هو يعلم أن كثيرا من النظامات البشرية نظامات بربرية وحشية، وأن خضوع الجماعات لهذه النظامات بحكم العادة أحد مناقص الطبيعة الإنسانية، وجزء لا ينفصل عن طبيعة الضعف الكامن في قلب الإنسان، ولكنه مع هذا يحاول أن يجد لهذا الضعف مبررا، ولتلك المناقص أعذارا واهية ساقطة، بله الدفاع عن نظامات إن دلت على شيء، ففي أول ما تدل عليه نقص في الفطرة، وميوعة في طبيعة الأشياء الإنسانية، هي لدى الواقع، إحدى المكونات الأولية التي استحدثت ما ندعوه بالتاريخ الإنساني.
هو يعلم أن الأوهام هي التي شيدت معابد الكلدان ومصر، وأنها هي التي ألهت بوذا وكونفوشيوس، وأنها هي التي أقامت الأهرامات، وأن هذه النظامات بعد أن استمدت من الأوهام أصلا قامت عليه، أخذت تعمل على أن تمد من أجل الأساطير وتطيل من عمر الخرافات، ومع ذلك، فهو يحاول أن يدافع عن أشياء أساسها الوهم، وأصلها الخيال.
هو يعلم أن نظام الملكية، نظام مستمد من أصول وحشية أولى، ونظامات بدائية قيامها في العصر الحاضر، بمثابة الأحافير تقوم في باطن الأرض، برهانا على أن صورا من أمثالها عاشت على الأرض، في عصر من العصور، ومع ذلك تجد المؤرخ يحاول الدفاع عن هذا النظام، إن كان في نظام ملكي، كما يدافع عن الجمهورية إذا كان في نظام جمهوري، وعن الفوضوية إذا كان في نظام فوضوي، على سعة ما بين هذه النظامات من تباين واختلاف.
هو يعلم أن نظام الخلافة نظام فاسد، كما كان نظام البابوية في روما، ولكنه مع ذلك يحاول أن يستمد من التاريخ مبررا له، أو يعمد إلى القول بأنه نظام ليس من روح الإسلام في شيء.
شبهات وشكوك وأبحاث ضائعة، فيها من المواربة واللهف ما تغني عنه كلمات وجيزة، وأسطر معدودة. شبهات وشكوك أول باعث عليها شعور عميق بما في النظامات الإنسانية من نقص، لا يبعد أن يكون في العقل الإنساني نقص يناظره، به يبعد الناس عادة عن رؤية الحقائق كما هي، أو كما هي واقعة.
صدر كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، فحاول صاحبه أن يثبت أن الخلافة ليست من نظام الإسلام في شيء، وعمد إلى أقوال المعاصرين في صدر الإسلام، وإلى الأحاديث وهي أقوال وأحاديث إن دخل الشك في شيء، فهي أول ما دخل فيه الشك، وإن تناوبت الشبهات على شيء، فهي أول ما تناوبت عليه الشبهات. يعمد إلى هذا ليبرر إلغاء الخلافة، فهو في ذلك مثال المؤرخ تشابهت عليه الحالات، وقامت في نفسه مشاعر ملؤها الاعتقاد بالنقص الإنساني وخضوعه للأوهام، فحاول أن يستمد من غير الواقع أوجه دفاع عن النفس الإنسانية أولا، ثم عمد بعد ذلك إلى تقرير ما يخالف الواقع إرضاء لمنازع فئات هو يعتقد أنها مخطئة، وأنها على ضلال. ولو أنه ترك كل هذا وقال إن الخلافة نظام ورث عن الإسلام، ولكنه لا يوافق روح العصر، ولا حاجات الزمان الحاضر، لوجد أنصارا من نفس الذين يخالفونه في رأيه الأول مصبوبا في القالب الذي صبه فيه، ولكان أقرب إلى الحقيقة، وأقرب لفضائل المؤرخ تخلص من شبهات الوهم التي تقوم في الذهن عادة لدى التفكير في نظام الجماعات.
ولسنا نريد أن نفتح بابا جديدا، يلجه المؤرخون ويأخذون بتلابيبنا كما يفعل الأدباء في مناقشاتهم الأدبية، قائلين أين الحجة التي تؤيد بها أن الخلافة أصل من أصول الإسلام؟ والحقيقة أن الخلافة ليست أصلا من أصول الإسلام، ولكنها كما قلنا نظام ورث عن الإسلام في نشأته الأولى؛ فإن محمدا كان نبيا ومشرعا، وقائد جيش، ومقيم إمبراطورية، وملكا غير متوج على معنى الملكية قديما وحديثا، بل حصرت في شخصه قوة السلطتين الروحية والزمانية، وعلى هذا النظام سار الخلفاء الراشدون من بعده، وعنهم ورثها معاوية في الشام، والعباسيون في بغداد، والفاطميون في مصر، والعثمانيون من بعدهم.
إذن فالخلافة «نظام» إسلامي مأخوذ من روح الإسلام، ومن تقاليده الموروثة التي قام عليها في نشأته الأولى، وكان لزاما على الإسلام أن يحصر السلطتين في يد موجده أولا، في عصر كثرت فيه الفتن وقام العرب يناوئون الإسلام والمسلمين، فلما مهدت الحروب الداخلية سبل الحياة بعد انتصارات أيدته ورث النظام وعليه سار الإسلام والمسلمون.
لهذا نعمد إلى مؤرخ ثبت ننقل عنه قطعا، نثبت بها أن الإسلام كل لا يتجزأ، ووحدة لا تفصم عراها، وأن الخلافة باعتبارها نظاما إسلاميا، لا بد من أن تكون أحد أجزاء السلسلة التي تكون عقد الإسلام.
نعمد إلى العلامة كارل ه. بيكر
Bog aan la aqoon