Wahat Cumr
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
Noocyada
كان اسمه بالكامل ميخائيل منسي يوسف بسطاوروس، وكان صعيديا قحا، وقصته باختصار هي أنه جاء إلى رشاد رشدي وقال له إنه حصل على الدكتوراه في الدراما من جامعة لندن، وإنه يريد ترجمة مسرحياته إلى الإنجليزية ونشرها في لندن، وأضاف أنه يقوم بتدريس الدراما حاليا في الجامعة الأمريكية، ويود أن يدرس للطلبة هذه المسرحيات، ولكنها - وللأسف - بالعربية! وبانتهاء الجلسة كان الدكتور منسي يوسف يتولى تدريس الدراما لطلبة الدراسات العليا، وحصل على خطاب من القسم، مختوم من الكلية، بأنه أستاذ الدراما.
وبعد أسابيع فوجئ الجميع بمقال نقدي في الدراما منشور في صحيفة الأخبار باسم الدكتور منسي يوسف، واتضح أنه ذهب إلى مكتب وزير الإعلام وقدم نفسه على أنه المتخصص الأوحد في الدراما ومستنكرا استبعاده من الصحافة، وعلى الفور اتصل الدكتور عبد القادر حاتم برئيس تحرير الأخبار واتفق معه على تعيينه كاتب عمود في الصحيفة!
وبدأ نجم منسي يوسف في الصعود حين أفصح القدر عن مفاجأة لم تكن متوقعة؛ إذ رآه الدكتور شفيق مجلي الذي كان قد حصل على الدكتوراه في الأدب الإنجليزي من كلية بدفورد بجامعة لندن، كما رآه الدكتور عبد المحسن طه بدر الذي عاد من كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن بعد أن قضى فترة دراسية طويلة، وأنكر كل منهما معرفته بمنسي (وكان منسي يصر على أنه حصل على الدكتوراه من الكلية الأولى، فلما حوصر أنكر وعاد يقول إنه حصل عليها من الثانية). وتردد في الوسط الفني أنه غير حاصل على الدكتوراه، فطالبته جامعة القاهرة بتقديم ما يثبت حصوله على تلك الشهادة، فتلكأ واعترض وماطل، ثم أقلع عن المجيء إلى الجامعة، ثم طالبته الجامعة الأمريكية كذلك بأوراق رسمية، وكانت النتيجة مماثلة، ثم طالبته الصحف بشهادة أو ما يوازيها من أوراق ، ولم يكن حظه أفضل، وذات يوم وصل أحد أصدقائنا من خريجي جامعة الإسكندرية، وضربت له موعدا في فندق سميراميس، وكان يعمل في الإذاعة البريطانية في قسم الاستماع خارج لندن، وكان معنا في الجلسة (التي ضمتني أنا وسمير ورشاد رشدي ونعمان عاشور) منسي يوسف. وبمجرد أن وصل ممدوح عياد (صديقي الإسكندراني) حتى أخذ منسي بالأحضان، وهو يصيح: مايكل! مايكل! يخرب بيتك! بتعمل إيه هنا؟
وقص علينا ممدوح قصة مايكل (ميخائيل) الذي كان يعمل في الإذاعة البريطانية مترجما، ويقوم في نفس الوقت بالتمثيل في البرامج الهندية، مما كان يعتبر مخالفا للوائح، وبعد تحذيره عدة مرات، فصلته الإذاعة فجاء إلى مصر بقصة الدكتوراه! وكان اسمه أثناء وجوده في لندن مايكل بسطاوروس، واسمه في مصر منسي يوسف، وكان يزعم للهنود أنه هندي، وللإنجليزي أنه من أصل أفريقي متخصص في لهجات أفريقيا السوداء، ولغيرهم أنه مصري (وهذا هو الصحيح)، وأخيرا سافر منسي فجأة ليعود بزوجته الإنجليزية وأولاده الأربعة - ولكنه لم يعد يظهر في الوسط المسرحي. وعندما ذهبت إلى إنجلترا عام 1965م كنت أجلس في مطعم كلية بدفورد بجامعة لندن حين وجدته مقبلا علي مع فتاة مصرية ذات وجه مصري مليح، قدمها لي على أنها إحدى قريباته، وقال لي: لقد نجحت في إخراجها من مصر بأن أتيت بواسطة ضابط كبير في قسم تأشيرات الخروج. وعندما سألته عن الضابط قال لي: أنا! اكتشفت أن ارتداء الزي العسكري دون أوراق رسمية لا يعتبر تزويرا، فدخلت المجمع (مجمع التحرير) وأنهيت أوراقها ثم تخلصت من البدلة الرسمية! ولم أكن أريد أن أصدقه، ولكن الذي حدث بعد ذلك جعلني أميل إلى تصديقه!
أعلنت هيئة الإذاعة البريطانية عن رحلة إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1966م بسعر مخفض هو 65 جنيها (ذهابا وإيابا) للعاملين بها، واستطاع هو بطريقة ما الحصول على تذكرة وسافر ولم يعد، وفي منتصف السبعينيات كان سعد الدين وهبة، الكاتب المشهور، في زيارة لأمريكا حين التقى بصاحبنا الذي عرض عليه شراء إحدى محطات الإذاعة الأهلية التي يملكها، ولما سألني سعد وهبة قصصت عليه قصته، ولم أسمع عنه شيئا على مدى السنوات العشرين الماضية!
وكان نمط القدوم والرحيل - وهو ما أحسسناه في مسرح تشيخوف - قد وجد طريقه إلى قسم اللغة الإنجليزية أيضا! وكان من آفات هذا القسم وجود عدد من «غير المنتمين»؛ أي الذين لا يرون أنهم من المصريين حقا وصدقا، وقد يكون أحدهم «نصف مصري»؛ أي أن تكون له أم أجنبية، يتعلم منها اللغة الإنجليزية فيتفوق في الدراسة في القسم ثم ما يلبث أن يهجر مصر إلى الأبد، وقد يكون مصريا خالصا لكنه يشعر بأن جذوره مبتوتة بالمجتمع المصري بسبب ضعفه في اللغة العربية، وكان من بين زملائي - من النوع الأول - سلمى غانم التي عادت آنذاك بالدكتوراه؛ إذ حصلت عليها في زمن قياسي، وكان أبوها هو محمد محمد غانم مفتش أول اللغة الإنجليزية وأمها اسكتلندية، ولم تلبث سلمى، كما ذكرت، أن هاجرت إلى كندا، واصطحبت معها زوجها الطبيب، ثم انقطعت أخبارها عنا إلى الأبد! وكان من زملائي - من النوع الثاني - عايدة فراج طايع وعمرو حسن برادة اللذان هاجرا إلى كندا والولايات المتحدة، على الترتيب، واختفت الأولى، ولم نعد نسمع عنها، بينما ظل عمرو وفيا لأسرته في مصر، يزورهم من حين لآخر، وعندما رأيته آخر مرة، كانت معه امرأة أمريكية في منتصف العمر - وكان ذلك في أوائل التسعينيات - قدمني إليها ثم قدمه إلي قائلا: «جلوريا .. خطيبتي!» ووقفنا نتحدث عدة دقائق، وأنا أحاول إحياء بعض بذور الصداقة القديمة التي ذبلت، فوقفت أحادثه وأستطلع أخباره، فأخبرني أنه اتجه إلى دراسة علم النفس، وأنه تخصص في تعليم اللغة الإنجليزية للأجانب من ضعاف العقول أو من المعوقين (ونحن في مصر نسميه «المتخلفين عقليا»)، خصوصا من أبناء البلدان العربية الغنية جدا، وقال لي إن معظم هؤلاء يدرسون في أمريكا فيما يسمى بالتعليم العلاجي، وأعدادهم كبيرة جدا، وأموالهم طائلة. وقال لي إنه، باعتباره عربيا، يستعين في تعليمهم الإنجليزية بشذرات اللغة العربية التي يعرفها، وإن دراسة علم النفس أتاحت له عملا مربحا.
وكانت هجرة «أنصاف المصريين» الذين يفوزون بالبعثات الدراسية ويتعلمون في الخارج على حساب الشعب تؤلمني كثيرا؛ فما أزال أرى أن مهمة دارس اللغات الأجنبية هي أن يكون وسيطا بين علوم الغرب وفكره وبين التراث العربي الحي، لا أن يختفي من حياتنا بعد أن علمناه وأنفقنا عليه الآلاف (بل عشرات الآلاف) وأعطيناه مزايا كان غيره أولى وأحق بها. ولذلك كنت وما أزال أهتم بالأدب العربي وباللغة العربية اهتماما يوازي، إن لم يكن يفوق اهتمامي باللغة الإنجليزية والأدب الإنجليزي.
6
كانت سلسلة النقد الأدبي - وهي الكتيبات التي شاركت فيها بالنقد التحليلي، وشارك فيها سمير سرحان ب «النقد الموضوعي»، والدكتور فايز إسكندر ب «النقد النفسي»، وعبد العزيز حمودة ب «علم الجمال» - بمثابة الثمرة الثانية لحركة النقد الأدبي العربي المعاصر، فقبل ذلك كانت كتب النقد ذات طابع عام أو خلافي، فكتاب الدكتور محمد مندور «النقد المنهجي عند العرب» (وهو فيما علمت رسالته التي تقدم بها للدكتوراه) يرصد النقد العربي بصفة عامة مركزا على المنهج الشكلي أو اللغوي في التراث، وكتابه العظيم الآخر «في الميزان الجديد» يقدم كما سبق لي أن ذكرت منهج شرح النصوص وهو المنهج الفرنسي الذي أدى في النهاية إلى مولد المدارس الفرنسية الحديثة التي يطلق عليها اسم المدارس النظرية أو «النظرية» فحسب، وكانت المحاولات الأخرى من جانب كبار الأساتذة مثل ترجمة الدكتور محمد مصطفى بدوي لجورج سانتيانا، وكتاب الغنيمي هلال عن الرومانسية، تمثل جهودا تستلهم المبدأ الذي وضعه طه حسين منذ مطلع العشرينيات وهو اعتبار الأدب فنا لغويا في المقام الأول، أو كما كان يقول دائما «باعتباره فنا جميلا يتوسل باللغة». وكنت قرأت مقدمته (التي نشرها على صورة تذييل أو ذيل) لكتاب «فجر الإسلام» لأحمد أمين عام 1923م، فشهدت له بالريادة، ورأيت أن تلاميذه الكبار (من أمثال لويس عوض وسهير القلماوي) كانوا يمهدون الطريق لحركة نقدية بناءة، وكانت السلسلة التي يشرف عليها رشاد رشدي ونشارك فيها بمثابة الثمرة «الثانية» كما قلت، بمعنى أنها تؤكد وجود الشجرة، وتعد بالمزيد من الثمار!
ولكنها كانت كتبا محدودة النطاق إلى درجة كبيرة؛ فكل منها يقدم ناقدا أجنبيا بعينه؛ إذ قدمت أنا «كلينت بروكس»، وقدم سمير سرحان «ماثيو أرنولد»، وقدم فايز إسكندر «أ. أ. ريتشاردز»، وقدم حمودة «كروتشي». وكانت إلى ذلك تركز على فنية الفن أو أدبية الأدب، مما أوحى للبعض بأن حركة النقد الجديد التي كنا نرصدها في أمريكا وأوروبا حركة تنكر صلة العمل الأدبي بالمجتمع أو بالحياة المادية الواقعية خارج نفس الفنان أو خارج العمل الأدبي، وكان ذلك بعيدا كل البعد عن الواقع. فالهدف الأساسي من السلسلة كان إلقاء الضوء على جانب من جوانب الأدب لم يترسخ بعد الرسوخ اللازم، ولم يكن معنى التركيز على جانب تجاهل الجوانب الأخرى، ولكن أنصار «النقد الأيديولوجي» - على اختلافهم - رأوا فيها فرصة سانحة للهجوم على رشاد رشدي الذي كان نجمه قد سطع، وكان يتمتع بالقدرة على مجالدة الخصوم مهما كثروا والانتصار عليهم!
Bog aan la aqoon