202

Ustura Wa Turath

الأسطورة والتراث

Noocyada

106

وكان «النيسابوري» قد سبق كليهما إلى تأكيد تلك المعاني في قوله: «وكان نمروذ أول من وضع على رأسه تاجا وتجبر في الأرض ودعا الناس إلى عبادته، وكان له كهان ومنجمون، فقالوا له: إنه يولد في بلدك هذه السنة غلام يغير دين أهل الأرض، ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه، ويقال إنهم وجدوا ذلك في كتب الأنبياء ... فأمر نمروذ بذبح كل غلام يولد في تلك الناحية.»

107

لكن الله تعالى ينجي الطفل المقصود في النبوءة، حتى يتسنى له القيام بالدور المقدور، وكان هذا الغلام هو الذي اتخذه الله صديقا وخليلا، النبي «إبراهيم عليه السلام».

بعض المنطق

والمتمعن في كلام الله - ومطلوب من المؤمن أن يتمعن - يدهشه ذلك الموقف بين رجلين: أحدهما جبار يملك ما بين الخافقين، والآخر يافع تجاوزت به صبوات الروح إلى الطموح لأمر عظيم، والآيات تضع أمامنا صورة خليقة بكليهما، وهي رغم إغفالها التعريف بالملك، مع الإهمال والاستهانة «ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم؟» فإنها توضح موقف «إبراهيم» الحازم الصارم، فإن كان الملك يستند إلى وحدانيته في ملك الأرض، فإن «إبراهيم» يستند إلى يقين بوحدانية ملك الأرض والسماء، لكن منبع الغرابة هنا، هو أن يسمح الملك المنعوت بالجبار - في تراثنا - لشاب في سن «إبراهيم» عليه السلام أن يطاوله، وأن يسمح لذاته في الوقت نفسه بالتبسط معه كل هذا التبسط، مع ما ذهب إليه «إبراهيم» في المحاجة من مدى، إذ تجرأ على ذات الملك وما لها من جلال وقداسة في تلك العصور، بل وتفهمنا الآيات الكريمة بصدق التنزيل أن «إبراهيم» كان هو صاحب الكلمة من البداية إلى النهاية، فهو الذي ابتدر الملك بالسؤال المتحدي، وهو الذي أغلق الجدل، وما بين البدء والمنتهى قام بتسفيه الملك ومركزه، بعد أن صرح له «إبراهيم عليه السلام» أنه لا يعترف بسيادته لأنه إنما يدين بالولاء لملك آخر أعظم شأنا، يمكنه أن يأتي من الأعاجيب ما لا يستطيعه النمروذ، وكان طبيعيا أن يعجب «النمروذ» وهو يعلم أنه لا ملك سواه على عرش المعمورة، لكن طبيعي أيضا أن نتعجب بدورنا للنمروذ وهو يسمح بتلك المناقشة أصلا، ويفتح أبواب قصره للمتحدي، ويعطيه من الوقت والأناة والصبر ليعبر عما يريد بلاغه. وما تخبرنا به الآيات يسمح لنا بتصور ما جبل عليه الملك من طباع، وتوضح بلا لبس شكل النظام السياسي والمدى المسموح به من حريات، في ظل دولة موصوفة بالتجبر والبطش، والديكتاتورية التي تجمع السلطان الروحي مع الزمني في مركزية صارمة. ومن جانب، فإن رواية القرآن الكريم عن «النمروذ»، وعدم استنكافها الحديث عن الرجل وموقفه من الحريات، أمر - لا مشاحة - يعبر عن النزاهة المطلقة بالتنزيل المبين، ومصداقية الكلم الكريم مع الحدث وواقعه دون تزويق.

ولا يخفى أن مثل هذه المطارحة الجدلية التي سمح بها الملك النمروذ، كانت كفيلة بزلزلة الحكم الدكتاتوري من أسسه؛ لأنه انتقص البند الأول في الدكتاتورية، وهو ما حدث بالفعل - حسبما يخبرنا الإخباريون - فانهارت المملكة وتشتت أهل الأرض وانقسموا شيعا وشعوبا متنافرة، بعد الحدث الهائل وانهيار برج بابل وتبلبل الألسن بعد أن كانت لسانا واحدا وعقيدة واحدة وحكومة واحدة، كما انتهى الملك «النمروذ» نفسه نهاية مزرية ولكن بعد عذاب أليم، حتى تطيب أنفس المؤمنين، ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، لكن مشيئته قدرت غير ذلك، وما شاء قدر.

وللقصة تفاصيل، تحتاج إلى مزيد من التدقيق.

تنتشر قصة برج بابل في كتب الأخبار الإسلامية انتشارا واسعا، ولتخفيف المساحة والجرعة نقف مع «النيسابوري» وهو يوجز بشأنها القول: «إن النمروذ الجبار لما حاجه إبراهيم عليه السلام في ربه، قال: إن كان ما يقول إبراهيم حقا، فلا أنتهى حتى أعلم من في السماء؟ فبنى صرحا عظيما عاليا ببابل، ورام منه الصعود إلى السماء لينظر إلى إله إبراهيم (فيما يزعم) ... ثم عمد إلى أربعة أفراخ من النسور فعلفها اللحم والخبز حتى شبت واستفحلت، ثم قعد في تابوت ومعه غلام وقد حل قوسه ونشابه، وجعل لذلك التابوت بابا من أعلاه وبابا من أسفله، ثم ربط التابوت بأرجل النسور وعلق اللحم على عصا فوق التابوت، ثم خلى على النسور فطارت وصعدت طمعا في اللحم، حتى أبعدت في الهواء، فقال النمروذ لفتاه: افتح الباب الأعلى وانظر إلى السماء، هل قربنا منها، ففتح الباب ونظر فإذا السماء كهيئتها، ثم قال: افتح الباب الأسفل فانظر إلى الأرض كيف تراها، ففتح فقال: أرى الأرض مثل اللحية البيضاء والجبال كالدخان، وطارت النسور وارتفعت حتى الريح بينها وبين الطيران، فقال لغلامه: افتح البابين، ففتح الأعلى فإذا السماء كهيئتها، وفتح الباب الأسفل فإذا الأرض سوداء مظلمة، ونودي: أيها الطاغي الباغي أين تريد؟ قال عكرمة: فأمر عند ذلك غلامه فرمى بسهم فعاد إليه السهم ملطخا بالدم فقال: كفيت شغل إله السماء، واختلفوا في ذلك السهم من أي شيء تلطخ؟ فقال عكرمة: من سمكة في بحر معلق في الهواء بين السماء والأرض، قربت نفسها إلى الله تعالى وقال بعضهم: أصاب السهم طائرا من الطير فتلطخ بدمه، ثم أمر النمروذ غلامه أن يصوب العصا وينكس اللحم، ففعل ذلك، فهبطت النسور بالتابوت، فسمعت الجبال خفق التابوت والنسور ففزعت، وظنت أنه أمر حدث في السماء، وأن الساعة قامت، فذلك قوله تعالى:

وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال (إبراهيم: 46) ... ثم إن الله تعالى أرسل ريحا على صرح النمروذ فألقت برأسه في البحر، فخر عليهم الباقي وانقلبت بيوتهم، وأخذت النمروذ، رعدة، وتبلبلت ألسن الناس حين سقط صرح النمروذ من الفزع، فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانا؛ فلذلك سميت بابل لتبلبل الألسن فيها».

Bog aan la aqoon