وشرعت الجمعية القومية بالقيام بدعاية متقنة، ولما كان الحزب البيمونتي قويا في شمال إيطالية؛ فإنه أخذ يوطد قدمه في الأنحاء الأخرى، وقد استطاعت الجمعية أن تجذب إليها جميع الناس في لمبارديه وفنيسيه وفي الدوقيات، أما في طوسكانه فظل أنصار الحكم الذاتي من الأحرار أقوياء، ولكن نفوذهم أخذ يتضاءل أمام دعاية الجمعية القومية، ثم انحاز معظم أنصار مازيني إلى جانب الجمعية، وشرع الشبان من أهل طوسكانه ينخرطون في سلك جيش بيمونته وأخذ ريكاسولي يبشر بالثورة وبالوحدة.
وقد رسخت الجمعية أقدامها في الروماني وفي روما نفسها، وانحاز معظم أنصار مازيني إلى صفوفها، وكان نفوذ الجمعية في نابولي وكلبريه وفي لاباسيلكانة عظيما بفضل مساعي الحزب البيمونتي فيها وجمعية الوحدة الإيطالية.
أما في بيمونته التي كانت مطمح الآمال ، فلم تتقدم الفكرة الجديدة فيها بادئ الأمر إلا قليلا، وكانت الجمعية القومية قد استهدفت في منهاجها ملكية تتعدى حدود إيطالية الشمالية، ولا تريد أن تختار تورينو ولا ميلانو قاعدة للحكم، بل ترغب في أن تجعل فلورنسة أو روما عاصمة إيطالية المتحدة.
واتخذت الجرائد - ما عدا واحدة منها - خطة الحذر من الجمعية وأظهرت حكومة بيمونته نفسها ترددا تجاه «المنهج العظيم الشأن» وعادت سياسة كافور، بعد أن خفت الهياج الذي أحدثه المؤتمر، كما كانت، سياسة تقدمية حذرة، وظل هدفه في هذه السياسة ترقب الفرص؛ للظفر بمحالفة فرنسة مهما كلف الأمر وتجنب - جهده - كل عمل ثوري، قانعا بمراقبة الأمور وسحق الجمهوريين، واستغلال الحركة القومية لمصلحة الملكية، وحث الآخرين على السير بالحركة إلى الأمام وعدم السير وراءهم إلا في حالة نجاحهم.
وقد رفض كافور أن يتنزل عن آرائه في النقاط الجوهرية التي كان على خلاف مع البابا بشأنها، رغم رغبة الملك في المهاودة معه، واستعد لمساجلة طوسكانه وبارمه الخصومة، وكان يميل إلى إعادة العلاقات السياسية مع النمسة؛ إذ بادرت النمسة إلى طلب ذلك، بيد أنه كان يحذر كثيرا سلوك سياسة تتعارض ومشاريع الإمبراطور نابليون، ثم اتجهت ميوله نحو السير إلى الأمام بخطى واسعة وإقدام إذا سمحت الظروف بذلك، حتى إنه قال لفارينا في تلك السنة: «إنه يؤمن بأن إيطالية سوف تصبح دولة موحدة عاصمتها روما.»
وقد تظاهر بميله إلى الجمعية القومية لا لأنه كان يعتبرها واسطة مكافحة للآراء الجمهورية فقط، بل لأنها احتملت تبعة السير على نهج جريء، وإذا استطاعت الجمعية القومية أن تكون في إيطالية قوة تساعد على الاستغناء عن الإمبراطور وتقود الثورة على ألا تمس العرش، فإن ذلك هو ما يرجوه وينشده وكان يترقب الحوادث ويقول: «لا فائدة من وضع الخطط فكل شيء يتوقف على الحوادث فيما إذا كنا نستطيع أن ننتهز الفرص.»
إذ ليس من مصلحة البلاد أن يخاطر بالحكومة أو بنفسه من أجل تقاعسه عن تقديم مساعدة للثورة في «بنتي فيجنه» في صقلية، وامتنع من تشجيع الحركة الثورية في طوسكانه وساعد على قمع الثورة في كرارة، واتخذ جميع التدابير لمنع التبرعات لشراء البنادق، بيد أن ذلك كله لم يمنعه من تشجيع رجال الطليعة سرا واستطاع بمقابلاته لفارينا في اجتماعاته الصحفية والسرية أن يدير أكثر حركات الجمعية القومية.
وقد اجتمع بغاريبالدي وقال له بأن يشجع أصحابه الآخرين، كذلك شجع حركات الانفصال في صقلية ومشروع بانيزي بإخراج سيتمبريني ورفقائه من السجن، حتى إن مازيني نفسه اعترف بأن كافور إيطالي قلبا وقالبا.
على أن كافور وقف في أوائل حركة الجمعية القومية موقف السياسي المتردد، ولما كان باللافيجينو خصما لفكرة الحلف الإفرنسي على الضد من كافور؛ فإنه كان لا يثق بكافور، وأراد أن يسقطه من رئاسة الوزارة مؤملا أن يخلفه مانين، بيد أن مانين استطاع بمحاكمته الهادئة أن يقنع باللافيجينو بأن كافور يسير وراء الجمعية القومية إذا استطاعت أن تهدي الرأي العام، وأن أحسن سياسة تقضي باكتساب كافور في الاستيلاء عليه وحمله على الانضمام إلى معسكر أنصار الوحدة.
على أن مانين نفسه كان لا يعتمد على كافور إلى الحد الذي يضع فيه جميع ثقته، فاعتزم أن يكسب جانب الملك، وكانت طبيعة الملك أكثر انبساطا في إباحة الأسرار وأشد صفاء، بينما كان كافور يتجنب الانفتاح، ومع أن عطف كافور على الحركة القومية كان لا يقل حماسة عن عطف الملك ولكن هذا الأخير كان بصفته جنديا يمقت النمسويين كل المقت وينتظر - بفارغ الصبر - يوم المعركة والانتقام، حتى إنه قال ذات يوم لبلافيجينو: «إذا لم تبكروا بالشروع فسأبدأ أنا.»
Bog aan la aqoon