وكان أبو حذيفة قد وكل بخدمة هؤلاء الضيف سمية بنت خياط، أمة سوداء، في أول الشباب، عليها من الجمال نضرة قاتمة بعض الشيء، وفيها من الشباب خفة ومرح ونشاط، وفي لسانها المستعرب عذوبة حسنة الموقع في الآذان والقلوب.
فكانت تغدو على هؤلاء الفتية بطعامهم أول النهار، وتروح عليهم بطعامهم إذا أقبل الليل، وتعمل في خدمتهم بين ذلك، وتتحدث إليهم، وتسمع منهم بين حين وحين، وكأنها قد وقعت في نفس هذا الفتى فحببت إليه الإقامة بمكة. ومن يدري؟! لعله أن يكون قد تحدث إليها في شيء من ذلك فأحس منها مثل ما أحس من نفسه: ميل الغريب المستوحش إلى الغريب المستوحش.
وقد هم الفتى أن يحمل نفسه على ما تكره، ويعود مع أخويه إلى حيث ينتظرهما أب شيخ حزين وأم شيخة ملتاعة،
7
ولكن الفتى لم يستطع أن يحمل نفسه على ما أراد. وحياة الناس ليست رهنا بما يريدون، وليست مستجيبة لما يقدرون، وإنما هي أمور خفية يجريها القضاء، لا يؤامر
8
فيها أحدا، ثم يكون لها في حياة الناس من الآثار ما لم يكن ليخطر لهم على بال. والشيء الذي ليس فيه شك هو أن الأخوين قد خرجا من مكة يقودان راحلتهما ييممان
9
تهامة اليمن، فضاعا في الدنيا وفي التاريخ، ولم يعرف أحد عنهما شيئا، كما لم يعرف أحد عن أخيهما الضائع وأبويهما الشيخين شيئا.
وعاد الفتى ياسر بعد أن ودعهما إلى مكة، فأقام فيها ضيفا على أبي حذيفة أول الأمر، ثم حليفا لأبي حذيفة بعد ذلك، ثم زوجا لسمية أمته السوداء تلك، ومنذ ذلك الوقت عرفته الدنيا وحفظه التاريخ.
Bog aan la aqoon