ولم يحل وجود فيكتور عمانوئيل زعيما للحركة دون حاجتها بطلا شعبيا، وقد استطاع باللافيجينو أن يجد هذا البطل في شخص غاريبالدي، وقد استحق غاريبالدي هذه المنزلة بفضل شجاعته الخارقة في مونته فيديئو وروما، وشمائله الكريمة النزيهة التي كونت منه رجلا دموقراطيا نبيلا، أما جرأته الخارقة وتفانيه في القيادة فقد جعلتاه معبود إيطالية، وكان يكره الدسائس السياسية ويمقت ألاعيبها وكان ذا ثقافة محدودة، قاصر الرأي في المفاهيم السياسية.
ولقد كان يتحين الفرص فتارة يحسن انتهازها وتارة تفلت منه، وأحيانا يتمسك بها في عناد، على الرغم من أن الظروف قد تتطلب التخلي عنها، وكثيرا ما كانت أساليبه مؤثرة لبساطتها ونزاهتها، إلا أنها يعوزها التبصر واتساع الأفق، وكان يؤثر الدكتاتورية على الحكم البرلماني.
وخلاصة القول: كان غاريبالدي عبارة عن قوة جمة النشاط لكنها غير منظمة، تستطيع ببطولتها أن تسطر صحيفة خالدة في التاريخ، كما كان يمكن أن ينجم عنها ضرر بليغ.
وقد أقصي غاريبالدي عن بيمونته سنة 1849، ثم سمح له بالعودة بعد انقضاء أربع سنوات على نفيه فأقام في كاربيره، تلك الجزيرة الصحرية الصغيرة القريبة من ساردينه، وعاش فيها عيشة مزارع، تلك هي الحياة التي كان يتعشقها وكان وقتئذ لا يزال جمهوري النزعة، يمقت النمسويين والبابا مقتا شديدا.
ولكن جميع الظروف ومقتضيات الأحوال كانت تعمل على استجلابه إلى حظيرة الحزب الجديد، وقد انتهى الأمر أخيرا كأكثر الجمهوريين إلى وضع ثقته في فيكتور عمانوئيل وفي كافور إلى حد ما، وكان على استعداد لمحاربة النمسة مع أي حليف كان حتى مع الشيطان نفسه إذا كان الشيطان خصما للنمسويين، وانضم بناء على إلحاح رجال لافارينا إلى الجمعية القومية في صيف سنة 1856.
وبينما كانت الجمعية القومية تعد العدد وترسم الخطط التي تضمن المستقبل كان أهل الجنوب يتشوقون إلى ظفر عاجل، وكانت إنجلترة لا تريد أن تقوم بأي عمل يساعد إيطالية الشمالية، بيد أنها كانت في الوقت ذاته ملتزمة أدبيا مثل فرنسة بالضغط على روما ونابولي، وكاد الإمبراطور يسحب جنوده من روما ويجبر النمسة بالقوة إذا اقتضى الحال على إخلاء الروماني لولا خضوعه في أغلب الأحيان لنفوذ الإمبراطورة والإكليريكيين.
وطالما كان ينصب نفسه مدافعا حارا عن الإصلاحات، أما الوزير المفوض البريطاني «كلارندن» فكان طليق اليد لا يهاب من ناحيته الإكليريكيين؛ فلذلك نراه يستعمل كلمات قاسية في وصف الاستبداد، إلا أن أنتونللي أجابه بحذق بأن الشغب الذي ولده مؤتمر باريس حال دون أي تساهل مع الأحرار وتوقع بأن يعتصم ضد اتهامات الإمبراطور برسالة التبرئة التي أرسلها السفير الإفرنسي إلى الإمبراطور، ولعل أنتونللي كتبها بنفسه، أما الإمبراطور فلم يقتنع بتلك الرسالة بل استدعى سفيره وخاطب البابا بكلام قاس حتى أظهر أنه سيطالب بمنح الروماني والمارك حكما ذاتيا مما اضطر أنتونللي إلى أن يتظاهر بعزمه على التساهل فطبعت لائحة قانون منقح للعقوبات إلا أنها لم تنشر أبدا، وبت في مصير انسحاب الحاميات النمسوية من بولونيه وإنكونه.
وشرع البابا في جولة في أنحاء الروماني، وقد تلقى الأوامر بتنظيم مظاهرات الإخلاص إلا أن الأحرار - بالاشتراك مع كافور والسفير البريطاني في تورينو هدسن - قاموا بتدابير معاكسة، وتقدمت المجالس البلدية بطلبات الإصلاحات، ولما منعت الحكومة المجالس من عقد الاجتماعات الرسمية قدمت هذه مذكرات غير رسمية، واستقبل الناس البابا بفتور، أما في بيروزه فاستقبلوه بصرخات «الخبز والدستور».
وحين بدأ البابا يميل أخيرا إلى تلبية طلب الأهلين؛ اعترف بمرارة بأنه ليس لديه الجرأة الكافية بالإصلاحات، وبذلك حكم على نفسه بالعجز وقضى على آخر ما يمكن أن يعقد عليه من الآمال، وقد اشترك أهل روما أنفسهم أيضا بالطلبات ولكن حكومتي باريس ولندن ارتأتا أن تصرفا النظر في الوقت الحاضر عن اتخاذ تدابير جدية.
وكانت الأمور في نابولي أسوأ مما هي عليه في روما، وقد ألح والويسكي وكلارندن كثيرا على فرديناند أن يمنح العفو وأن يصلح الحكومة، وكانا يقولان له بأن لهما الحق في التدخل لأن وضع المملكة ينذر بالثورة ويدعو لها ويهدد السلم في أوروبا، ولكن فرديناند رفض إجراء أي إصلاح بتعنت شديد، وكان المسجونون السياسيون على الرغم من الصرخات الاستنكارية التي تصاعدت من أنحاء أوروبا المتمدنة يعاملون دائما في وحشة زائدة، وقد حبط المشروع الذي رتبه هدسن وبانيزي لإخراج المسجونين من السجن.
Bog aan la aqoon