فإذا رجعنا إلى المستكشفات الحديثة في علمي الإنسان والشعوب، واعتمدنا على ما وصل إليه العلم فيهما، وفرضنا أن الإنسان نشأ في أواسط آسيا، استطعنا بنظرة واحدة في توزيع الشعوب البشرية في آسيا وأوروبا أن نثبت هذه الحقيقة؛ ففي الطرف الغربي من أوروبا أرقى أمم التيوتون والأنجلوسكسون، يناظرهم في الطرف الشرقي من آسيا أرقى أمم المغول، بريطانيا العظمى من ناحية، واليابان من ناحية أخرى. ولقد فازت الأولى في ثلاثة قرون بحكم الدنيا، ومن ذا الذي يعلم ما سوف ينجلي عنه مستقبل الثانية.
هذه الحقيقة التي لا ينازع فيها هي السر في تقدم الغرب وتأخر الشرق. وإنك لتجد أن صفاء العقلية يتدرج من حدود روسيا إلى الجزر البريطانية، ومن حدود بغداد إلى اليابان، بل إنه يتدرج في سلسلة عجيبة من الحلقات المتتابعة.
إذا أدركنا هذه الحقيقة، عرفنا لماذا ارتقى الغرب ولماذا ترك الشرق غارقا في بحار الدينية مستسلما إلى الآخرة، مستنيما لحكم الفقهاء والأمراء المستبدين بأمرهم، الممثلين لله فوق الأرض. فكرات حملها المقدمون فصارت لهم تبعا، وغرق في بحارها الجامدون فصاروا لها تبعا، هكذا كل ما في الأمر.
ولكن هل يمكن لمن يظل جامدا من شعوب الشرق وورث عن النشأة الأولى موحيات اللاهوت البدائي، أن ينتحل العقلية المرنة التي دفعت بأهل الشرق الأقصى إلى المحيط الهادي، ولولاه ما وقفت هجرتها، ورمي بأهل الغرب إلى بحر الظلمات، ولولاه لما صدها عن الإقدام صاد ولا حال دون هجرتها حائل؟ لا أعتقد أن هذا من المستحيلات، بل أعتقد أنه أهون الممكنات، ولكن بعد بضعة تجاريب بسيطة . هزات عنيفة تحرك الجمود، ودماء تراق في سبيل العتق، وثورات طاحنة، كانت ثورة الأتراك أولاها، وثورة الأفغان ثانيتها.
هذا هو التعليل الصحيح للمبررات التي جلعت لقولة «كبلنج» ذلك الصدى العميق، وهي على ما فيها من بساطة التركيب، مبررات على كل حال، ولكنها لا تقوى على مقاومة التحليل التاريخي على ما أرى.
ولست أريد أن أستعمق بعد هذا التحليل في البحث والتنقيب، فالحقائق بينة والطريق ممهود، لولا بعض عقبات ليس تذليلها في حيز المستحيل؛ لهذا نترك البحث، لنمهد لك طريق الدخول لاستيعاب العقلية التركية الحديثة التي هي في معتقدي مثال العقلية السليمة، في الشرق الأوسط أو الشرق اللاهوتي، وارث الجمود والأساطير.
الخلافة
ما من شبهة تقوم في عقل المؤرخ فتورثه الحيرة والارتباك، أكبر من تلك الشبهة التي يحاول أن يتخلص منها في كل مدرج من مدارج التاريخ البشري إذ هو مكب على رواية حوادثه، شبهة أن المدارك الإنسانية ناقصة، وأن النفسية الضمامية، أي نفسية الجماعات، نفسية بدائية، فيها غرارة الفطرة الأولى، وسذاجة الطفولة، وضعف الخنوثة، واستكانة الرق والعبودية.
هي لدى الواقع حقيقة ثابتة، تقوم في عقلية المؤرخ لابسة صورة شبهة أو شك مبهم غامض؛ ذلك لأن المؤرخ إن استطاع أن يدرك حقيقة البشرية على صورتها الصحيحة، فهو أول شيء مغلول الفكر بأنه أحد أفراد بني الإنسان، إن شك في مداركهم فقد شك في مداركه، وإن أنحى عليهم بالنقد، فهو بديا ينتقد شيئا هو جزء منه، وقطعة لا يمكن أن تنفصل عن أصلها إلا لماما؛ لتعود إليه مرة أخرى، بقوة جذب خفية عميقة الأثر في تصاريف الحيوان الناطق.
هو يعلم بأنه مكب على رواية سخافات جديرة بأن يكون الإنسان خالقها من العدم، وسفاسف ما قامت في عالم الحياة إلا بقيام الفكر البشري، مسودا على ما في الحياة من صور، ثم هو، بجانب هذا، يحاول دائما أن يستمد من الخيال قوة يستقوي بها على منازع النقد؛ ليخفي الحقيقة عن نفسه أولا، ثم يحاول إخفاءها فيما بعد عن بقية الناس.
Bog aan la aqoon