Wahat Cumr
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
Noocyada
وكانت جماعة «النقد الجديد» التي كونها رشاد رشدي في العام السابق تضم نقادا وكتابا لا يمكن أن ينتموا جميعا إلى النقد الجديد، وأذكر أننا اجتمعنا ذات مرة حول منضدة كبيرة في المسرح القومي، وكان من بين الجالسين سعد الدين وهبة، ونعمان عاشور وعبد المنعم سليم، وأننا اجتمعنا مرة أخرى في مجلة «بناء الوطن» في مجلس قيادة الثورة القديم بالجزيرة، وكان من بين الحضور الدكتور محمد صقر خفاجة والدكتورة سهير القلماوي! وأننا عقدنا ندوة لمناقشة التطور الموسيقي لمحمد عبد الوهاب، حضرها الموسيقار الكبير بصحبة صديقه الدكتور مصطفى محمود، وكان المحاضر هو سليمان جميل، والمعلق هو سعيد عزت! ومع ذلك، ورغم اختلاف النزعات والاتجاهات، أحس كبار نقاد العربية، خصوصا من أبناء دار العلوم، بخطورة «الحركة»، وسرعان ما كونوا جماعة «النقد القديم» وكانت تضم الدكتور الغنيمي هلال، ومحمد مندور، وعبد القادر القط ... وآخرين! وكتب الدكتور هلال «مانيفستو الجماعة» الذي ركز فيه على الرسالة القومية للأدب، وكان في ذلك يناشد السلطة أن تناصر الجماعة «المحافظة» وأن تحمي المجتمع من دعاة «الفن للفن»، ولا شك أن رشدي كان يتوجه من طرف خفي أيضا إلى السلطة؛ طلبا للحماية من «التيارات الشيوعية»!
كان اللون السياسي مقحما على المعركة، مما جعل الكثيرين يحسون بأنها لم تكن معركة أدبية «خالصة»، ولكن النتيجة كانت لونا من الاستقطاب؛ فالاشتراكية التي تدعو إليها الدولة رسميا تتضمن جوهرا من المبادئ السامية التي لا يمكن لعاقل أن ينكرها، وكان بعض أفراد «جماعتنا» من أعضاء اليسار المشهود لهم بالامتياز؛ مثل لطفي الخولي ولطيفة الزيات! ولذلك كان من التبسيط المخل تقسيم التيارات الأدبية حينذاك إلى يمين ويسار، أو إلى مناصري الفن ومناصري الأيديولوجيا؛ فكل من الجانبين يسلم بأن الآخر على حق في بعض المبادئ الأساسية، بل وفي المبدأ الجوهري الأول وهو أن يكون الفن فنا، وإن كان فريق النقد الجديد يفضل إقصاء الاعتبارات غير الفنية عند «الحكم على قيمة» العمل الأدبي، بينما يصر فريق النقد القديم على أن تكون لهذه الاعتبارات أهمية أولى، إلى جانب تفضيل فريق النقد الجديد إرجاء الحكم على القيمة إلى ما بعد التحليل الفني، وتفضيل فريق النقد الجديد إلى أن يكون الحكم هو الأساس، وأن يكون المعيار هو الفكر أو الأيديولوجيا جنبا إلى جنب مع الفن!
ولم أكن آنذاك مولعا بالنظريات، بل كان همي هو الكتابة الإبداعية، ونجحت خلال عام 1963م في حجز مكان لدراسة الأنثروبولوجيا بجامعة أكسفورد، كما استطعت حجز مكان لدراسة علم اللغة الحديث بمعهد الدراسات الشرقية بجامعة لندن. ولكن عام 1963م شهد بزوغ نجم علي صبري، ووصوله إلى رئاسة الوزارة، وكنت أعرف من صديقي فتحي رضوان أخبار الصراع في دوائر السلطة العليا بين فريق عبد الحكيم عامر وفريق عبد الناصر؛ فالصداقة بين الرجلين لم تمنع أن يكون لكل منهما رجاله، فكان الأول عدوا لعبد القادر حاتم، فيما علمت، وكان ذلك وراء عرضه بالتحقيق في موضوع مسرحيتي؛ لأنه كان يترصد الأخطاء له في مسرح التلفزيون، وكنت أتابع ما يدور من بعيد فأنا لا أحب السلطة بطبيعتي وأنفر منها. ولكن قرار علي صبري آنذاك بمنع المواطنين من السفر إلا بموافقة شخصية منه جعلنا جميعا نحس بالسلطة ونعمل لها ألف حساب.
صدر في صيف 1963م كتاب «درايدن والشعر المسرحي» (دار المعرفة)، وبعده بقليل صدرت ترجمتي لكتاب «حول مائدة المعرفة» (دار فرانكلين) وكان على غلاف الأول اسمي واسم مجدي وهبة، وعلى غلاف الثاني اسمي واسم المراجع عثمان نوية، واسم كاتب المقدمات - عباس محمود العقاد! ولكن انشغالي الأول في الصيف كان بمسرحية البر الغربي! كانت المسرحية تصور كيف تصنع قرية على شاطئ النيل الشرقي صورة البطل الذي يتخذ صورة الخط أو السفاح أو المجرم العاتي، فهو ما يسمى في النقد بالبطل الضد، ولكن القرية تحس بأنها في حاجة إليه باعتباره الخطر القائم في الشاطئ الغربي، والذي تفصلها عنه مياه النيل! إنه «قوة» غامضة، وقد يكون شخصا لا وجود له، ولكنه يعتبر «الخطر» الذي يوحد جهود أبناء القرية، ويجعل لها «قضية»، وإذا كان صحيحا أن القرية قد تعايشت مع هذا الخطر باعتباره قدرا لا فكاك منه، فإنها لا تنفك تحلم بزواله، وتبدأ الأحداث الحقيقية في المسرحية حين «يشاع» أن ذلك المجرم قد قتل، ويتهم بقتله مدرس بسيط، وهو بطبيعة الحال بريء، وعندما يطلق سراحه ويعود إلى القرية، يجد من جانب الجميع تمجيدا وإكبارا وإجلالا «يوهمه» أنه حقا بطل! وسرعان ما يتحول البطل المنقذ إلى خطر داهم، وهو خطر يعيش بين ظهرانيهم هذه المرة، ولا تفصلهم عنه مياه النيل! ويتمثل جوهر المسرحية في التحول الذي ينتاب «البطل» المزعوم؛ إذ يتحول إلى «بطل ضد»، ويصبح خطره محسوسا؛ فهو يفرض الإتاوات ويتحكم في الحياة الاقتصادية بل وفي الحياة اليومية للقرية، حتى نصل إلى ذروة تحس فيها القرية بحاجة ملحة إلى التخلص منه! وعندما يقتل «البطل الجديد» تنسب القرية شرف الخلاص إلى شخص أبعد ما يكون عن البطولة، وهو عبيط القرية! ومثلما حدث للمدرس البسيط، يطلق سراح العبيط ويعود إلى القرية لتكلل هامته بأكاليل الغار، ومن ثم يصبح «البطل الضد» الجديد!
وهكذا تنتهي المسرحية. والبطولة فيها ولا شك ليست للأفراد بل للمجموع، وهو مجموع يعيش في ظل تراث رهيب من الظلم والقهر، جعله يعتمد على وجود «خطر ما»، سواء كان هذا الخطر حقيقيا أو متوهما، وأما الخطر كل الخطر فهو أن يتحول «الخطر البعيد» إلى «خطر قريب» يعيش بين ظهراني أهالي القرية، والشخصيات التي تصورها المسرحية ليست فقط شخصيات «واقعية»، بل أكاد أقولها إنها حقيقية بمعنى أنني لم أكن «أختلقها» بل أكاد أنقلها من الواقع نقلا! كانت فكرة استبدال خطر داخلي بخطر خارجي مستوحاة، بطبيعة الحال، من الواقع السياسي، وربما كانت قصة «الخوف» التي كتبها نجيب محفوظ ورواها الدكتور محمد أنيس تكمن في مكان ما من ذهني، ولكنني كنت أحس بوجود مغزى معين على المستوى النفسي، أي على المستوى الفردي، لأحداث المسرحية، فالوهم عامل نفسي فردي، وقد يسيطر على الجماعة، ولكنه يظل فرديا في النهاية!
وبعد كتابة المسرحية قرأتها، بحضور سمير سرحان، على الدكتور رشاد رشدي فاقترح بعض التعديلات التي أجريتها فورا؛ إذ كانت طفيفة، واقترح حذف المشهد الثاني من الفصل الثاني لأنه ممل ويوقف سير الحدث! وأظهرت أو تظاهرت بالموافقة ولكنني أبقيت عليه. وبدأنا بعد ذلك إجراءات التقدم بها رسميا إلى مسرح الحكيم الذي كان المخرج العظيم جلال الشرقاوي قد تولى إدارته، وعملية إسنادها إلى أحد المخرجين. واقترح جلال الشرقاوي مخرجا عاد لتوه من البعثة الدراسية إلى المجر اسمه كمال عيد (الدكتور). وبعد أن قرأها كمال قال لي إن بها شبها من مسرحية أيرلندية هي
The Playboy of the Western World
للمؤلف سينج! (فتى الغرب المدلل) ولم أكن قد قرأت تلك المسرحية ولكنني لم أعترض. واصطحبني كمال إلى منزله بحدائق القبة، وعرفني بأسرته، وكان قد تزوج من فتاة مجرية رائعة الجمال، وعندما أبديت إعجابي بهذا الإنجاز قال لي بفخر: «أبوها جنرال شيوعي كبير!» وكان الواضح أن انبهاري بجمالها قد زاد عن الحد فهمس لي: «عارف أنا ازاي نجحت؟ رحت لهم البيت على طول!» وبعد دراسة للنص استمرت حتى الهزيع الثاني من الليل، اقترح أن أبيت معهم، وفعلت، وفي الصباح اتجهنا إلى المسرح حيث قدم كمال قائمة بالممثلين الذي يريدهم إلى جلال الشرقاوي. وكان جلال حاسما في رفضه للقائمة إذ أصر على أن يقوم بجميع الأدوار أبطال «فرقة مسرح الحكيم» مع الاقتصار على نجم أو نجمين فقط من خارج الفرقة. ورفض كمال، وانسحب، ووضعت المسرحية في الدرج.
كان المقرر أن تعرض فرقة الحكيم مسرحية واحدة في الشهر، يتم تصويرها تلفزيونيا ثم يعرض غيرها، وكانت مسرحية الافتتاح هي «بيجماليون» من تأليف توفيق الحكيم طبعا، وكان المخرج هو نبيل الألفي. وكان المقرر أن يعرض المسرح بعدها مسرحية «الأرانب» من تأليف لطفي الخولي وإخراج جلال الشرقاوي، وبعدها البر الغربي. وكانت بروفات مسرحية «بيجماليون» تسير على قدم وساق، حين اقترح أحدهم إسناد «البر الغربي» إلى محمود مرسي، وكان يشاع أنه قد عاد من أمريكا وأنه قادر على صنع المعجزات . وبعد أن قرأ محمود النص، اتصل بي تليفونيا وضرب لي موعدا في سميراميس (في مقهى الفندق الذي أصبح مكان اللقاء المعتاد). وعندما قابلته في المساء قال لي: «إنت ناوي تسافر بعثة وتشتغل في الحكومة؟ يعني خايف على مستقبلك الأكاديمي والعملي؟» ولما أبديت دهشتي لهذه الأسئلة قال لي: «أنصحك تنسى «البر الغربي»!» وبدأ في تحليل النص تحليلا غريبا وغير متوقع، انتهى منه إلى أن المسرحية «ضد النظام» وأنها تسخر في الواقع من الحكام، وعلى رأسهم طبعا .. جمال عبد الناصر! وذهبت اعتراضاتي أدراج الرياح؛ إذ انتهى بالاعتذار عن إخراجها لأنه يخشى على مستقبله، قائلا بضحكة مكتومة: «العمر موش بعزقة!»
في عام 1962م كان من بين الخريجين عدد كبير من الموهوبين في الترجمة، وكنت أعلمهم الترجمة بعد تخرجي، أهمهم شاب نابه قدر له أن ينضم إلى الشلة هو فاروق عبد الوهاب، وكان من بين أفراد تلك المجموعة عدد قدر له أن يشغل مناصب كبيرة في الهيئات الدولية مثل شوقي مدبولي مصطفى الذي أصبح الآن رئيسا للقسم العربي بهيئة الطيران المدني الدولية في مونتريال بكندا، وعبد العليم الأبيض الذي يعمل مستشارا إعلاميا لمصر في الولايات المتحدة، وأيمن الأمير الذي يعمل رئيسا لدائرة الإعلام بالأمم المتحدة في نيويورك، ومحمد العليمي الذي عمل مترجما ومراجعا بالأمم المتحدة فترة طويلة. وقد استفاد الجميع فائدة كبيرة من إعادة إنشاء وكالة أنباء الشرق الأوسط، خصوصا القسم الإنجليزي الذي كان يشرف عليه زين العابدين نجاتي (أخو الدكتور عثمان نجاتي أستاذ علم النفس بالكلية)، إذ تعلموا في الوكالة فنون الترجمة الإنجليزية والفنون الصحفية الأخرى، وكانوا جميعا من أصدقائي المقربين، بينما كنت أنا ما زلت في بحث دائب عن مكان مستقل أبتعد فيه عن الناس وأخلو لنفسي وعملي الذي لا ينقطع.
Bog aan la aqoon