203

Ustura Wa Turath

الأسطورة والتراث

Noocyada

108

ويبدو أن «ابن كثير» لم يعجبه أن تأخذ «النمروذ» رعدة وينتهي الأمر، أو يدق عنقه مع من دفن تحت البرج المنهار، فيورد عن «زيد بن سلمة»: «وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ملكا يأمره بالإيمان بالله فأبى عليه، ثم دعاه ثانية فأبى عليه، ثم الثالثة فأبى عليه، وقال: اجمع جموعك وأجمع جموعي. فجمع النمروذ جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس، فأرسل الله عليه ذبابا من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس، وسلطها الله عليه فأكلت لحومهم ودماءهم، وتركتهم عظاما بالية ودخلت واحدة منها في منخر الملك، فمكثت في منخره أربعمائة سنة عذبه الله تعالى بها، فكان يضرب رأسه بالمرازب في هذه المدة كلها حتى أهلكه الله.»

109

لكن «نعمة الله الجزائري» من جهته لا يستسيغ دخول البعوضة منخار «النمروذ» وبقاءها هناك، ثم استكثر أن تظل البعوضة أربعمائة سنة داخل المنخار النمروذي تستمتع بمشهياته، فقام يصلح من شأن رواية «ابن سلمة» بعض الشيء في قوله من باب آخر، عن طريق «ابن عباس» قوله: «إن الله سلط على نمروذ بعوضة فعضت شفته فأهوى إليها ليأخذها، فطارت في منخره، فذهب يستخرجها فطارت في دماغه، فعذبه الله بها أربعين ليلة ثم أهلكه.»

110

أما في الكتاب المقدس، فمن الواضح أنه ليس ثمة علاقة البتة ما بين «نمروذ» وبين برج بابل وبين النبي «إبراهيم»، وهو ما سنفصل فيه القول، لكن ما لا يجب أن يفوتنا، الإشارة إليه أن قصة برج بابل في هذا الكتاب قد حدثت في فجر الإنسانية على الأرض. أما «النمروذ» فبعد ذلك بزمن بعيد يعود إلى زمن أبناء «نوح»، ويبدو أن ثمة كاتبين لهذا الجزء من سفر التكوين، والذي يتحدث عن اختلاف لغات البشر، ويبدو أيضا أن الكاتبين لم يلتقيا ليصفيا ما بينهما من خلافات في التفاصيل، ربما لبعد الزمان بينهما، وأن الرواية تم جمعها بعد ذلك مع ما جمع من الكتاب في وقت متأخر، فالكاتب الأول يقول : «وهذه مواليد بني نوح: سام وحام ويافث ... من هؤلاء تفرقت جزائر الأمم بأراضيها، كل إنسان كلسانه حسب قبائلهم وأممهم.» وهو بذلك يرجع تفرق الألسن لزمن متأخر عن وقته بداية الخلق، إلى عهد أبناء «نوح»، ثم هو أقرب لمنطق الواقع في إرجاعه اختلاف الألسن لتفرق الأمم بين قبائل «شعوب» وجزائر «أي مواضع بيئية مختلفة».

أما الكاتب الثاني فيقول: «وكانت الأرض كلها لسانا واحدا ولغة واحدة، وحدث في ارتحالهم شرقا أنهم وجدوا بقعة في أرض شنعار وسكنوا هناك، وقال بعضهم لبعض: هلم نصنع لبنا ونشويه شيا، فكان لهم اللبن مكان الحجر، وكان لهم الحمر مكان الطين، وقالوا: هلم نبن لأنفسنا مدينة وبرجا رأسه بالسماء، ونصنع لأنفسنا اسما لئلا نبدد من على وجه الأرض، فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما، وقال الرب: هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم، وهذا ابتداؤهم بالعمل، والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه، هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض، فبددهم الرب من هناك على وجه كل الأرض، فكفوا عن بنيان المدينة؛ لذلك دعا اسمها بابل لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض» (التكوين، 11).

ويعقب الدكتور «أنيس فريحة» على أقصوصة التوراة بقوله: «ولم يفلح كاتب سفر التكوين في تعليل اسم بابل، فوضع قصة برج بابل وتبلبل الألسن، تقول القصة: إن الله خاف من تجمع الناس أمة واحدة، فقال: هلم نهبط فنبلبل هناك لغتهم حتى لا يفهم بعضهم لغة بعض، فسميت المدينة بابل، والواقع أن بابل معناها باب الله، وهذه ترجمة الاسم القديم «كاد مري»، ومعناها أيضا بوابة الله، ونحن نعلم أن الساميين الذين جاءوا بعد السومريين أخذوا عنهم الكثير في الدين والعمران، وغيروا من أسماء المدن السومرية إلى أسماء سامية عن طريق الترجمة الحرفية.»

111

هذا بينما يعقب الآثاري «صموئيل نوح كريمر» - وهو واحد من أشهر الباحثين في السومريات - على قصة التوراة بقوله: «لقد بدأت قصة تشييد برج بابل بلا ريب في محاولة لتوضيح وجود الزاقورات في بلاد ما بين النهرين.» ويقصد «كريمر» هنا أن الكاتب التوراتي عندما رأى الزاقورات المبنية ببلاد الرافدين القديمة أراد وضع تفسير لها، والزاقورات هي أبنية صاعدة لولبية أقيمت لتصل كاهن الإله بالسماء، وعلى نمطها أقيمت المآذن الإسلامية، وتكاد تكون مئذنة جامع سامراء أولى المآذن وأقربها شبها بالزاقورة السومرية، ونستكمل مع كريمر حيث يقول: «أما بالنسبة للعبرانيين فإن هذه الأبنية الشاهقة التي غالبا ما يمكن رؤيتها في حالة الخراب والدمار، أصبحت رمزا لشعور الإنسان بعدم الأمان، وما يتصل به من لهفة شديدة للحصول على السلطة، تلك اللهفة التي لا تعود عليه إلا بالذل والعذاب؛ لذلك فإنه من المستبعد جدا العثور على أية مطابقة مماثلة لهذه القصة عند السومريين، الذين كانت الزاقورة بالنسبة لهم تمثل رباطا بين السماء والأرض، أي بين الإله والإنسان.»

Bog aan la aqoon