الوعد الحق
الوعد الحق
الوعد الحق
الوعد الحق
تأليف
طه حسين
الوعد الحق
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون (صدق الله العظيم).
1
قال ياسر بن عامر لأخويه مالك والحارث: عودا إن شئتما إلى أرض اليمن، أو اضربا إن شئتما في الأرض العريضة؛ فأما أنا فمقيم، قد أعجبتني هذه الأرض فلست أعدل بها أرضا أخرى، ورضيت بهذه الدار فلست أبغي بها بديلا، وما رحيلي عن أرض وجدت فيها الأمن بعد الخوف، والقوة بعد الضعف، والسعة بعد الضيق. قال أخوه مالك: بل قل ما رحيلي عن أرض فيها هذه الفتاة السوداء التي لا تملك من أمرها شيئا، ولكنها تملك من أمرك كل شيء. قال ياسر: فظنا بي ما شئتما من الظنون، ولكني مقيم لن أبرح هذه الأرض، ولن أتحول عن هذه الدار.
Bog aan la aqoon
قال الحارث: بعدا لك من فتى يؤثر الغربة على قرب الدار، ومضر على قحطان، وقريشا على عنس، ويحك؛ إنك لا تأمن أن تسام الخسف
1
وتحمل على ما تكره، ثم تلتمس العون فلا تجده، وتبتغي النصير فلا يجيبك إلا من يخذلك ويعين عليك.
قال مالك: وإن فتاتك هذه السوداء لم تنجم
2
من أرض مكة ولم تنزل من سمائها، وإنما جلبت إليها فيما يجلب إليها من الرقيق، وإن شئت وجدت أمثالها في كل منزل تنزل فيه، وإن شئت احتلنا لك فيها حتى نخطفها وتعيش معها آمنا بين بني أبيك وذوي مودتك.
قال ياسر: ضعا هذا الأمر كيف شئتما؛ فإني مقيم لن أبرح هذه الأرض، ولن أتحول عن هذه الدار، ولن أجزي أبا حذيفة عن الحسنة بالسيئة، ولا عن المعروف بالمنكر، ولن أرزأه شيئا في ماله وهو الذي قد آوانا وقرانا وأحسن مثوانا.
3
عودا إن شئتما إلى أرض اليمن، واضربا إن شئتما في الأرض العريضة، فأما أنا فمقيم، وما أرى إلا أن لي في هذه الدار شأنا.
قال الحارث: شأن الرقيق الذي لا يستكره على الرق، وإنما يسعى إليه سعيا، ويمعن فيه إمعانا!
Bog aan la aqoon
4
فإن رفق القوم بك وآثروك بالخير فشأن الحليف الذي يعال ولا يعول.
قال ياسر: عودا إن شئتما فإني مقيم.
قال الحارث لأخيه مالك: دعه، فما علمته إلا نكدا لا خير فيه. •••
ورأى الصبح حين أسفر من الغد غلامين يخرجان من مكة يقودان راحلة قد وهبها لهما أبو حذيفة بن المغيرة، ويسعى معهما أخوهما ياسر سعي المودع لا سعي من أزمع الرحيل،
5
وكان هؤلاء الفتية الثلاثة قد خرجوا من دارهم بتهامة اليمن يلتمسون أخا لهم فقدوه، فطوفوا في الأرض ما طوفوا، وبحثوا عن أخيهم ما بحثوا، فلما استيأسوا منه عادوا إلى أرضهم، ومروا بمكة أثناء عودتهم، وقد بلغ منهم الجهد، وأضناهم سفر غير قاصد.
6
فقال بعضهم لبعض: نأوي إلى هذه القرية فنلم ببيتها، ونسأل آلهتها، ونصيب فيها حظا من راحة، ونسأل أهلها معونة على ما بقي لنا من الطريق.
وأووا إلى مكة، وطافوا بالبيت، وسألوا الآلهة فلم يجدوا عندها شيئا، ثم أقاموا في المسجد ينتظرون أن تغدو قريش إلى أنديتها. فيمر بهم، حين يرتفع الضحى، أبو حذيفة بن المغيرة المخزومي، فيرى ما أصابهم من الضر، فيضمهم إليه ويكرمهم، كما تعودت قريش أن تكرم الضيف.
Bog aan la aqoon
وكان أبو حذيفة قد وكل بخدمة هؤلاء الضيف سمية بنت خياط، أمة سوداء، في أول الشباب، عليها من الجمال نضرة قاتمة بعض الشيء، وفيها من الشباب خفة ومرح ونشاط، وفي لسانها المستعرب عذوبة حسنة الموقع في الآذان والقلوب.
فكانت تغدو على هؤلاء الفتية بطعامهم أول النهار، وتروح عليهم بطعامهم إذا أقبل الليل، وتعمل في خدمتهم بين ذلك، وتتحدث إليهم، وتسمع منهم بين حين وحين، وكأنها قد وقعت في نفس هذا الفتى فحببت إليه الإقامة بمكة. ومن يدري؟! لعله أن يكون قد تحدث إليها في شيء من ذلك فأحس منها مثل ما أحس من نفسه: ميل الغريب المستوحش إلى الغريب المستوحش.
وقد هم الفتى أن يحمل نفسه على ما تكره، ويعود مع أخويه إلى حيث ينتظرهما أب شيخ حزين وأم شيخة ملتاعة،
7
ولكن الفتى لم يستطع أن يحمل نفسه على ما أراد. وحياة الناس ليست رهنا بما يريدون، وليست مستجيبة لما يقدرون، وإنما هي أمور خفية يجريها القضاء، لا يؤامر
8
فيها أحدا، ثم يكون لها في حياة الناس من الآثار ما لم يكن ليخطر لهم على بال. والشيء الذي ليس فيه شك هو أن الأخوين قد خرجا من مكة يقودان راحلتهما ييممان
9
تهامة اليمن، فضاعا في الدنيا وفي التاريخ، ولم يعرف أحد عنهما شيئا، كما لم يعرف أحد عن أخيهما الضائع وأبويهما الشيخين شيئا.
وعاد الفتى ياسر بعد أن ودعهما إلى مكة، فأقام فيها ضيفا على أبي حذيفة أول الأمر، ثم حليفا لأبي حذيفة بعد ذلك، ثم زوجا لسمية أمته السوداء تلك، ومنذ ذلك الوقت عرفته الدنيا وحفظه التاريخ.
Bog aan la aqoon
2
وذلك أن أبا حذيفة انصرف من ناديه ذات يوم، فلقي وهو رائح إلى داره ياسرا غير بعيد من المسجد، فقال له مبتسما: ما فعل أخواك يا فتى عنس؟ فقال الفتى: آثرا
10
قرب الدار على بعدها، فعادا إلى قومهما. قال أبو حذيفة: وآثرت بعد الدار على قربها، فأقمت في مكة! قال الفتى: بل آثرت هذا الحرم الآمن على غيره من مواطن الخوف، وآثرت جوار هذا البيت العتيق على ما في اليمن من ضلال وغي.
11
قال أبو حذيفة: وماذا تريد أن تصنع في مكة؟ قال الفتى: ألتمس القوت من مصادره. قال أبو حذيفة: فإن القوت ميسر لك ما بقيت لي جارا. قال الفتى: بأبي أنت من سيد كريم تزهى به مخزوم وتزدان به قريش وتعز به البطحاء! إنك والله ما علمت لسخي النفس رضي السيرة، تحفظ الضائع وتطعم الجائع، وتعطي السائل وتغني العائل، وتحمي الجار وتغيث الملهوف.
12
قال أبو حذيفة: حسبك يا فتى! لقد جزيت فأربيت،
13
وإني لأرى فيك ذكاء ولسنا.
Bog aan la aqoon
14
فأنت جار لي ما أقمت في هذه القرية. قال الفتى: لا وعداك ذم،
15
ولكني أدعوك إلى خطة سواء بيني وبينك لا تشق عليك ولا تخفف عني: تحميني مما تحمي منه نفسك وأهلك، وأكون حربا على من حاربت، وسلما لمن سالمت، ووقاء
16
لك ولأهلك من العاديات ما استطعت إلى ذلك سبيلا. قال أبو حذيفة: فهو الحلف إذن؟ قال الفتى: نعم، إن طابت نفسك به. قال أبو حذيفة: فقد طابت به نفسي، واطمأن إليه قلبي! فإذا كان الغد فموعدنا المسجد. قال الفتى: فإنك من المسجد غير بعيد، وما أحب أن نرجئ إلى غد ما نستطيع أن نأتيه اليوم. قال أبو حذيفة: فهلم إذن.
وأخذ بيد الفتى، ورجع أدراجه خطوات، فلما بلغ المسجد قصد الكعبة. قال الفتى: إلى أين تريد؟ قال أبو حذيفة: أريد أن أشهد الآلهة على حلفنا. قال الفتى متضاحكا: فأشهد عليه قومك قبل أن يتفرقوا؛ فإن الآلهة مقيمة حيث هي لا تريم.
17
قال أبو حذيفة: ما رأيت كاليوم فتى ذكيا أريبا.
18
Bog aan la aqoon
ثم مضى به إلى أندية قريش، فجعل لا يمر بناد منها إلا قال: يا معشر قريش، اشهدوا علي أني قد حالفت ياسر بن عامر هذا العنسي. وجعل لا يقول ذلك لناد من أندية قريش إلا قالوا له: سعيت غير مذموم، وحالفت غير ملوم.
فلما طوف به على أندية قريش كلها قصد به قصد الكعبة. قال الفتى: إلى أين تريد؟ قال أبو حذيفة: إلى حيث أشهد الآلهة على حلفنا. قال الفتى متضاحكا: ويحك أبا حذيفة!
19
أتظن أن الآلهة لم تسمعك وأنت تشهد الناس؟! فهي قد سمعت وشهدت ورضيت، أم تراها لا تسمع إلا إذا دنوت منها كما يدنو الرجل من الرجل حين يريد أن يناجيه؟!
قال أبو حذيفة: ما أرى إلا أني قد حالفت اليوم شيطانا! ويحك يا فتى عنس! فإنا قد ألفنا أن نقف من آلهتنا موقف المتحدث إليها المناجي لها.
قال الفتى: فقف منها هذا الموقف حيث شئت؛ فإنها ينبغي أن تكون معك في كل مكان.
قال أبو حذيفة، وقد أخذه شيء من وجوم، كأن الفتى قد رد إليه شيئا غاب عنه، أو رده إلى شيء غاب عنه: فلا أقل من أن نطوف بالكعبة؛ ليتم لهذا الحلف حقه من الحرمة والتقديس.
قال الفتى: أما هذا فنعم. ثم مضيا فطوفا بالكعبة ما شاء الله أن يطوفا بها، وراحا
20
إلى دار أبي حذيفة حليفين، ولكن بينهما من الأمر أكثر مما يكون بين الحليف والحليف. •••
Bog aan la aqoon
يقول أبو حذيفة للفتى في طريقهما إلى الدار: ويحك يا عنسي! إني لأرى فيك استخفافا بآلهتنا وازورارا عنها.
21
أفتراك لم تنس آلهة عنس بعد، ولم ترد أن يخلص قلبك لغيرها؟
فيقول الفتى: بأبي أنت يا أبا حذيفة! والله ما ذكرت آلهة عنس قط؛ فأنساها اليوم أو أستبقي ذكرها في قلبي! وما أعرف أني غدوت عليها مصبحا أو رحت إليها ممسيا، أو آمنت لها بسلطان.
قال أبو حذيفة: فقد صبوت
22
إذن عن آلهة آبائك إلى إله النصارى أو اليهود؟
قال الفتى: لقد لقيت أولئك وهؤلاء وسمعت منهم، ولم أفهم عنهم ولم أحاول لأحاديثهم فهما.
قال أبو حذيفة: فليس لك إله إذن؟
قال الفتى: لو كنت متخذا إلها لعبدت البحر الذي يروعني ويروعني،
Bog aan la aqoon
23
أو الشمس التي تضيء لي أثناء النهار، أو النجوم التي تهديني أثناء الليل، أو السحاب الذي يطعمني ويسقيني، ولكن شيئا من ذلك لا يبلغ نفسي، ولا يتحدث إلى قلبي، ولا يثير حاجتي إلى العبادة والطاعة والإذعان. فأنا حائر جائر عن القصد،
24
ألتمس الهدى فلا أجد إليه سبيلا، فأعيش مع الناس مشاركا لهم في الدنيا مفارقا لهم في الدين.
قال أبو حذيفة: إن لك لشأنا يا فتى عنس.
قال الفتى: كغيري من الناس، إلا أني أفكر في هذا كثيرا ولا يفكرون فيه إلا قليلا. •••
وبلغا دار أبي حذيفة، فأنفقا فيها سائر النهار وشطرا من الليل يخوضان في أحاديث الدين والدنيا وفي أحاديث تهامة ونجد والحجاز.
وقد وقع حب الفتى في قلب أبي حذيفة موقعا غريبا، حتى قال لنفسه ولأهله حين خلا إلى أهله: ما أحببت غريبا قط كما أحببت هذا الفتى، ولو كنت متخذا ولدا لاتخذته ولدا.
3
وأقام ياسر ما شاء الله أن يقيم ضيفا على حليفه أبي حذيفة، يغدو إلى المسجد مصبحا فيقول لقريش ويسمع منهم، ويروح إلى الدار بعد أن تزول الشمس، فلا يقيم فيها إلا ريثما يصيب شيئا من طعام وراحة، ثم يخرج فيمشي في الأسواق، ويتعرف أمر الناس، ويلتمس أسباب الرزق؛ حتى إذا يسرت له الوسائل للعمل والكسب أراد أن يتحول إلى دار له، وآذن
Bog aan la aqoon
25
أبا حذيفة بذلك، فلم ير أبو حذيفة بذلك بأسا، ولكنه رأى الفتى مترددا في نفسه، لا يقدم قلبه إلا ليحجم، وهو يجيل طرفه في الدار فعل من يجد في التحول عنها مشقة وحزنا، قال أبو حذيفة: إني لأراك مترددا محزونا يا فتى، وما أعرف أن داري قد ضاقت بك أو أن أحدا من أهلها قد نالك بمكروه، فما يمنعك أن تقيم فيها كما أقمت إلى الآن، حتى يتسع لك العيش وتتصل بك أسبابه متينة مطمئنة؟
قال الفتى: لا والله يا أبا حذيفة ما أنكرتني دارك ولا أنكرتها، وما لقيت من ضيافتك إلا خيرا، ولكن لي في دارك أربا
26
قد كنت أظن أني أستطيع السلو عنه، ثم تبين لي أن ليس لي إلى هذا السلو سبيل.
قال أبو حذيفة وقد أخذه العجب: لك في هذه الدار أرب؟! وما عسى أن يكون؟
فأطرق الفتى قليلا، وغشيت وجهه سحابة رقيقة عمراء،
27
ثم رفع رأسه وكأنه قد أجمع أمره على شيء عظيم، وقال - وعلى ثغره ابتسامة فيها كثير من الجراءة، وفيها كثير من الحياء: أمتك هذه السوداء التي تسمونها سمية، قد وقع حبها في قلبي يا أبا حذيفة، ولا والله ما كانت مني إليها ريبة في نظر أو حديث.
قال أبو حذيفة: فتريد أن أهبها لك؟
Bog aan la aqoon
قال الفتى: لا والله لا أرزؤك في مالك.
28
قال أبو حذيفة: فإنك لا ترزؤني في مالي شيئا، وإنما هي أمة والإماء في الدار كثير.
قال ياسر: لا والله لا أرزؤك في مالك، وما آثرت الحلف على الجوار إلا لتخف مئونتي عليك، وما أحب أن تقول مخزوم: أقام في الدار مقام الضيف، ثم لم يتحول عنها كما أقبل عليها.
قال أبو حذيفة: فإن شئت زوجتك منها.
قال الفتى - وقد أغرق في ضحك متصل: هيهات يا أبا حذيفة!
29
أتريد أن ألد لك الإماء والعبيد؟!
قال أبو حذيفة - وقد ضرب على كتف الفتى بيده: ويلك! لقد عنيتني منذ اليوم، تزوجها وما ولدت لك من ولد فهو حر.
قال ياسر: بأبي أنت من سيد كريم! ألم أقل إنك فخر مخزوم وزينة قريش وعز البطحاء؟!
Bog aan la aqoon
قال أبو حذيفة: حسبك؛
30
فقد أسرفت في الثناء، أقبل علي إذا كان المساء فتزوج، ثم تحول بأهلك إلى دارك الجديدة، وعسى ألا ترى فيها إلا خيرا. •••
ولم يكد ياسر يتحول بسمية إلى داره حتى غفل عنه التاريخ دهرا طويلا، كما تعود أن يغفل عن الدهماء
31
حين تحيا وحين تموت وحين تلم بها الأحداث وتختلف عليها الخطوب. وماذا عسى أن يصنع التاريخ بفتى من عامة الناس ودهمائها، ليس له خطر في مكة ولا مكانة في قريش، وإنما هو غلام أجنبي حليف، يعيش كأمثاله من هذه الأخلاط التي كانت تعيش في مكة ساعية إلى رزقها أيسر السعي، تكسب القوت ما وجدت إليه سبيلا، فإن أعياها كسبه وجدت حاجتها عند أحلافها من سادة قريش. وهي مع ذلك آمنة على أنفسها وعلى ما أتيح لها من مال، لا يعدو عليها عاد ولا يسعى إليها مكروه.
وكان التاريخ في ذلك الوقت، كما كان في أكثر الأوقات، أرستقراطيا لا يحفل إلا بالسادة، ولا يلتفت إلا إلى القادة. وكان التاريخ في ذلك الوقت، كما كان في أكثر الأوقات، ضنينا
32
بخيلا ومستكبرا متعاليا، يحفل بالسادة في تحفظ ويلتفت إلى القادة في كثير من الاحتياط، لا يسجل من أمرهم إلا ما كان له شأن أو خطر. وآية ذلك أنه لم يسجل من أمر قريش في تلك العصور إلا أطرافا يسيرة ضئيلة لا تكاد تظهرنا من أمرهم على شيء؛ كأن التاريخ كان يراها أهون شأنا وأيسر خطرا من أن يمنحها عنايته، وكأنه كان يرى قياصرة الروم وأكاسرة الفرس وقادة أولئك وهؤلاء وسادتهم أحق بعنايته وأجدر برعايته وأحرى أن يقف عندهم ويبلو
33
Bog aan la aqoon
أعمالهم ويسجل أخبارهم. فأما سادة قريش وقادتها وذوو المكانة في هذه الأحياء العربية التي لا تحسن كتابا ولا حسابا، ولا تسخر الزمان والمكان لأمرها، وإنما تختلس حياتها من الزمان والمكان والأحداث والخطوب اختلاسا، فلم يكونوا أحرياء
34
أن ينظر التاريخ إليهم إلا شزرا،
35
وأن يسجل من أمرهم إلا ما فيه تفكهة للأجيال المقبلة وترويح عليها وتسلية لها عن بعض ما يشغلها من الهم، فكيف بالدهماء التي لا تملك المال ولا تصرف التجارة ولا تقوم بأمر الآلهة ولا تدبر السلطان، وإنما تتسقط حياتها تسقطا وتتلقطها تلقطا، وتعيش مما يلقي إليها الأغنياء والسراة من الفتات.
36
وكان ياسر من هذه الدهماء؛ فلم يحفل به التاريخ، ولم يلتفت إليه، ولم يصحبه في حياته الطويلة، ولم يسجل غدوه على التماس الرزق، ولا رواحه على أهله بما اكتسب منه، حتى كان يوم أكره التاريخ فيه على أن يلتفت إلى الدهماء أكثر مما يلتفت إلى السادة والقادة، وعلى أن يسجل من أمر ياسر وأمثاله من عامة الناس أكثر مما يسجل من أمر حلفائه من بني مخزوم وأمثالهم من الملأ والسادة في قريش.
في ذلك اليوم نظر التاريخ فإذا أحداث ضئيلة تحدث لا يكاد الناس يأبهون
37
لها ولا يعنون بها، ولكنها لا تكاد تحدث حتى تخفق لها القلوب وتتفتح لها العقول وتضطرب لها الضمائر، وحتى تعرف الدهماء نفسها، وتشعر بحقها، وتطمح إلى هذا الحق، وتسعى إليه جادة لا وانية
Bog aan la aqoon
38
ولا فاترة، وحتى ينكر الملأ
39
من قريش كل شيء: يرون المستضعفين في الأرض وقد سمت نفوسهم إلى أشياء لم تكن تسمو إليها، وطمعت قلوبهم في أشياء لم تكن تطمع فيها، وانطلقت ألسنتهم بأشياء لم تكن تنطلق بها، ويرون الرقيق وقد طمحوا إلى الحرية واشتاقوا إليها وهاموا بها، وجعلوا يتحدثون فيها بينهم كأنهم ليسوا أقل من سادتهم استحقاقا للحياة، ولا استئهالا
40
للكرامة، ولا ارتفاعا عما ينقص، ولا تنزها عما يشين
41
كل قد خلق جسمه من تراب، وكل يصير جسمه إلى تراب، لا تتمايز أجسامهم حين تولد، ولا تتمايز أجسامهم حين تموت، وإنما تتمايز نفوسهم وقلوبهم وضمائرهم بين ذلك، بما تقدم من الخير، وما تتجنب من الشر، وبما تتقي من الإثم، وما تصطنع من البر والمعروف. ثم يتحدثون بأن نفوسهم وقلوبهم وضمائرهم تتمايز بعد الموت بما تلقى من جزاء أعمالها؛ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، وممن يعمل مثقال ذرة شرا يره. ثم يتحدثون فيما بينهم بأن حرية الحر لا تفضله على غيره من الناس إلا إذا آمن واتقى وعمل عملا صالحا ولم يؤذ الناس بيده ولا بلسانه ولا بقلبه، وأن رق الرقيق لا يخسه
42
عن غيره من الناس ما دام يؤمن ويتقي ويحسن في القول والعمل، ويبرئ قلبه من الإثم وضميره من السوء، ويتحدثون فيما بينهم بأن الحرية والرق، والغنى والفقر، والقوة والضعف أعراض تعرض وتزول، ليس من شأنها أن تميز بعض الناس من بعض، ولا أن تسود
Bog aan la aqoon
43
بعضهم على بعض، ولا أن تحكم بعضهم في بعض. وإنما يمتاز الناس بالخير والمعروف والتقوى، ويسود الناس بالسلطان الذي لا يأتيهم من مولد ولا من ثراء، وإنما يأتيهم من رضا الناس عنهم وثقة الناس بهم وإيمان الناس لهم، ويحكم الناس بأمر يأتيهم من السماء قد فصل لهم الخير والشر، وبين لهم العرف والنكر، وميز لهم الحلال والحرام، لا بهذه التقاليد التي توارثوها عن آبائهم، ولا بهذه السنن التي حفظوها عن قديمهم.
بهذا كله كان الرقيق والمستضعفون في الأرض يتحدثون إذا لقي بعضهم بعضا أو خلا بعضهم إلى بعض. وبهذا كله جعل الرقيق والمستضعفون في الأرض يتسامعون، ثم يتداعون ثم يتواصون، وبهذا كله روع الملأ من قريش ذات يوم، فثار ثائره، وفار فائره، وأجمع أمره أن يطفئ هذه الجذوة قبل أن ينتشر لهبها فلا يبقي ولا يذر،
44
ونظر التاريخ ذات يوم إلى مكة فرأى فيها هذه الأحداث الصغار الكبار، وسمع فيها هذه الأحاديث التي كانت تهمس بها الأفواه وتصيح بها الضمائر والقلوب والنفوس. ورأى التاريخ فيما رأى ياسرا، ذلك الفتى قد تقدمت به وبزوجه السن، وقد مات حليفه أبو حذيفة، وقد رزق من سمية ثلاثة أبناء، قتل أحدهم في خطوب مجهولة، وبقي الآخران يعيشان كما كان أبوهما يعيش.
ويجب أن نسجل أن التاريخ لم يبحث عن ياسر ولا عن بنيه، وإنما أقبل ذات يوم على مكة؛ ليرى بعض ما يجري فيها من الأحداث، فلم يكد يبلغ المسجد حتى رأى أندية قريش هائجة مائجة تتحدث عن محمد وعن دعوته، وعمن تبعه من المستضعفين والرقيق، وقد تذكر دار الأرقم ابن أبي الأرقم التي اتخذها محمد لنفسه ولأصحابه ناديا ينشر منه دعوته هذه الرائعة المروعة، فتحول التاريخ عن هذه الأندية الصاخبة إلى دار ابن أبي الأرقم ليرى محمدا وأصحابه ويسمع منهم. ولم يكد يبلغ هذه الدار حتى رأى على بابها رجلين: أحدهما أسود طوال ترتفع قامته في السماء، والآخر أصهب ربعة،
45
وهما يتحاوران، يقول الأسود لصاحبه الأصهب: ما تصنع هنا؟
فيقول له الأصهب: وأنت ماذا تصنع؟
فيجيب الأسود: أريد أن أدخل على محمد؛ فأسمع منه وأعلم علمه.
Bog aan la aqoon
فيقول الأصهب: وأنا أيضا أريد ذلك. ثم يدخل الرجلان فيسمعان ويسلمان، ويعرف التاريخ أن الأسود الطوال هو عمار بن ياسر، وأن الأصهب الربعة هو صهيب بن سنان، ومنذ ذلك الوقت يذكر التاريخ ياسرا، ذاك الفتى العنسي، ويتتبع خطوات ابنه عمار.
4
أصبح ياسر ذاهلا واجما مشرد اللب، قد أنكر نفسه وأنكرته زوجه سمية؛ فقد تعود أن يفيق من نومه قبل أن تنشر الشمس ضوءها على بطحاء مكة وجبالها، فلا يريح ولا يستريح، وإنما يضطرب في الدار ذاهبا جائيا، كثير الحركة موفور النشاط، يتحدث إلى نفسه بصوت مرتفع حتى يوقظ النائمين من أهله وولده، وهم ينكرون نشاطه وحديثه في أنفسهم، وربما أنكروا حركته ونشاطه بألسنتهم، وطلبوا إليه شيئا من سكون وسكوت، فكان يعبث بهم ويسخر منهم، ويلح عليهم بحديثه وحركته، ويؤنبهم
46
مداعبا لهم حتى يصدهم عن النوم أو يصد عنهم النوم.
وكانت زوجه سمية أشد أهل الدار ضيقا بهذه الحركة وإنكارا لهذا النشاط، فلم يكن شيء أحب إليها من أن تستأخر في نومها ما وسعها ذلك، كأنها كانت تتصور ما ينتظرها في الدار من عمل ستجد فيه من الجهد ما يضنيها ويشق عليها، فكانت تحب أن ترجئ ذلك ما وجدت إلى إرجائه سبيلا. ولكن الشيخ الثرثار المكثار النشيط لم يكن يكره شيئا كما كان يكره أن يستيقظ والناس من حوله نيام، فلم يكن يستقر له قرار ولا يهدأ له بال حتى يثور أهل الدار جميعا من نومهم، ويأخذوا معه في حديثه الذي لا ينقضي، يسمعون له كثيرا ويقولون له قليلا.
وكانت أحاديث ياسر مختلفة أشد الاختلاف، تروع بغرابتها وطرافتها وإثارتها للشوق إلى الاستزادة والرغبة في الاستطلاع؛ فقد كان ياسر لا ينفك يروي غرائب الأخبار وطرائف الأحداث عن موطنه ذلك البعيد في تهامة اليمن، وعن أسفاره تلك الكثيرة في تجارة مخزوم إلى الشام حينا، وإلى العراق حينا، وإلى ما وراء الشام والعراق أحيانا.
ولم يكن أحد أعلم من ياسر بمناقب قريش ومثالبها،
47
ولم يكن أحد أشد منه تعلقا بالتحدث عن سادة قريش وقادتها، يثني عليهم، ولا يعفيهم من نقده اللاذع
Bog aan la aqoon
48
الذي كان يصادف هوى في نفوس السامعين له من أهله وبنيه. وأي شيء أحب إلى دهماء الناس من التحدث عن السادة والقادة بما يسر وما يسوء، وبما يرضي وما يسخط! وكان ياسر إذا أخذ في الحديث عن قريش أمعن فيه، واستهوى أفئدة سامعيه.
واستيقنت سمية أنه لن يخرج من الدار إلا حين يرتفع الضحى وتوشك الشمس أن تزول، ولكنه أفاق من نومه ذلك اليوم فلم يثر من مضجعه، ولم يتحرك لسانه في فمه، وإنما ظل مستلقيا مكانه لا ينشط ولا يقول، ولا يدعو غيره إلى نشاط أو قول. وأخذت سمية حظها من نوم الصباح كما لم تتعود أن تأخذه قط، ولكنها مع ذلك أنكرت هدوء هذا الذي لم يتعود هدوءا، وصمت هذا الذي لم يألف صمتا، فتقبل عليه وقد تكلف وجهها الابتسام والرضا، وأضمر قلبها العبوس والخوف، فتسأله ما خطبه؟ وهل يجد شيئا يكرهه؟ فيجيبها بصوت خافت: ليس بي بأس، ولست أجد ما أكره.
قالت سمية: فما لك لا تملأ الدار علينا ضجيجا وعجيجا؟
قال ياسر، وقد جعل صوته يمتلئ ويقوى شيئا فشيئا: ويحك يا سمية! كيف السبيل إلى إرضائك؟! إن أنشط قلت: هلا خليت بيني وبين النوم؟! وإن أسكن قلت: هلا ملأت الدار علينا ضجيجا وعجيجا؟!
49
أما إني لم أهدأ حبا في الهدوء، ولم أسكن إيثارا للسكون، وإنما رأيت رؤيا روعتني عن النشاط والقول.
قالت سمية وقد ثاب
50
الأمن إلى قلبها، وصرح وجهها الأسود المتجعد عن رضا لا تكلف فيه، قالت وهي متضاحكة: فهلا رأيت من آخر كل ليلة رؤيا تروعك وتشغلك عن النشاط والقول؟! ذلك أجدر أن يتيح لي من الراحة والدعة ما أنا في حاجة إليه.
Bog aan la aqoon
قال ياسر - وقد هم ثغره أن يبتسم ووجهه أن يشرق ولكن الروع لم يلبث أن رده إلى الجد والصرامة - قال: ويحك يا سمية! إنها رؤيا ليست كالرؤى، وما أرى إلا أن لها شأنا! فما أكثر ما عرضت لي الأحلام! وما أكثر ما انصرفت عني حين أفيق! ولكن هذه الرؤيا قد تركت في قلبي وعقلي وأمام عيني صورة ملحة لا تريد أن تريم.
51
قالت: فقص رؤياك، لعل حديثك عنها أن يريحك منها.
قال ياسر: هيهات! ثم استوى جالسا في بطء، وأخذ يقص رؤياه مستأنيا، ولم يكد يمضي في حديثه قليلا حتى روعت زوجه، وهمت أن تكفه عن الحديث لولا بقية من شجاعة وفضل من حياء.
قال ياسر: لن أقص عليك رؤيا، ولكني سأصف لك صورة رأيتها نائما وما زلت أراها يقظان: واد ليس بالمسرف في السعة ولا بالمسرف في الضيق، وإنما هو وسط بين ذلك، يأخذ جانبيه جبلان عظيمان يرقى إليهما الطرف ولكنه لا يبلغ أعلاهما، وقد تشقق الجبلان عن فجوات عميقة أراها ولا أحصيها، والنار من هذه الفجوات يسعى بعضها إلى بعض، حتى تلتقي وحتى يسيل بها الوادي كما يسيل بالماء، وفي أقصى هذا الوادي من أمامي مروج خضر تجري فيها مياه عذاب لا تبلغها هذه النار، وإنما تقف قبل أن تنتهي إليها، وأنت قائمة في هذه المروج الخضر قد رد عليك شبابك وأشرق وجهك حتى كأنه الشمس، وأنت تبتسمين لي وتدعينني باللحظ واللفظ، وتشيرين إلي بالبنان، ومن ورائي عمار يحثني على أن أقتحم النار، ويقول في صوت يشيع فيه الحنان: أقدم يا أبت، فليس عليك بأس، إنما هي لفحة أو لفحات
52
ومن ورائها هذه الرياض الخضر! وسمية قد رد عليها شبابها، وشبابك ينتظرك إلى جانبها ليرد عليك. وأنا أسمع دعاءك، فأهم أن أقتحم النار، ولكن لفحها يوقظني، ثم يضرب الشيخ جبهته بيده صائحا: ويلاه! إني لأجد مس النار.
قالت سمية، وقد أقبلت عليه مرتاعة ملتاعة: ويحك! لا بأس عليك، قم فأصب شيئا من طعام، ثم اخرج فاقصص رؤياك هذه المروعة على بعض كهاننا، لعلهم أن يجدوا لها تأويلا.
ولم يقبل المساء من ذلك اليوم حتى كانت رؤيا ياسر قد عبرت نفسها، وحتى وجد ياسر مس النار.
5
Bog aan la aqoon
أقبل ياسر يسعى إلى المسجد، حتى إذا بلغ نادي بني مخزوم ألقى التحية وجلس، ولكنه لاحظ أن وجوه القوم لم تهش له، وأن أصواتهم لم ترتفع بالسلام عليه، وإنما رد بعضهم عليه تحية فاترة، ومضى بعضهم في حديثه كأنه لم يلق إلى هذا الطارئ بالا، فأسر ياسر في نفسه بعض الموجدة،
53
ولكنه لم يطل عندها الوقوف؛ فهو يعلم أن في مخزوم صلفا
54
وأنفة وكبرياء، ولولا وفاؤه بحلفه لمكان أبي حذيفة من قلبه، لتحول عن مخزوم إلى حي آخر من أحياء قريش، ولكنه وفى لأبي حذيفة بعد موته كما وفى له أثناء حياته، ولم يكن له من هذا الوفاء بد؛ فأبو حذيفة قد حفظه بعد ضيعة، وآمنه من خوف، وزوجه سمية أحب الناس إليه وآثرهم عنده، وأعتق له ولده منها قبل أن يولدوا، ثم لم يمت حتى رد إلى سمية حريتها، فأصبحت دار ياسر دار حرية كاملة، بعد أن كانت دارا نصفها حر ونصفها رقيق.
وكان ياسر قد أقبل على نادي مخزوم وفي نفسه أن يقص عليهم رؤياه تلك التي أهمته وروعته، يطرفهم بها من جهة، ويلتمس عندهم لها تأويلا من جهة أخرى، فلما رأى منهم الفتور والإعراض أمسك لسانه في فمه، وجلس صامتا لا يقول شيئا. وكانت مخزوم قد عودت ياسرا ألا تراه في ناد من أنديتها أو دار من دورها إلا داعبته وأثارت نشاطه للحديث، ولكنها تلقته في هذا الضحى فاترة عنه تكاد تنكره، لا تسأله حديثا ولا تسوق إليه حديثا، ولولا أنه تعود أن يستأني
55
بهؤلاء المستكبرين حتى يثوبوا إليه، فيعبث بكبريائهم ويسمعهم ما لم يكونوا يحبون أن يسمعوا؛ لانصرف عنهم إلى ناد آخر من أندية قريش، ولكنه أقام صامتا مستانيا يدير في نفسه الانتقام من هذا الفتور. على أنه لم ينتظر طويلا قبل أن يساق إليه الحديث؛ فهذا عمرو بن هشام يسأله فجأة: ما أخرك اليوم عنا يا ياسر؟
قال ياسر مداعبا: فقد كنت في حاجة إلى إني
56
Bog aan la aqoon
يا أبا الحكم؟
قال عمرو بن هشام، وهو يكتم الغيظ في نفسه: أجل، كنت في حاجة إليك لأسألك عن شيء عمي
57
علي من أمرك.
قال ياسر: وما ذاك؟
قال عمرو بن هشام: ذاك أني لم أرك قط تقرب
58
إلى آلهتنا، ولم أسمعك قد تذكرها بخير.
قال ياسر متضاحكا: فهل سمعتني قط أذكر آلهتكم بسوء؟ وهل رأيتني قط آتي من الأمر ما يؤذيها؟
قال عمرو بن هشام: فهي إذن آلهتنا نحن، وليست منك ولست منها في شيء!
Bog aan la aqoon