وقد بدأ ذلك بحادث عثمان - ثالث الخلفاء - حين تولى الخلافة بعد وفاة «عمر» «644م»، وكانت سن «عثمان» حينئذ سبعين عاما، وكان حليما لين العريكة، ضعيف الإرادة أمام أسرته، وأعيان مكة، وثراتها ورجال بني أمية؛ أي إنه كان ضعيف الإرادة أمام كل من ناصبوا «محمدا» العداء عشرين عاما، ثم أسلموا فكان في إسلامهم مجال واسع للظنون والحذر، ولقد نالوا بفضل «عثمان» أرفع المناصب، وانتهت المأساة الكبرى بقتل المسلمين خليفتهم الشيخ المسن «عثمان».
ثم ولي الخلافة بعده «علي» ابن عم «محمد»، ولكن لم يتم الاعتراف به في كل مكان، فقد هبت سوريا متحمسة إلى امتشاق الحسام وعلى رأسها واليها «معاوية بن أبي سفيان» - وكان انتصاره حينئذ هو انتصار جمهرة المعادين للإسلام، الذين كانوا يناوئونه من صميم قلوبهم، على أن المسلمين حقا لم يخضعوا لهم، فقد أشعلوا نيران الحرب - من جديد - في زمن «يزيد الأول» ابن معاوية الذي ولي الخلافة من بعده، ولقد قام «الحسين» وهو الابن الأصغر لعلي يطالب بالخلافة، ولكنه صرع هو وفئته القليلة التي كانت تناصره في موقعة كربلاء.
37
ومن ثم قام «عبد الله بن الزبير» - وهو ابن صحابي من صحابة الرسول - إلى مكة رافعا علم الثورة، وظل سنة كاملة لا يحفل به الخليفة، ولا يلتفت إليه استصغارا لشأنه، ذلك أنه لم يغادر مكة إلى غيرها من البلدان فلم ير له الخليفة خطرا يستحق أن يناوئه من أجله، ورأى أن من الحزامة أن يتركه وشأنه؛ حتى لا يثير عليه حفيظة المسلمين أكثر مما أثار من قبل - بلا حاجة - فلم تكن ثمة ضرورة قاهرة تضطره إلى إراقة الدماء في بقاع كانت - - حتى في زمن الوثنية - حرما مقدسا لا يمسه أحد بسوء.
ولكن لكل شيء حدا، فقد صبر يزيد حتى عيل صبره، فلما لم يبق في قوس الصبر منزع طلب إلى عبد الله بن الزبير - للمرة الأخيرة - أن يبايعه، فلما رفض امتزج الخليفة بالغضب، وأقسم أنه لن يقبل من هذا الثائر طاعة حتى يؤتى به بين يديه مكبلا بالأغلال، ولما هدأت ثائرة الخليفة ندم على قسمه - وكان طيب السريرة - ففكر في وسيلة يبر بها في قسمه - دون أن يمس كبرياء «عبد الله» - ثم استقر على أن يرسل إليه غلا من الفضة، ومعه حلة فاخرة ليخفيه تحتها - إذا شاء - وبعث إليه برسل يحملون معهم هدايا ثمينة، فساروا من مقر ملكه «دمشق» حتى بلغوا «مكة»، ولكن «عبد الله» رفض - بطبعه - أن يقبل تلك الهدايا، وعبثا حاول الرسل أن يتوصلوا إلى إقناعه وإنزاله عن رأيه، فقد أصر «عبد الله» على عناده؛ لأنه كان يعتقد أن كائنا من كان لن يفكر - بحال ما - أن يلجأ إلى العنف والشدة معه - وهو في تلك البقاع المقدسة - وكان هذا سر طمأنينته، وقد أكد له الرسل بصراحة أن الخليفة لن يعنف معه، ولن يقدم على مثل ذلك العمل.
على أن «عبد الله» لم يكن أول من تعرض لغضب الخليفة ونقمته، فقد سبقه إلى ذلك ثوار «المدينة»، وكانت روح الشر مهيمنة عليهم في ذلك الحين، فقد وقعت بينهم وبين الوالي - حينئذ - خصومة بسبب النزاع على تملك بعض الأراضي. وأراد الوالي إزالة أسباب الخلاف - وكان ابن أخت الخليفة يزيد - فنصح ثراة المدينة وأعيانها أن يذهبوا إلى بلاط الخليفة، فلما ذهبوا قابلهم الخليفة أحسن مقابلة وأكرم وفادتهم وتلطف معهم؛ رغبة في أن يستميلهم إليه، ولكن يزيد كان - رغم أدبه ونبله - غير مشبع بروح احترام الدين الذي كان يمثله وهو خليفة المسلمين الأعظم، فبدرت منه آراء - عن غير قصد - صدمت بعض أصول الدين التي يقدسها أهل المدينة، فلما عادوا إلى بلادهم عادوا ساخطين، وأخذوا يشهرون بالخليفة ويذمونه عند مواطنيهم متأثرين بعامل الغضب، وقالوا لهم: «إنه يشرب الخمر، ويعزف على الأوتار، ويصرف نهاره بين كلاب الصيد - وقد كان «محمد» يمقت ذلك أشد المقت - فإذا جن الليل جلس بين اللصوص وقطاع الطرق.» يعنون بذلك البدو والأعراب الذين نشأ بينهم يزيد وترعرع، فلما كبر أدناهم من مجلسه. •••
وزادوا على ذلك أنه لا يصلي قط، وأنه جاحد، وعزوا إليه - فوق هذه التهم التي بنوها على أساس واه أو متين - تهما أخرى لا أساس لها ولا وجود، وإن كان ذكرها مما يثير في نفس خصومه من أهل المدينة حفائظ وأحقادا بعيدة الأثر.
وقد كانوا يميلون إلى تصديق كل تهمة تلصق بكل أموي.
ومن ثم انقلب المسجد مسرحا عجيبا تصب فيه اللعنات على يزيد وأتباع يزيد، واجتمع أهل المدينة قاطبة - وهم صاخبون - فشرع كل واحد منهم يتجرد من شيء من ملابسه فيلقي به صائحا: «إني أخلع يزيد كما أخلع قبائي هذا.» أو «عمامتي» أو «نعلي».
ثم طردوا كل من في المدينة من الأمويين ووقفوا عن تعيين خليفة جديد لهم، فقد كان القرشيون الذين في المدينة لا يحبون أن يعترفوا بأهلها، كما كان أهلها كذلك لا يحبون أن يعترفوا بهم.
Bog aan la aqoon