قوية تحتوي جميع أقسام إيطالية الشمالية والوسطى؛ تقوى وتشتد باستمرار في نفوس الجماعات القومية على اختلاف نزعاتها، على أن بعض الناس كانوا لا يزالون يميلون إلى الحكم الذاتي وأمثال كابوني وريد ولفي قد وافقوا على الانضمام مكرهين؛ لأنهم لم يجدوا حلا آخر غير الانضمام، وجاءت حادثة فيلافرنكة فعدلت الآراء؛ إذ ظهر أن الاتحاد أمر يصعب إنجازه ما دام النمسويين في فنيسيه وما دام جيش البابا يهدد مقاطعة لاكاثوليكة في الروماني ودوقة مودينه يتحين الفرصة لاجتياز نهر بو بجنوده، فالاتحاد في حالة وجود هذه العوامل سيظل حبرا على ورق أو ساحة نزاع بين المبادئ سيجر إلى الحرب عاجلا أو آجلا.
وأصبحت فكرة الوحدة عقيدة ولما حاول رتازي الذي تولى رئاسة الوزارة بعد كافور أن ينفذ شروط المعاهدة، وجد نفسه أمام اجتماع شعبي عام وتآمر شامل للقضاء على هذه المعاهدات والحيلولة دون تنفيذ شروطها، ووجد الطليان في الوسط زعيمين من الطراز الذي يحتاجون إليه رجلين عنيدين صلبين، حازمين لا يخافان المسئولية ولا تؤثر فيهما المخاطر والدسائس ولا التملق ولا الوعيد.
أما الأول فهو لافارينا، وقد برهن كافور عن نظر ثاقب بعيد بإرسال زميله وصديقه لافارينا إلى مودينه لما ثارت بعد معركة ماجنتا، وكان لافارينا طبيبا من أهل رافينة، وقد اشترك في عدة مؤامرات، وبعد أن ظل في المنفى مدة قصيرة عاد بعد العفو الذي أعلنه البابا بيوس، ولعب دورا خطيرا بين الأحرار المعتدلين في إيالته، والتجأ سنة 1849 إلى بيمونته ولعله غدا أول نصير لكافور في مجلس الأمة، وكان لافارينا رجلا شعبيا شجاعا نزيها متحليا بإرادة قوية وعزيمة ماضية، وقد جعلته معاهدة فيلافرنكة لا يعبأ بأوامر فرنسة وبتهديدات النمسويين.
أما الثاني فكان ريكاسولي زعيم طوسكانه وهو أجمل وجوه تاريخ إيطالية الحديثة، كان بتينو ريكاسولي من الأشراف الأحرار الذين أسسوا جمعية جورج فيس، وتزعموا حركة الدستور في طوسكانه سنة 1847-1848 إلى أن تسلم زمام الحكم للدموقراطيون، وأصبح منذ سنة 1856 شديد التحزب للوحدة مؤمنا بأن إيطالية سوف تنال حريتها بيدها، وكان يكره الاعتماد على سياسة الأجنبي والاستعانة به، ومع أنه لم يرتح للحلف الإفرنسي إلا أنه اعتزم أن يجعل طوسكانه مثلا في الضبط والتضحية في سبيل الوحدة إلا أنه لم يكن يرغب قط في أن تصبح إيطالية الجديدة بيمونته مكبرة، ولم يوافق على أن تتخلى طوسكانه عن حضارتها القديمة ومؤسساتها الإنسانية.
وكان ريكاسولي يمت إلى أسرة عريقة في زعامتها أوتوقراطيا بكل معنى الكلمة، وجريئا قوي الاعتداد بنفسه، وكان ملاكا خشن الطباع نشيطا، يعامل مزارعيه بقسوة شديدة في سبيل تمدينهم وإغنائهم، وكان يأنف من الانحناء أمام الملك أو الشعب.
أما من حيث العقيدة السياسية فكان دموقراطيا صادقا يكره البلاطات كره الجمهوريين لها، ويحتقر الإكليروس احتقارا، ويدعو إلى أن تخضع الكنيسة للدولة، ويمقت البلاط البابوي أشد المقت.
وحالما بت في معاهدة فرنكة أبرقت حكومة تورينو إلى مندوبها في بولونيه وفلورنسة ومودينه وبارمه طالبة إليهم أن يتركوا مناصبهم وأن يعودوا، غير أن كافور قد عقد النية على أن لا يتخلى عن مناصبه - كان يتولى إذ ذاك عدة وزارات - قبل أن يبذل آخر جهد لإنقاذ مشروعه فأبرق لفارينا «السلاح والمال.» وأوعز إلى دازجيلو بأن يستمر على عمله من دون أن يهتم بمعاهدة فيلافرنكة، وأوصى ريكاسولي بأن يبقى في منصبه وأن يدعو إلى عقد مجلس تمثيلي، وحثهم الملك على أن يكونوا أهل مضاء وعزيمة، وكان المندوبون من الرجال الذين خلقوا لاقتحام العقبات وتذليل المصاعب، فانسحب بون كومباني وترك منصبه لريكاسولي رجل الساعة، أما دازجيلو فرفض العودة قبل أن يقيم حكومة مستقرة وقبل أن يجهز قوة من المتطوعين لحماية الحدود ضد الجنود السويسريين في أوميريه.
أما لافارينا فقد ذهب إلى مودينه بلا جنود ولا مال تاركا مهمته التمثيلية ليصبح في اليوم التالي دكتاتورا على مودينه أولا وعلى بارمه ثانيا، وقد قال: «سأموت قبل أن أطرد.» وأبرق إلى ريكاسولي يقول: «أنا صاحب الشعب، بالاتحاد في العمل ننال الظفر وإذا اقتضت الأمور الجرأة فأنا لها.» ولو تخلى المندوبون عن مناصبهم لانقطع الرجاء في إيطالية الوسطى، وكان الشعب يسير وراءهم كالبناء المرصوص حتى إن لافارينا قال: «إن إيطالية لم توقع على معاهدة فيلافرنكة.» ولم يحدث أي اختلاف في الرأي بين الأحرار والمحافظين في موضوع المعاهدة واستنكارها، فبينما كان ولفي الديمقراطي وصاحب المصرف في فلورنسة يجهز حرسا قوميا راح ريد ولفي الذي ظل إلى تلك الساعة مترددا يطالب باستئناف القتال، وهكذا، لم يكن في إيطالية إلا شعب مقدام يقوده رجال لا ترهبهم المخاطر قد صمموا على أن لا يتركوا الميدان.
Bog aan la aqoon